* إبراهام لنكولن,' إني لا أفقه كثيرا بشأن التعريفة الجمركية, لكنني علي بينة من أننا حينما نقتني بضائع من الخارج, فإننا سنحصل علي البضائع, وأن الأجنبي سيحصل علي النقود. لكننا إذا اقتنينا بضائع وطنية فإننا سنحصل علي البضائع والنقود'. * بلغت التعريفة الجمركية علي السلع الموردة إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية في المتوسط50%, وعلي الصلب والحديد والصناعات القطنية والصوفية ما يزيد علي ذلك بكثير * الزراعة, تشكل واحدا من أكثر المناطق تشوها في عالم التجارة الحرة. * السلع الزراعية الرئيسية لا يجوز التعامل معها وكأنها سلع تجارية خاضعة لقواعد المنافسة. * لا يجوز لأي حكومة أن تسمح للإمداد الوطني من الغذاء بالاعتماد علي التقلبات المفترضة التي يتسم بها الإنتاج الأجنبي. * المعونات التي يقدمها الغرب مصممة تصميما يجعل منها دعما ماليا يتدفق بلا انقطاع لمصلحة الطلائع المهيمنة علي السلطة والجهاز البيروقراطي. * القانون الأمريكي' لا يجوز التعيين تبعا لأي اختبار أو مؤهلات سياسية أو اعطائها أي اعتبار بل يجب عمل ومنح جميع هذه التعيينات والترقيات علي أساس الكفاءة والجدارة'. * تعتمد الصين بشكل هائل علي تصدير السلع التامة الصنع اكتسبت الهند سمعتها كدولة مصدرة للخدمات الحديثة ------------------------- مرت مصر منذ أربعين عاما بتحولات اجتماعية جذرية. فقد أمسي هم السياسة الاقتصادية يتركز في المقام الأول علي تقليص دور الدولة وتخليها عن توجيه الاقتصاد الوطني وعلي خصخصة مشاريع القطاع العام. وحاولت الحكومات المتعاقبة سحب البساط من تحت أقدام النقابات العمالية وعلي الحد من حق العمال بالإضراب عن العمل. وعلي صعيد آخر, تفاقمت البطالة, وازدادت اللامساواة في توزيع الدخل القومي والثروة الوطنية وتدهورت الأوضاع المالية. والشيء اللافت للنظر أن بعض' الخبراء' يطالبون السياسة بالسير قدما في تطبيق المنهج الليبرالي المحدث, حتي بعدما بان للعيان إخفاقه الكامل في حل مشاكل المجتمع. وظهر واضحا أن كل الحلول القادرة علي حل المعضلات الاجتماعية تصطدم بعقبة كبري اسمها, السوق الحرة. وأمسي المخالفون في الآراء مجرد خوارج حتي لو كانوا متسلحين بالمنهج العلمي ويملكون كل مفاتيح التقدم والازدهار. ومن ثم ما كان للسياسة خيار آخر غير تلبية مطالب السوق الحرة والعمل علي تحقيقها شيئا فشيئا. حتي وأن بعض المعارضين لتلك السياسات كانوا علي ثقة تامة بأن عدم مجاراة المسار العام دليل علي نقص في فهم الأمور الاقتصادية. فالدولة وقعت في فخ لم تعد قادرة علي التخلص منه بسبب النهج الذي اختارته فتوهمت أن اقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي خير طريق لتحقيق النمو ورفاهية الشعب. فمن ناحية صار لزاما عليها أن تراعي متطلبات جذب الاستثمار الأجنبي من خلال تقديم الهياكل التحتية المغرية وتقديم تنازلات واعفاءات ضريبية متزايدة ومنح المساعدات المالية لأصحاب الثروة علي أمل إغرائهم بالاستثمار, وكانت علي علم أكيد بأن هذه الاستثمارات المحتملة لن تحقق لها مردودا ماليا يذكر. ولقد ضحت الدولة بالكثير مما حققت من مكاسب اجتماعية, أملا في أن يساعدها هذا علي تحقيق الخفض المنشود لمعدلات البطالة, إلا أن واقع الحال يشهد أنها كانت تركض وراء سراب لا نفع منه. فنهج الانفتاح الذي انتهجته من خلال السياسات الليبرالية المحدثة زادت من وطأة المشكلة. وعلي صعيد آخر, كان المسئولون عن إدارة المشاريع والشركات مجبرين علي التحرك في إطار هذا النظام علي مطالبة المسئولين عن إدارة السياسة الاقتصادية بضرورة اتخاذ القرارات التي يمليها النظام الليبرالي. ولا يجوز للمرء أن يستغرب من هذه المطالب. فبلا هذه' الإصلاحات' لن يكون الاقتصاد الوطني قادرا علي الصمود أمام المنافسة في السوق العالمية. اليوم يحاول البعض أن يدشن لمصر نموذجها الخاص في التنمية. فلماذا لا يكون لمصر نموذجها الخاص في التنمية كما فعلت اليابان وكوريا وماليزيا وغيرهم كثير, رغم أن مصر تملك الكثير من عناصر هذا النموذج الآن داخليا وخارجيا. فمصر خبرت التجربة الاشتراكية وتجربة اقتصاد السوق, الذي كان أكثر انفتاحا من الذين ابتدعوه, وبعدما وعت جيدا حقائق ما تخفيه التقارير الدولية التي تصدر تباعا عن الاقتصاد المصري التي كانت تصب في خدمة الفاعلين الدوليين وتشجع صناع القرار علي المضي قدما في السير في اتجاه معين. فلماذا لا نعيد قراءة تجارب الدول الصناعية في اختيار النهج الذي أدي بها إلي تحقيق نهضتها بدلا من الاستماع المستمر لنصائح الصندوق والبنك الدولي. لقد عشنا لفترة طويلة من تاريخنا المعاصر نعتمد في مواقع المسئولية علي أهل الثقة والانتماء الحزبي, وكانت الأخطاء تغتفر مادام مرتكب هذه الأخطاء من أهل الثقة. اليوم مصر في أشد الحاجة إلي أهل الخبرة, حيث إن الأهداف يجب أن تكون مرتبطة بالواقع وبمستقبل له طموحه وآماله ونسعي إليه جميعا. ولا يمكن أن تتحقق الأهداف إلا بسياسات غير تقليدية مستمدة من فكر غير تقليدي. ومن طبيعة أهل الخبرة الإبداع.وإذا كان هناك نقص في الخبرات فيمكن الاستعانة ببعض الخبراء الاقتصاديين المشهود لهم بالكفاءة من الخارج. وقد نهجنا هذا النهج عند وضع أول خطة لبلدنا وأشاد بها الجميع, فاللجنة المكلفة بوضع تلك الخطة اختارت أستاذين عالميين لكي يشاركا مع الخبراء المصريين في إعداد الخطة هم البروفيسور أيان تنبيرجن والبرفسور راجنر فرش اللذان حصلا فيما بعد علي أرفع الجوائز العلمية, وهي جائزة نوبل في الاقتصاد وكانا وقتها علمين من أعلام التخطيط بل علي يديهما نشأ علم التخطيط الاقتصادي. لكن عندما دخلت الأطماع الشخصية إلي صدور البعض بدأ التلاعب في مجريات الخطة مما حدا بصانع القرار لإنشاء بنك الاستثمار القومي جاء لمعالجة سلبيات تقارير وزارة التخطيط حيث دأبت الوزارة علي نشر تقارير عن تنفيذ الخطة تخالف الحقيقة مما كان يعطي صورة وردية عن تنفيذ الخطة لا وجود لها في الواقع. اليوم أيقنت مصر بأن النصائح التي أسداها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لم تصب في مصلحتهم, حيث ارتبطت تلك النصائح بالمشروطية عند إعادة جدولة الديون وكانت الباب الرئيسي لدخول الفساد الكبير, ولعل النصائح التي قدمت للنمور الآسيوية في أعقاب الأزمة الآسيوية في عام1997 تختلف كلية عن النصائح التي قدمتها تلك المؤسستان إلي الولاياتالمتحدة في خضم أزمتها المالية الأخيرة. ففي عام1997, ألقي صندوق النقد الدولي والخزينة الأمريكية بلائمة الأزمة علي نقص الشفافية في أسواق المال العالمية. ولكن عندما وجهت الدول النامية أصابع الاتهام نحو حسابات المصارف السرية وعمليات التمويل المشروطة, خفتت حماسة صندوق النقد الدولي وأمريكا في الدعوة إلي شفافية أكبر. وقيل لدول شرق آسيا أثناء أزمتها أن ترفع سعر الفائدة الأمر الذي أدي إلي تخلف عدد هائل من المقترضين عن سداد ديونهم, لكن في الأزمة المالية الأخيرة بادر البنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي بتخفيض أسعار الفائدة. وأهم درسين يمكن أن نتعلمهما من الأزمة كانا عصيين علي الاستيعاب, أولهما: يتمحور حول الاعتراف بخطورة تحرير أسواق رءوس الأموال, المتمثل بانفتاح الأسواق المالية في البلدان النامية الأمر الذي سيترجم إلي أموال' ساخنة' قصيرة الأمد. ولم تكن مصادفة أن الهندوالصين كانتا الدولتين الوحيدتين من الدول النامية الكبري اللتين استطاعتا تجنب الأزمة, إذ قاومت كلتا الدولتين تحرير أسواق رءوس الأموال لديهما. فشلت حتي الاقتصادات الرأسمالية الرائدة في تثمين المنافع العامة مثل الهواء النظيف والمياه بشكل فعال. وأنتجت الليبرالية المحدثة مستويات غير عادية من التفاوت وعدم المساواة. وفشلت في تلبية العديد من المتطلبات الأساسية اللازمة لجعل آلية الأسعار قادرة علي إنتاج الكفاءة الاقتصادية, بداية بالصعوبة التي يجدها المستهلكون في تقييم جودة العلاج الذي يتلقونه. كما أنها تقلل إلي حد كبير من قيمة رفاهية الأجيال التي لم تولد بعد. ولم تحفز أي واحدة من النتائج السلبية صندوق النقد الدولي والبنك العالمي علي تغيير سياساتهما. لقد رسم جوزيف ستيجليس الاقتصادي الحائز جائزة نوبل وكبير المستشارين الاقتصاديين في البنك العالمي سابقا, في مؤلفه الموسوم' ظلال العولمة' صورة دقيقة للهيمنة المتزايدة التي تتمتع بها مصالح رأس المال في عالم اليوم, فقد كتب قائلا' إن الهدف من مليارات الدولارات التي يقدمها صندوق النقد الدولي هو دعم سعر الصرف لفترة قصيرة, وتمكينه من المحافظة علي مستوي لا يمكن المحافظة عليه في الأمد الطويل, وفي هذه الأثناء سيكون في وسع الأجانب والأغنياء أن يهربوا بأموالهم- مستخدمين أسواق المال التي جري تحريرها من القيود الحكومية بفعل الضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي علي بلدان العالم- إلي خارج البلد بشروط تناسب تطلعاتهم... بهذا النحو تتحول, عمليا, ديون القطاع الخاص إلي ديون حكومية'. وقد أشرنا في مقالات سابقة إلي كثير من اساتذة الاقتصاد والحاصلين علي جوائز نوبل بضرورة أن يكون لكل دولة نموذجها الخاص بها في التنمية واستعرضنا في هذا الشأن تقرير سبنس الذي عرف فيما بعد ب'توافق واشنطن الجديد' الذي يعكس تحولا فكريا أعرض اتساعا في صناعة التنمية, فإجماع واشنطن القديم الذي يتلخص في القائمة المشينة التي اشتملت علي أوامر ونواه يتعين علي صناع القرار في الدول النامية الالتزام بها, قد انحل إلي حد كبير. فهو يفترض قدرا عظيما من القدرات غير المستغلة في الدول الفقيرة, وهذا يعني أن أبسط التغييرات قادرة علي إحداث اختلافات ضخمة. وبدلا من اعتماد أسلوب الإصلاح الشامل فهو يؤكد علي التجريب والمبادرات التي تستهدف مجالات محدودة نسبيا سعيا إلي التوصل إلي الحلول المحلية. فقد تجاهل التقرير التأكيدات الواثقة القديمة علي مزايا وفضائل التحرير, وإلغاء التنظيمات, والخصخصة, والأسواق الحرة. كما تجاهل التوصيات الثابتة القديمة التي لم تنتبه إلي الفوارق القائمة بين البيئات الاقتصادية المختلفة. والحقيقة أن الفضل يرجع إلي سبنس في نجاح التقرير في تجنب أصولية السوق والأصولية المؤسسية. يؤكد التقرير أن كل دولة يتعين عليها أن تبتكر المجموعة التي تناسبها من العلاجات. وأن الدولة هي فقط القادرة علي تقديم الوصفات العلاجية المناسبة لمشاكلها. فإن هذا الإجماع في حد ذاته يشكل تقدما حقيقيا. ويسخر ستيجليتز من النظرية التي ينطلق منها صندوق النقد الدولي لأسباب أيديولوجية وليس لانسجامها مع الشروط السائدة في البلدان المعنية, فيقول' لو كان المرء قد لقن ببغاء بترديد مصطلحات من قبيل ضبط عجز الموازنة والخصخصة وانفتاح الأسواق, لما كان هذا المرء في حاجة إلي طلب النصح من صندوق النقد الدولي في الثمانينيات والتسعينيات. فهذه الإجراءات كانت بمنزلة الأركان الثلاثة التي أقام عليها المسؤولون نصائحهم المستقاة من اتفاق واشنطن..'. ومهما كانت الحال, فالأمر البين هو أن النتائج كانت دون الطموحات بكثير... فعند إمعان النظر يتبين بجلاء أن تحرير الأسواق وانفتاحها علي السوق العالمية قد خلقا مشاكل لا يستهان بها'. ولعل تجربة كل من الصينوالهند توضح كيف اختارت كل دولها طريقها الصحيح, ففي حين تعتمد الصين بشكل هائل علي تصدير السلع التامة الصنع اكتسبت الهند سمعتها كدولة مصدرة للخدمات الحديثة, والواقع أن الهند تجاوزت مرحلة التصنيع, فانتقلت من الزراعة إلي الخدمات مباشرة. فالاختلاف بين نماذج النمو في البلدين مذهلة. فنمط النمو في الهند يتناقض مع قانون راسخ يحكم التنمية, ولقد أثبت ذلك القانون صدقه طيلة قرنين من الزمان تقريبا أو منذ بداية الثورة الصناعية. فطبقا لهذا القانون, فإن التصنيع يشكل السبيل الوحيد إلي التنمية الاقتصادية السريعة في البلدان النامية. ففي الهند لم ينجح قطاع الخدمات في دفع النمو الاقتصادي الإجمالي فحسب بل إن قطاع الخدمات يتميز بارتفاع إنتاجية العمالة مقارنة بالقطاع الصناعي. ومن ثم فإن فرصة كل بلدان العالم في التنمية استنادا إلي الميزة النسبية التي تتمتع بها تتوسع أيضا وقد تكون هذه الميزة النسبية في التصنيع أو في الخدمات أو في الزراعة. صحيح أننا نعيش في عصر ما بعد الصناعة, حيث أصبحت تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والخدمات ذات القيمة العالية بمثابة المحركات للنمو الاقتصادي. ولكننا تجاهلنا عمدا صحة الصناعات التحويلية وانسقنا إلي الدعوات التي روجها الغرب لنا في الخدمات وتكنولوجيا المعلومات. فمن المؤسف أن العديد من التكنولوجيات الجديدة ونماذج العمل التجاري تعمل علي صنع المال للمستثمرين من دون أن تخلق فرص عمل جديدة للعمال. والصناعات التحويلية قادرة علي استيعاب أعداد كبيرة من العاملين من ذوي المهارات المعتدلة, وتزويدهم بوظائف ثابتة وفوائد جيدة. لذا فإن الصناعات التحويلية تظل بالنسبة لنا تشكل مصدرا قويا لتشغيل العمالة بأجور مرتفعة. كما أن قطاع الصناعات التحويلية يساعد أيضا في تشكيل ونمو الطبقات المتوسطة في مختلف أنحاء العالم. وهي في النهاية تشكل أهمية مركزية في دعم حيوية الديمقراطية في أي دولة. وفي الواقع, يمكن اسخلاص ثلاثة ظواهر عند قراءة التاريخ الاقتصادي في مراحله المختلفة وخاصة في الأزمة المالية الأخيرة, حيث تؤكد الظاهرة الأولي علي أن ما هو صالح لاقتصاد معين وفي فترة محددة, يمكن أن يكون كارثة بالنسبة إلي الاقتصاديات الأخري, بل يمكن أن يكون سما قاتلا. والثانية, إن أسواق السلع ورأس المال المنفتحة علي العالم تنقل موجات الصدمات إلي كل الدول بنحو عفوي. والثالثة أنه في كل الحالات التي أوشك فيها المرء علي تحقيق أبعد مدي ممكن في تحرير التجارة الخارجية, كانت الخاتمة كارثة اقتصادية. ومع أن النموذج الليبرالي المحدث, المتميز بتحريره السوق من كل القيود والقواعد, قد أخذ يتعري علي حقيقته ويظهر أمام بلدان متزايدة العدد علي أنه' اقتصاد غير مجد', وعلي الرغم من أن البلد الأم لليبرالية المحدثة, أعني الولاياتالمتحدةالأمريكية' قد أخذ يطبق بنحو متزايد إجراءات حمائية يراد منها تحقيق توجيه جزئي( أي انتقائي)' للسوق العالمية, فلايزال جوقة هذا النموذج يرفعون سيوفهم محذرين صانع القرار من أي قرار يتخذه للحد من هيمنة هذا النموذج. لقد دمرت حرية التجارة العالمية الصناعة في هذه البلدان وحولتها, من ثم, إلي أفقر دول العالم. وليس هذا بجديد فقد لجأت الولاياتالمتحدة إلي الحد من حرية التجارة مرات عدة. فلحماية الصناعة الأمريكية الفتية, فرضت الولاياتالمتحدةالأمريكية, حتي العقود الأخيرة من القرن العشرين, ضرائب جمركية, وظلت الولاياتالمتحدةالأمريكية تفرض هذه الضرائب علي السلع المستوردة حتي بعدما تطورت الصناعة الأمريكية وغدت ذات قدرة تنافسية كبيرة, ولعل الضرائب التي فرضتها عام2002 علي الصلب والحديد خير مثال علي هذه الحقيقة. أضف إلي هذا أن الضرائب الجمركية قد كانت بمنزلة المصدر المالي الرئيسي لتمويل مشاريع عامة من قبيل المواني وطرق النقل السريع. فقد زاد الرئيس الأمريكي روزفلت المعدل الضريبي المفروض علي أعلي شرائح الدخل إلي79%, وفرض, في الوقت ذاته, ضريبة علي الإرث. وكان فشل النظرية الليبرالية في التعامل مع أزمة الثلاثينيات قد ساهم في إقناع المواطنين بضرورة تأييد هذه السياسة الضريبية. ونحن لا نخرج علي الحياد أبدا إذا قلنا إن تطور الولاياتالمتحدةالأمريكية من دولة نامية إلي أكبر أمة صناعية في العالم كان برهانا ساطعا علي نجاح سياسة الحماية التجارية. من هنا, فإنه لأمر يدعو إلي العجب فعلا أن تعاق الدول النامية, منذ عقود كثيرة من الزمن, عن منح صناعتها الفتية الحماية التي هي بأمس الحاجة لها. إن هذا الضغط الليبرالي المحدث ساهم بنحو كبير في تفاقم المأساة المخيمة علي الدول النامية. وحينما اندلعت الثورة الصناعية الثانية في بريطانيا, كانت هناك بلدان أخري, وعلي وجه الخصوص الولاياتالمتحدةالأمريكية, قد عقدت العزم علي تصنيع نفسها. وعلي الرغم من كل ما ساقته نظرية ريكاردو من منافع تنطوي عليها التجارة الدولية الحرة, فقد سعت الاقتصاديات, التي أخذت تصنع نفسها, إلي وضع الحدود الفاصلة بينها وبين الاقتصاد البريطاني بغية ترسيخ أقدام صناعتها الفتية وحمايتها من منافسة السلع البريطانية. وفي وقت مبكر, في عام1791, قدم ألكسندر هيلتون أول وزير للماليةالأمريكية في إدارة الرئيس جورج واشنطن,' تقريرا حول وضع الصناعة' تناول فيه أهمية الصناعة بالنسبة إلي ثروة الأمة والإيرادات الحكومية وتشغيل الأيدي العاملة والأمن الوطني مؤكدا أن الصناعة الأمريكية الفتية لن تستطيع اللحاق بالمستوي الذي بلغته الصناعة البريطانية أبدا ما لم تجر حمايتها, وما لم تمنح الدعم المالي في مراحل النمو الأولي علي أدني تقدير. وربما عبر إبراهام لنكولن, الرئيس السادس عشر للولايات المتحدةالأمريكية(861 ا-1865), عن الأهمية الكبيرة التي حظيت بها الضريبة الجمركية في السياسة الاقتصادية الأمريكية, حينما قال بأسلوبه الشعبي.' إني لا أفقه كثيرا بشأن التعريفة الجمركية, لكنني علي بينة من أننا حينما نقتني بضائع من الخارج, فإننا سنحصل علي البضائع, وأن الأجنبي سيحصل علي النقود. لكننا إذا اقتنينا بضائع وطنية فإننا سنحصل علي البضائع والنقود'. إلا أن الرئيس الأمريكي في الفترة الواقعة بين عامي1869-1877, قد عبر علي نحو دقيق عما كان يدور في خاطر البلدان الراغبة في اللحاق بعملية التصنيع البريطانية حينما قال:' لقد طبقت إنجلترا علي مدي قرون عديدة الحماية, لقد طبقتها تطبيقا غاية في التطرف, فحققت من خلال ذلك ما كانت ترجوه من نتائج. وهكذا دأبت الحكومات الأمريكية علي حماية الصناعة الوطنية ومنحها ما تحتاج إليه من دعم مالي علي نحو متزايد. وبلغ هذا النهج أوجه عام1913, حيث بلغت التعريفة الجمركية علي السلع الموردة إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية في المتوسط50%, وعلي الصلب والحديد والصناعات القطنية والصوفية ما يزيد علي ذلك بكثير). وليس ثمة شك في أن نظام الحماية هذا قد حباها بما تتمتع به من قوة في الوقت الحاضر. وبعد مائتي عام لاحظت إنجلترا أن مصلحتها تقتضي تحرير التجارة, وذلك لأنها لمست أن الحماية لم تعد في مصلحتها. والذين يتشدقون ليل نهار بالتجارة الحرة ويطالبون برفع الحواجز أمامها ينسون أن الغرب هو الذي يقف موقف العداء للتجارة الحرة التي تضر مصالح شعبه. ويبدو أن قضية حماية المزارعين في الدول الغنية قد قتلت جولة الدوحة بل ربما قتلت معها نظام التجارة التعددي بالكامل. فالزراعة كانت تفرض دوما أعظم التحديات التي تواجه مبدأ التجارة الحرة ووعدها بتمكين الفقراء, وذلك لأنها تشكل واحدا من أكثر المناطق تشوها في عالم التجارة الحرة. وتنفق دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سنويا ما يزيد علي أربعة أمثال ميزانياتها الرسمية الخاصة بمساعدات التنمية, علي دعم المزارعين المحليين. والمزعج في الأمر أن الزراعة تشكل جزءا ضئيلا ومضمحلا من اقتصاد دول' نادي الأثرياء', وكلما كانت تلك الدول أكثر ثراء وأضخم حجما, كلما تضاءلت أهمية الزراعة وتضخم حجم الموارد المهدرة علي الرفاهية الاجتماعية في المناطق الريفية. ويأتي التحدي الأساسي من المزايا التي تتمتع بها الزراعة, والتي تؤدي إلي عزل القطاع الريفي عن قوي السوق العالمية, بل وتعمل علي تحويل أكثر الساسة ثقافة وليبرالية إلي مدافعين عنها. الميزة الأولي أن الزراعة تتسم بالتركز الجغرافي, وأن المزارعين يصوتون علي السياسات الزراعية في المقام الأول, الأمر الذي يعزز من قوة أصواتهم وهو الأمر الذي نادرا ما يهتم به المستهلكون في المناطق الحضرية. والأمر الثاني أن مؤيدي الحماية نجحوا في تقديم حجج تتمتع بشعبية كبيرة, ولو أنها محل شك من عدة جوانب منطقية. ومفاد هذه الحجج أن السلع الزراعية الرئيسية لا يجوز التعامل معها وكأنها سلع تجارية خاضعة لقواعد المنافسة. وفي هذا السياق, يتم تصوير المزارعين المحليين كعامل لا غني عنه في الدفاع عن النسيج الاجتماعي والقيم التقليدية. فضلا عن ذلك, فإن الزراعة تصور باعتبارها نظيرا للقطاع العسكري في الأهمية. علي هذا, وكما لا يجوز تكليف جهات أجنبية غير جديرة بالثقة بحماية الأمن القومي, فلا يجوز لأي حكومة أن تسمح للإمداد الوطني من الغذاء بالاعتماد علي التقلبات المفترضة التي يتسم بها الإنتاج الأجنبي. أليس من مصلحتنا أن نرسم طريقنا مقتدين بكل هذه التجارب في الداخل والخارج, ألم تكن ثورات الربيع العربي رد فعل عما وصلنا إليه. أليس حالات الفشل واضحة أمامنا. إن الفشل غالبا ما يكون خير الواعظين. فالخطأ المرتكب يبين بجلاء أن المرء كان قد انتهج الطريق الزائف, أي أن الفشل' يختبر' مدي صحة النظرية التي انطلق منها المرء, أو صحة الفرضيات التي انطلقت منها هذه النظرية بشأن حقائق الأمور. وعلي خلفية هذه الحقيقة, علينا أن نرسم نموذجنا مدركين أننا بحاجة إلي قواعد مختلفة لتنظيم السوق.قاطعين الطريق علي تكرار نماذج الماضي ووقف الأخذ بروشتات الصندوق والوقوف بحسم أمام المعونات التي ساهمت في الوصول إلي المأزق الحالي. فالمعونات التي تقدمها حكومات الدول الغنية مصممة تصميما يجعل منها دعما ماليا يتدفق بلا انقطاع لمصلحة الطلائع المهيمنة علي السلطة والجهاز البيروقراطي. ففي النظم الاستبدادية, وفي الدول الأفريقية القائمة علي الروح القبلية علي وجه الخصوص, فإن الأموال التي تتبرع بها حكومات الدول الغنية إلي الحكومات الأخري تتوزع علي القبيلة القريبة من السلطة أولا وأخيرا. ولعل من مسلمات الأمور أن لعدم المساواة في توزيع هذه المعونات المالية آثار وخيمة جدا علي مصير هذه البلدان فعدم المساواة في التوزيع تسبب في اندلاع الكثير من الحروب الأهلية. ففي الصومال, علي سبيل المثال, كانت قبيلة الرئيس السابق زياد بري قد سلبت البلاد خيراتها طيلة مدة حكمه, ولم تكف عن ذلك إلا بعد أن أعلنت التمرد عليها قبيلة أخري. وكذلك الأمر في بوروندي, فهناك أيضا استولت قبيلة واحدة, قبيلة التوتسي علي المعونات الأجنبية, فحجبتها كلية عن السكان الريفيين عامة وعن قبيلة الهوتو علي وجه الخصوص. وليس ثمة مجال للشك في أنه كان لهذا النمط في توزيع المعونات الأجنبية دور لا يستهان به في اندلاع الحرب الدامية بين القبيلتين. إن قائمة هذه المساوئ طويلة لا نهاية لها فعلا. يل تتجسد خطورة السوق أكثر في تقليص هامش الديمقراطية وتتجسد الفكرة الأساسية للديموقراطية من خلال مقولة توجد في معظم الدساتير مفادها أن:' الشعب هو مصدر السلطات'. ولكن, وماذا لم يعد للدولة سلطان علي اتخاذ القرارات المهمة بالنسبة إلي حياة المواطن, فلن يكون الشعب هو مصدر السلطات بأي حال من الأحوال. فحينما تخضع الدول إلي السوق بالنحو الذي بيناه, تتقوض الديموقراطية ولا يعود لها وجود. وتأسيسا علي هذه الحقيقة, فإن الليبرالية المحدثة, المطلة علينا من خلال العولمة, ليست هجوما كاسحا علي دولة التكافل الاجتماعي فحسب, بل هي هجوم كاسح علي الديموقراطية أيضا.فكثير من الثوابت سقطت مع الأخذ بنظام السوق وجعله الدستور الأساسي فالحرب الاستباقية التي انتهجتها الولاياتالمتحدة منذ حادث11 سبتمبر قوض بشكل تام المبدأ الذي تقوم عليه دولة القانون الليبرالية. فلماذا لا ننتهج ذات الاستراتيجية التي طبقتها الولاياتالمتحدةالأمريكية وألمانيا في القرن التاسع عشر, حين انتهجت الدولتان السياسة الضرورية لحماية قطاعهما الصناعي الناشئ من مغبة المنافسة البريطانية غير المتكافئة. فالبلدان ما كان لهما أن يطورا القطاع الصناعي لو لم يفرضا حماية فعالة تقي الصناعة الوليدة من مغبة المنافسة غير المتكافئة. فخبراء اقتصاديون, من قبيل الاقتصادي الأمريكي, الحائز علي جائزة نوبل وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي سابقا, جوزيف ستيجليتز, انطلقوا من الوقائع والمعطيات المرصودة إحصائيا وأبانوا عن مواطن الضعف الكامنة في السوق الحرة وعن النتائج المدمرة التي أفرزتها السياسة الليبرالية في الاقتصاد العالمي عامة وفي الدول النامية علي وجه الخصوص. كذلك لابد أن نذهب إلي أكثر من ذلك في البحث عن نجاح المشروعات الاقتصادية في أمريكا حيث يوجد هناك في الكونجرس الأمريكي القول بوجوب إبعاد السياسة عن المشروعات الاقتصادية و المشروعات الاقتصادية لا يجب البت فيها سياسيا أو عن طريق الهيئات السياسية مثلا وادي تنيسي فنجاح المشروعات في امريكا نتيجة ابعاد إدارة المشروع عن الحزبية ولا يجب خلط الصناعة بالحزبية وسلطة تعيين جميع موظفي إدارة مشروع ما بعيدا عن الاعتبارات السياسية وجاء التشريع كالآتي' لا يجوز التعيين تبعا لأي اختبار أو مؤهلات سياسية أو اعطائها أي اعتبار بل يجب عمل ومنح جميع هذه التعيينات والترقيات علي أساس الكفاءة والجدارة. وأي اختراق لهذا النص سوف يعرض عضو مجلس الإدارة للعزل بواسطة رئيس الجمهورية أو أي موظف للفصل بواسطة مجلس إدارة المشروع. فالموظف الذي يدين بتعيينه إلي حزبيته لا يمكن أن يقصر وفاءه علي مصالح المهمة وأغراضها العامة فقط, وبذلك يتلقح المشروع بأكمله بالآراء النصف فنية والنصف سياسية وينهار الأساس الذي تقف عليه إدارة المشروع وتتضاءل ثقة الجمهور في نزاهتها. فما دخلت الحزبية يوما علي مشروع مبني علي الكفاءات الخبيرة إلا وتخلخل بناؤه وأصبح غير مأمون.