لم يكن مفاجئا اعلان الحكومة الاسبوع الماضى عزمها طرح اصول عامة للبيع بقيمة 10 مليارات دولار فى الاسواق الدولية فقد سبق ان أشار اكثر من مسئول للامر خلال الفترة الماضية، ولكن المفاجأة تكمن فى ان الاصول المطروحة لم تتضمن أيا من الشركات التابعة لقطاع الاعمال العام حيث سيتركز الطرح على حصص فى رأسمال بعض البنوك وشركات البترول وفق ما أعلنت داليا خورشيد وزيرة الاستثمار، وهذه مؤسسات رابحة ومستقرة ولا تعانى من مشكلات مالية وادارية من النوع الذى تواجهه غالبية الشركات العامة التى هى الان فى نطاق وزارة قطاع الاعمال وتكبد الخزانة العامة اموالا طائلة بسبب تشوهات مالية وادارية معروفة. المفاجأة الاكبر تكمن فى ان اتخاذ القرار، الذى يعد استئنافا لبرنامج الخصخصة، لم يسبقه اعلان يتضمن القواعد الجديدة والاهداف المبتغاة من خصخصة هذه الاصول بما يكفل تجنب الاخطاء التى وقعنا فيها خلال مراحل تنفيذ برنامج الخصخصة الواسع الذى بدأ فى عام 1992 واستمر حتى عشية ثورة يناير . وقد كان متوقعا ان تستجيب الحكومة لمطالب الخبراء الاقتصاديين وكذلك السياسيين ان يسبق استئناف برنامج الخصخصة اعداد دراسة وافية لتقييم عمليات الخصخصة السابقة والاثر الاقتصادى الذى احدثه نقل الاصول العامة للقطاع الخاص وتأكيد ان الاخطاء التى وقعت خلال التجربة الاولى لن تتكرر من خلال وضع ضوابط ومعايير تكفل تعظيم العائد من خصخصة هذه الاصول وهو الهدف النهائى من سياسات الخصخصة التى اجتاحت العالم منذ الثمانينيات وحققت نتائج مبهرة فى العديد من الدول بدءا من بريطانيا وألمانيا وصولا الى اندونيسيا والهند. نتائج البرنامج المصرى جاءت متواضعة بعد خصخصة نحو 116 شركة اضافة الى التخلص من حصص المال العام فى عدد غير محدد من البنوك والشركات على مدار 18 عاما. الشركات التى جرت خصخصتها يمتد نشاطها بين البنوك والاتصالات مرورا بشركات صناعية فى مجالت متعددة ووصولا الى شركات التجارة التى كان آخرها تجربة عمر افندى الشهيرة. وقد لاقت سياسات الخصخصة فى بلادنا انتقادات وتذمرا منذ البداية وكان اغلبها ينطلق من توجهات سياسية رافضة للخصخصة من حيث المبدأ، غير انه مع المضى قدما فى تنفيذ البرنامج تصاعدت وتيرة الانتقادات وانضم اليها الاقتصاديون الليبراليون وحتى اعضاء من النخب السياسية طالت اعضاء فى الحزب الوطنى ذاته، وهو ما دعا فى النهاية للاعلان عن وقف البرنامج فى بداية عام 2010 . بالنسبة لبعض السياسيين واتحادات الاعمال فقد كان التذمر من سياسات الخصخصة ناتجا مما شابها من ممارسات تتعلق بتجارة الاراضى والمحاباة فى نقل ملكية بعض الشركات لاشخاص قاموا ببيعها بعد ذلك بأضعاف قيمة الشراء من الدولة فضلا عن مشكلات العمالة وغيرها من المشكلات الادارية التى مازلنا نعانى منها حتى الان. لا أحد يقلل بالطبع من خطر واثر ممارسات الفساد لكن هذه الامور لم تكن عقدة البرنامج المصرى فالهدف من الخصخصة هو ضخ استثمارات جديدة وتوسيع اعمال وانشطة الشركات بعد تحسين كفاءة الادارة بما يضمن بعد ذلك تعظيم القيمة المضافة من هذه الشركات على الاقتصاد الوطنى كله بما فى ذلك زيادة مساهمتها فى الضرائب وزيادة الصادرات وتوفير مزيد من فرص العمل. ولكن هذه الاهداف لم تتحقق وفقا للشواهد غير ان الامر يحتاج الى دراسة معمقة لتبيان اثر خصخصة هذ الشركات على الاقتصاد الكلى لاتخاذ القرار المناسب فى ضوئها، وربما لو جرى اعداد هذه الدراسة فى وقت مبكر لأمكن تدارك كثير من الاخطاء التى وقعت وتصويب سياسات الخصخصة بما يسمح بإكمال البرنامج بعد ذلك بشفافية وفاعلية وسط رضا الجميع. المشكلة انه مع تواتر الانتقادات لمسار برنامج الخصخصة جرى ايقافه وقد كان هذا رد فعل متطرفا و خطأ كبيرا لأن الاسباب التى من اجلها شرعنا فى برنامج الخصخصة مازالت قائمة وفى مقدمتها ضعف الاداء الاقتصادى للشركات العامة والاصول المملوكة للدولة بدليل استمرار اعتماد غالبية هذه الشركات على الخزانة العامة لادارة امورها وسداد أجور موظفيها!!. غير انه على الجانب الاخر فإن استئناف برنامج الخصخصة بهدف وحيد هو جلب النقد الاجنبى يعد اختزالا مخلا لمفهوم الخصخصة الذى يمكنه تحقيق اهداف اكبر واكثر تأثيرا فيما لو وضعت المعايير والضوابط التى تكفل تعظيم اداء هذه الشركات بعد نقلها الى القطاع الخاص الحقيقى القادر على ادارة هذه الاصول بصورة اكثر كفاءة، وهذا هو ما يحقق مصالح كل الاطراف.