تكشف القراءة التحليلية لخريطة التجارة الخارجية لمصر عددا كبيرا من المفارقات التي يجب ان نتوقف عندها لانها باختصار تتحول الي ألغاز عندما ننظر اليها بعيون التحليل الفاحصة. وحسب هذه القراءة التي تستند الي ارقام رسمية وثقها تقرير البنك المركزي فان العجز بين الصادرات والواردات في مصر يدور حول30 مليار دولار سنويا اي انني ادفع للعالم الخارجي نحو80 مليون دولار كل طلعة شمس لاستيراد سلع تفي باحتياجات السوق المحلية. والغريب ان هذه الملايين من الدولارات قد يذهب بعضها لاشياء غير ضرورية او يمكن الاستغناء عنها. تقول الارقام ان واردات مصر خلال الربع الأول من عام2012 اي في ظل الازمة الاقتصادية الطاحنة بلغت14 مليارا و587 مليون دولار مقابل13.2 مليار دولار خلال فترة المقارنة من العام السابق اي ان هناك قفزة في قيمة الواردات بنحو1.3 مليار دولار خلال ثلاثة شهور وبمعدل430 مليون دولار كل شهر. ويسري معدل الزيادات علي بقية فترات العام لتبلغ في الربع الثاني14.5 مليار مقابل13.9 مليار في العام السابق وكذلك تبلغ في الربع الثالث14.4 مليار مقابل12.4 مليار في العام السابق اما في فترة الربع الرابع فيبلغ اجمالي الواردات15 مليارا و78 مليون دولار مقبال14.5 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام السابق.. وبذلك تكون قيمة واردات مصر خلال العام الماضي2012 قد بلغت59 مليار دولار مقابل صادرات لا تزيد علي26.8 مليار دولار بفارق يدور حول32 مليار دولار. هذا العجز في ميزان المدفوعات يجري تمويله عبر امتصاص عائدات رسوم المرور في قناة السويس وكذلك عائدات السياحة التي تدور حول12 مليار دولار الي جانب تحويلات المصريين العاملين في الخارج اي ان ثلاثين مليار دولار تدفعها الي العالم الخارجي سنويا كانت كفيلة بتوجيهها الي بناء مشروعات جديدة واستثمارات متنوعة تمتص البطالة وتفتح ابواب التشغيل والعمل لملايين العاطلين. أما عندما تقترب من الارقام التفصيلية لخريطة الواردات المصرية حسب الارقام الرسمية فإننا نفاجأ بأرقام عجيبة. علي سبيل المثال مصر تستورد تبغ اي دخان بأكثر من نصف مليار دولار سنويا كما تستورد منتجات ألبان وبيضا وعسلا بأكثر من630 مليون دولار. حتي المبيدات الحشرية نستورد منها بعشرات الملايين من الدولارات سنويا. اما الملابس الجاهزة رغم امتلاكنا لقاعدة صناعية تاريخية تمتد لاكثر من قرن من الزمان في مجال الغزل والنسيج فنستورد منها بنحو مليار دولار بينما نستورد منسوجات قطنية بنحو750 مليون دولار سنويا. ورغم ان الصناعة المحلية قطعت شوطا لا بأس به في صناعة الاجهزة المنزلية والمعمرة من ثلاجات وتليفزيونات وغيرها فإننا لانزال نستورد من هذه السلع بارقام كبيرة. ففي بند الثلاجات والمجمدات استوردنا بنحو180 مليون دولار في العام الماضي فقط. وفي بند التليفزيونات واجزائها والفيديوهات استوردنا بمبلغ405 ملايين دولار, اما سيارات الركوب فقد بلغ حجم الوارد منها العام الماضي نحو740 مليون دولار. ولأن استهلاك الطاقة في مصر تجاوز حدود المعقول وعمليات التهريب للوقود المدعم تجري ليل نهار وعلي نطاق واسع سواء عبر الانفاق الي قطاع غزة او عبر المياه الاقليمية للسفن العابرة او عبر الشاحنات وسيارات النقل الثقيل العابرة للسدود مثل الشاحنات الاردنية والتركية وغيرها فقد ارتفعت فاتورة واردات مصر في الوقود والمنتجات البترولية بجميع انواعها لتبلغ عشرة مليارات دولار في العام الماضي منها بترول خام بنحو مليارين و45 مليون دولار وفي بند الاجهزة الكهربائية للهاتف والتلغراف يقصد اجهزة التليفون المحمول بالدرجة الاساسية فقد بلغت مليارا و40 مليون دولار اي اكثر من سبعة مليارات من العملة المحلية. هذا عن العام الماضي2012 اما اذا تحدثنا عن هذا العام2013 فان الصورة تبدو اكثر قسوة لاسيما في ظل استمرار تفاقم الازمة الاقتصادية واستمرار ارتفاع سعر صرف الدولار الذي اقترب من750 قرشا في السوق السوداء وكسر حاجز السبعة جنيهات في السوق الرسمية بالبنوك. في هذه النقطة يقول تقرير البنك المركزي المصري ان معاملات الاقتصاد المصري مع العالم الخارجي خلال الربع الاول من العام الجاري أسفرت عن تحقيق عجز كلي بميزان المدفوعات بلغ518.7 مليون دولار وهو ما انعكس علي تناقص صافي الاحتياطات الدولية للبنك المركزي بينما اسفر الحساب الرأسمالي والمالي عن تراجع صافي التدفق للداخل ليبلغ نحو443.9 مليون دولار مقابل502.4 مليون دولار في الفترة المماثلة من العام السابق. وفيما يتعلق بالمعاملات الرأسمالية والمالية مع العالم الخارجي خلال فترة الربع الاول فقد اسفرت عن تحقيق تدفق للخارج بلغ327.1 مليون دولار كمحصلة لتعامل الاجانب في اذون الخزانة والسندات المصرية ليسجل صافي مبيعات في حدود133.5 مليون دولار وكذلك صافي مبيعات في الاسهم بلغ193.6 مليون دولار كما انخفض الاستثمار المباشر ليبلغ108.1 مليون دولار الامر الذي يعني حدوث مزيد من الضغط علي سعر صرف الدولار وتراجع صافي الاحتياطيات الاجنبية. وعلي صعيد المعاملات السلعية بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والعالم الخارجي نحو20.8 مليار دولار في فترة الربع الاول من العام الجاري, منها صادرات سلعية بنحو6.9 مليار دولار مقابل13.8 مليار دولار قيمة الواردات ومن ثم يبلغ العجز خلال الفترة الثلاثة شهور الماضية في حدود7 مليارات دولار وجاء ذلك نتيجة ارتفاع الواردات البترولية بنسبة1.5%. هذه الارقام تكشف بوضوح ان فتح البلاد امام حركة واردات ضخمة ومتنوعة قادمة من الاسواق الخارجية لتشمل سلعا ضرورية واخري غير ضرورية يمثل جرس انذار امام صانع السياسة الاقتصادية يفرض عليه ضرورة وضع ضوابط وقيود علي حركة الواردات كمحاولة اخيرة لدعم الاقتصاد الكلي وتخفيف الضغط علي الدولار لاسيما في الفترة القادمة التي تشير جميع المؤشرات الي استمرار تراجع مطرد والبلاد من النقد الاجنبي وتنامي حركة التعامل في السوق الموازية بما يهدد بانفلات سعري رهيب للدولار وبقية العملات الاجنبية.