حولت عمائر محمد على باشا إلى فندق عالمى ومزار سياحى
بعد أن تولت ترميمها.. فأفاقت إدارة الأوقاف من غفلتها وأرادت القرصنة عليها
السيدة «زوما» قامت بتخصيص جزء من الفندق كمركز بحثى للتراث والآثار والحضارة، يحمل اسم محمد على
أثيرت فى الفترة الماضية قضية الأوقاف والأملاك المصرية باليونان وتردد حولها كثير من الأقاويل، أبرزها تنازل مصر عن أملاكها على الأراضى اليونانية، ولمعرفة حقيقة هذه القضية فى سياق علمى حيادى بعيدا عن الشائعات والمزايدات السياسية. تحاورت”الأهرام العربي” مع د.أحمد أمين أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية المساعد.. كلية الآثار – جامعة الفيوم، الذى عمل خلال بعثته الدراسية فى جامعة أثينا على الآثار الإسلامية باليونان، خلال 5 سنوات، حصل فيها على الدكتوراه حول “التأثيرات البيزنطية على العمارة العثمانية فى اليونان”، ثم عاد وسافر مرتين إليها للمشاركة فى مؤتمرات، وأجرى عدة أبحاث حول الممتلكات المصرية فى اليونان، ومنها دراسة نشرت فى مجلة ذاكرة تاريخية الصادرة عن مكتبة الإسكندرية.. وإلى تفاصيل الحوار: ما تعليقك حول ما أشيع عن “بيع” أو “تنازل” مصر عن جزيرة “تشيوس” باليونان؟ تردد فى الصحف ووسائل التواصل الاجتماعى أن ذلك قد تم نتيجة لاتفاقية جديدة لترسيم الحدود البحرية بين الدولتين! وهذا بالطبع خبر غير متسق بالمرة مع بديهيات الجغرافيا على الأقل، فالجزيرة التى تضمنها الخبر هى “تشيوس ، وتنطق باليونانية “خيوس”، وتقع فى شمال بحر “إيجة” قبالة السواحل التركية القريبة من “إزمير” التركية، وتعتبر خامس أكبر جزر اليونان مساحة. وهناك شواهد أثرية وتاريخية حول وجود مصرى بالجزيرة، خصوصاً خلال الفترة الأخيرة من الحكم العثمانى للجزيرة، فيما عرف باسم «سنجق صاقز». ليست هناك أى حدود بحرية بين مصر وبين هذه الجزيرة، ولا يوجد بها أية أوقاف مصرية . وما تبقى من آثار الفترة العثمانية بهذه الجزيرة يتمثل فى القلعة، والجامع العتيق، وجامع الحميدية، وجامع المجيدية والسبيل والجُشمة الملحقتين به، وجامع العثمانية، وحمامان سوق كبيران، أكبرهما داخل القلعة، وتم ترميمه حديثًا، ومفتوح للزيارة، وعدد من النوافير وجُشم سقاية المياه، أهمها وأكثرها قيمة تاريخية ومعمارية وفنية جُشمة ملك باشا، وكذلك جبانة بها عدد من التراكيب الرخامية والحجرية وشواهد القبور ذات القيمة التاريخية والفنية العالية، بالإضافة إلى عدد من المنازل القديمة. وأهم ما يميز الجزيرة من مواقع تاريخية وأثرية: “دير نياموني” البيزنطى الشهير، أحد مواقع التراث العالمي. وماذا عن الجزيرة التى توجد بها الممتلكات والأوقاف المصرية؟ إنها جزيرة “ثاسوس”و تتبع محافظة كاڤالا (قوله) –والتى تشتمل على أهم وأروع الأوقاف والممتلكات المصرية فى إقليم مقدونياالشرقية، وتراقيا في شمال اليونان. وتحتوى جزيرة “ثاسوس” ومدينة “كاڤالا “على ممتلكات تعود إلى مصر، إذ منحها السلطان العثمانى ل محمد على باشا عندما كان واليًا على مصر، مكافأة له على مساندة الدولة العثمانية فى حروبها ضد الوهابيين، وأوقف محمد على باشا هذه الممتلكات لصالح هيئة الأوقاف المصرية بموجب حُجة وقف مسجلة. هل الحكومة اليونانية اعترفت بملكية مصر لهذه الأوقاف؟ نعم، اعترفت الحكومة اليونانية بملكية مصر لهذه الأوقاف وحقها فى إدارتها عام 1984م، لكن الجزيرة ولا المدينة ملكية مصرية بأى حال من الأحوال، حتى يحق لمصر بيعها أو التنازل عنها، وليست هناك أى حدود بحرية مشتركة بين مصر واليونان فى تلك الأماكن؛ وإنما توجد بها ممتلكات أوقاف مصرية، ومدينة كاڤالا، وتنطق بالتركية-العثمانية “قواله”، وتكتب بالمراجع المصرية قوله وقولة، هى مدينة يونانية تقع فى شمال البلاد ضمن منطقة مقدونياالشرقية وتراقيا الإدارية، وهى مركز مقاطعة تحمل الاسم نفسه ضمن هذه المنطقة الإدارية، وقد فتح العثمانيون هذه المدينة ضمن الفتوحات العثمانية المبكرة فى أوروبا سنة 772ه/ 1371م، وازدهرت فى عهدهم على امتداد نحو ستة قرون كميناء، وكسوق زراعي، ومركز لتجارة التبغ. وقد ولد محمد على بهذه المدينة فى أغسطس 1849، وكان والده تاجر تبغ ألبانيا استقر ودُفِنَ بمدينة كاڤالا، وظل ضريح والد محمد على باشا قائما بكاڤالا حتى وقت متأخر من القرن العشرين، وعاش محمد على بمدينة كاڤالا حتى الثلاثين من عمره تقريباً ، وكانت أمه “زينب” الابنة الكبرى ل”حسين أغا” الألبانى الأصل، الذى تزوج “زينب سلطان” ابنة السلطان أحمد الثالث (1115-1143ه/1703-1730م) وصار والياً لمدينة قواله (كاڤالا). وأول رتبة عسكرية نالها محمد على كانت من قبل حسين أغا فى قوالة ، وهى “بلوكباشى”، وهو المنوط به جمع الضرائب فى قوالة، والرتبة الثانية منحها إياه محمد خليل أغا بن حسين أغا (أى خال محمد علي) لقيادة وحدة من المتطوعين، وهى التى ذهبت لإعادة مصر للدولة العثمانية بعد انسحاب نابليون. ومتى شيد محمد على باشا عمائره بمدينة “كافالا” أو “قولة”؟ كان هذا سنة 1813م، بعد أن استقر الحكم له بمصر، وبعد أن قام بحملاته للقضاء على الوهابيين بأمر من السلطان العثماني، طلب محمد على من السلطان العثمانى محمود الثانى إنشاء وقف له فى مدينة كاڤالا “قولة” موطن ميلاده فوافق السلطان العثماني. ومنحه أراض وممتلكات بجزيرة “ثاسوس” القريبة من مدينة “كاڤالا” لتكون وقفًا على منشآت محمد على باشا بكاڤالا، وتمثل عمائر كاڤالا، والأراضى والعقارات بجزيرة ثاسوس الأوقاف المصرية الوحيدة المتبقية خارج مصر. وفيما تتمثل ممتلكاته تحديدًا فى اليونان؟ تتمثل فى مجمع معمارى ضخم يُعرف باسم “الإيمارت” (1817-1818 / 1820-1821م)، ومنزل بحديقة (مؤرخ بأواخر القرن 18م)، و4 عقارات بمدينة كاڤالا، و17 قطعة أرض وعقار بجزيرة ثاسوس. وتمثل”الإيمارت” مجموعة معمارية دينية – تعليمية – خيرية – اجتماعية ، أُنشِئت على مراحل على مدار 18 عامًا، وتشتمل فى صورتها النهائية على: مسجدين، ومدرستين، وكُتَّاب، والعمارت “إيمارت” لإطعام الفقراء، ومكاتب إدارة الوقف، ويعد المجمع المعمارى “الإيمارت” أهم أوقاف محمد على باشا والممتلكات المصرية بمدينة كاڤالا. يحتل المجمع مساحة (4160 مترا مربعا) يشرف على بحر إيجة، ويتميز بموقع فريد يطل على الميناء وفى قلب المدينة القديمة . وتتمثل الأربع مجموعات المعمارية المكونة للمجمع من الشمال إلى الجنوب كما يلي: المجموعة الأولى تشمل الإيمارت (دار إطعام الفقراء) ومدرسة بالركن الجنوبى الشرقي. يلى ذلك جنوباً المجموعة الثانية، وتشمل: مدرسة والجامع الرئيسى بالمجمع بالركن الجنوبى الشرقي، ثم المجموعة الثالثة وتتضمن المدرسة الأقدم فى الإنشاء، والمسجد الصغير بالركن الشمالى الشرقي، والغرف تشغل الضلع الجنوبى لهذه المجموعة، والمجموعة الأخيرة تمثل مكاتب إدارة الوقف. وبينما تشرف مبانى المجمع المعمارى بامتداد الواجهة الغربية الطولية على بحر إيجه، فتشرف الواجهة الطولية الأخرى، وهى الشرقية على شارع “Poulidou” حيث توجد مداخل المجموعات المعمارية الأربع للمجمع، وأعلى كل مدخل يوجد نص تأسيسى باللغة العثمانية، ولحسن الحظ لا تزال النصوص التأسيسية محفوظة حتى الآن.
وهل لا تزال وثيقة “حُجة” الوقف موجودة؟ نعم، لحسن الحظ إن وثيقة الوقف الأصلية لعمائر محمد على باشا فى “كاڤالا” لا تزال محفوظة. وهذه الوثيقة كُتٍبَت فى القاهرة بتاريخ 25 جمادى الآخر 1228 ه / 25 يونيو 1813م، ثم تم إرسالها إلى أسطنبول عاصمة الخلافة لاعتمادها وتوثيقها، والذى تم بتاريخ 15 رجب 1228 ه / 14 يوليو 1813م، وهذه الوقفية (4 صفحات) تمثل المرحلة الإنشائية الأولى للمجمع المعماري، وتشمل المدرسة، وقاعة الدرس (درس خانة) والمكتبة، و60 حجرة للطلبة. ويكمل هذه الوثيقة 4 ذيول مكملة لها على النحو التالي: الملحق الأول للوقفية وتمت صياغته فى أسطنبول بتاريخ 11 ربيع الآخر 1232 ه / 28 فبراير 1817م، وتم توثيقها فى العاصمة بتاريخ 23 جمادى الأولى 1232 ه / 10 إبريل 1817م، وهو يختص بإنشاء مكتب الصبيان (الكُتّاب) لتعليم الأطفال. الملحق الثانى للوقفية ، وتمت صياغته فى أسطنبول بتاريخ 5 شعبان 1235 ه/18 مايو 1820م، وهو يفيد زيادة رواتب ومخصصات العاملين بالوقف. الملحق الثالث للوقفية وتمت صياغته فى كاڤالا بتاريخ 3 شعبان 1240 ه/23 مارس 1825م، وهو يفيد بشراء منزل يتبع للوقف لأحد الأساتذة بالمدرسة. الملحق الرابع للوقفية ، وتمت صياغته فى أسطنبول بتاريخ 5 صفر 1259 ه / 7 مارس 1843م، وهو ذو أهمية كبيرة ويفيد بتموين العمارت (دار إطعام) والذى أضافه محمد على باشا لمجموعته المعمارية عام 1842م، بغرض إطعام طلاب المدرسة، والعاملين، والدراويش، وعابرى السبيل والمسافرين، والفقراء. ويتضمن تفاصيل عن كميات وأنواع الطعام التى يتم شراؤها، والزيادات فى رواتب العاملين، ومخصصات الطلبة. وماذا تمثل هندسة وزخارف هذا المجمع؟ تمثل هندسة المجمع المعمارية وزخارفه نموذجا للعمارة والفن العثمانى فى القرن 13ه / 19م، وهى من النماذج المعمارية القليلة الكاملة فى هذا الصدد،والنقوش تحديدا الخاصة بها ذات أهمية كبيرة وأقدم النقوش التأسيسية هى الخاصة بالمدرسة الأقدم والأكبر بالمجموعة، وهى نقش شديد الأهمية إذ يتضمن معلومات عظيمة القيمة، تتعلق بدور محمد على فى حملاته بالحجاز، وأهمية وعظمة هذا الدور لدى السلطان العثماني، فضلاً عن العديد من الألقاب والوظائف ودلالالتها. ويذكر النص عن المدرسة بأن القلم يعجز عن وصفها، وأنها تحوى مكتبة وقاعات درس وحجرات إقامة فى غاية الحُسن. والنقش الموجود أعلى مدخل الإيمارت (دار إطعام الفقراء بالمجان، أو سرايا الضيافة، كما ذُكر بالنص التأسيسي) تضمن اسم الخطاط الذى نقش هذه النصوص، وهو الخطاط العثمانى الشهير “مصطفى عزت”. وظل المجمع يقوم بدوره التعليمى والاجتماعى حتى بدايات القرن العشرين سنة 1902م، وظل يقوم بإطعام الفقراء مجانا حتى سنة 1923م كما ذكر سابقا. وماذا عن منزل محمد على? يقع منزل محمد على باشا على بعد أمتار قريبة من مجمع”الإيمارت”، ويُشرف على ميدان يتوسطه تمثال ضخم لمحمد على باشا تبرعت به الجالية اليونانية بمصر. ويُعرف الشارع المؤدى للمنزل حتى الآن بشارع محمد علي. ويمثل منزل محمد على باشا نموذجًا للمنازل التركية المكونة من طابقين وحديقة كبيرة، ومساحته 330 مترا مربعا، أساساته من الحجر الطبيعي، والأرضيات والأسقف من الخشب والسطح العلوى مائل ومغطى بالقرميد الفخاري، تمت إصلاحات وأعمال كبيرة على المنزل فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ويتكون المنزل شأن العمائر السكنية عامة والعثمانية منها على وجه الخصوص من أقسام ثلاثة : قسم الحريم والمعيشة، وقسم الرجال واستقبال الضيوف، وقسم التخديم، وفراغات التخديم وتشمل المطبخ وبيت الخلاء وأماكن التخزين تتركز فى الطابق الأرضي، بينما تتركز أماكن قسم الحريم والمعيشة فى الطابق العلوي، وتتوزع أماكن قسم الرجال واستقبال الضيوف بين الطابقين الأرضى والأول، وجميع غرف المنزل مجهزة بمدفأة وهى واحدة من السمات الخاصة بهذا المنزل، وعلى عكس المألوف فى المنازل العثمانية، حيث تجهيز غرف محدودة بعنصر المدفأة، وتم تأهيل المنزل وكذلك المنطقة المحيطة به ليصبح مزارًا مفتوحًا للعامة، ويستخدم كمتحف مفتوح، كما يتم عمل معارض فنية فيه من وقت لآخر، ويرفرف العلم المصرى أعلى المبنيين المجمع المعمارى والمنزل إشارة للملكية المصرية، وتم استئجار كلا المبنيين من وزارة الأوقاف المصرية لصالح سيدة يونانية هى آنّا ميسيريان زوما. هل يتم صيانة وترميم تلك الممتلكات واستخدامها؟ نعم، تم ترميم مبنى الإيمارت والمنزل إثر مناقصة عامة عالمية من وزارة الأوقاف المصرية عام 1998م، حيث تم ذلك فى سياق تأجيرهما، بعقد لمدة 50 عامًا، لإعادة توظيفهما كفندق عالمى ومزار سياحى، وهما الآن فى حالة ممتازة من الحفظ والصيانة، ويستخدم الإيمارت فندق 5 نجوم، بينما يمثل المنزل متحفا مفتوحا، ويعلو كليهما العلم المصرى. وقد قامت السيدة “آنّا ميسيريان زوما” المستأجرة اليونانية، بترميم عمائر محمد على باشا فى كاڤالا واستثمارها، وهنا تحتم عليَّ الأمانة العلمية شكرها لحفاظها على هذا التراث المعمارى الفريد ذى التاريخ التليد؛ بعد أن كانت هذه العمائر قبل استئجارها لها وترميمها، وواقع غيرها من الأوقاف بجزيرة ثاسوس من إهمال وتخريب وتعطيل، بل وضياع يوضح لنا لماذا يجب أن نشكرها؟ وهذه السيدة تخصص جزءا من المبنى كمركز بحثى خاص بالتراث والآثار والحضارة داخل الفندق، باسم محمد على. وما موقف إدارة الأوقاف المصرية من هذه “الإيمارات”؟ بعد أن نجح استثمارها وأصبحت فندقًا له اسمه ويدر دخلاً، التفتت إليه إدارة الأوقاف تريد القرصنة عليه بأى شكل من الأشكال، وأزعم آسفا – وأتمنى أن أكون مخطئا فى ذلك– أنه لو عادت هذه الممتلكات للأوقاف لخسرناها ولكان مصيرها مثل مصير أخواتها فى “ثاسوس”. فما الحل من وجهة نظرك؟ بدلا من المزايدة على هذه العمائر والأوقاف المستأجرة –وإن كانت القيمة الإيجارية فعلاً بخسة– فعلينا التعلم من هذه التجربة واستثمار بقية الأوقاف والممتلكات على نحو أمثل، ولترينا الإدارة المعنية بذلك همتها. وأقترح أن يتم الإعلان عن هذه الممتلكات فى مناقصة عامة؛ بهدف الاستغلال والاستثمار لمدة عشرين عامًا، بما لا يتعارض مع طبيعة وأهداف الوقف الأصلية، أى تنفق أرباح وعوائد هذا الاستثمار على التعليم، وهو كان الهدف الأول لعمائر محمد على الموقوف عليها تلك الأوقاف.