عبد الرحيم رجب عزيزي القارئ هل هاجرت يومًا إلى الله تعالى؟! قد ينصرف فهم البعض إلى الهجرة المكانية؛ وهي الانتقال من بلدٍ إلى آخر؛ ولكن في حقيقة الأمر فإنّ الهجرة تنقسم إلى قسمين: حسيَّة، وأُخرَى معنوية؛ فالهجرة الحسيَّة: وهي تعني الانتقال بالروح والجسد من مكانٍ إلى آخر، وهذا ما قام به رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- هو وأصحابه الكرام بالهجرة من مكة إلى المدينة، وهي الهجرة التي انتهت بفتح مكة، كما قال عنها النبي: "لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنفِرتُم فانفِروا"، وهجرة معنويَّة، وهي تُشارِك الأولى في المعنى اللغوي، فتعني الترك والهجر، ولكن ليس للأوطان، وإنما للفواحش والذنوب؛ فهي هجرة القلوب لا الأبدان، ووصفها رسولنا الكريم، فقال: "المهاجر من هجَر ما نهى الله عنه"، ومن صورها: الالتزام بعبادة الله وطاعته في زمن المحن والفتن؛ وهي التي قال عنها نبي الرحمة: "العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ". فهي هجرة القلوب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية؛ فهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها، فهي هجرة يُهاجِر فيها المسلم بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غير الله إلى عبوديته، ومن الخوف والرجاء والتوكل على غير الله تعالى، إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن هجرة دعاء غير الله وسؤاله، إلى دعاء الله تعالى وسؤاله والخضوع والذُّل والاستكانة لجلال قدرته. فمن أراد الهجرة إلى الله ورسوله؛ فعليه بفعل المأمورات من الفرائض، والاجتهاد في النوافل، وترك المحرَّمات والمكروهات، والاجتهاد في إصلاح قلبه وعمارته؛ ويكون ذلك بمحبة الله تعالى والخوف منه والشوق إليه وحُسن الظنَّ به، وعلى المهاجر أن يُحكِّم شرع الله تعالى في كل كبيرةٍ وصغيرة من أمور حياته، كما قال تعالى: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، ووصف ابن القيم الهجرة إلى الله، فقال: "وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بُلِي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربِّه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربِّه، فعليه في كل وقتٍ أن يُهاجِر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات". فالهجرة إلى الله هجرةٌ من ظلمات المعصيّة إلى أنوار الطاعة، ومن كدر الحياة إلى الصفاء والنقاء، فالهجرة إلى الله شوقٌ إلى الجنة، وخوفٌ من النار، فالهجرة إلى الله هجرةٌ من الغفلة إلى اليقظة، ومن الخلق إلى الخالق، فالهجرة إلى الله هجرةٌ من الأرض إلى السماء، هجرةٌ من سجن الدنيا ونَكَدِها إلى نعيم الجنة وخلودها، فالهجرة إلى الله تعالى هجرة من ذلِّ المعصية ومرارتها إلى عزِّ الطاعة وحلاوتها، فالهجرة إلى الله هجرةُ من الشقاء إلى السعادة؛ هذه حقًّا هي الهجرة إلى الله. كيف نهاجر إلى الله تعالى؟ وما فائدتها؟ يُهاجِر الإنسان إلى الله تعالى بفعل ما أمرنا به تعالى من الفرائض، وبالاجتهاد في إتيان النوافل، وبترك المحرمات والمكروهات والبُعد عنها ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلًا، وبالاجتهاد في إصلاح قلوبنا وعمارتها، ويكون ذلك بمحبة الله تعالى والخوف منه، وبتحكيم شرع الله فينا بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أمور حياتنا. وأما عن فوائدها:من هاجر إلى الله تعالى مخلصًا قلبه ونيته لله تعالى فاز بمحبة الله، من هاجر إلى الله كَمُل إيمانه وحَسُن إسلامه، من هاجر إلى الله رُزِق السعادة في الدنيا والآخرة، وفاز بالجنة ونجا من النار.