عبد الرحيم رجب "أنحاز إلى الأرض الريفية؛ لأني ابنها، وربما كان تفوقي في كلية الفلاحين –الزراعة- بسبب عشقي للزراعة والخيال واللون الأخضر، والريف هو عشقي الأبدي ومنبع الرومانسية المتأججة في داخلي". وصف نفسه؛ فقال: "أنا في الحق موزع بين شاطئين كلاهما خصب وثري، أجلس على شاطئ واستعذب التأمل في الآخر، وأعرف أن الفن أنا، والعلم نحن، ذبت في النَّحنُ وأحِنُّ إلى الأَنَا، وأعرف أن الفن هو القلق، وأن العلم هو الطمأنينة؛ فأنا مطمئن أرنو إلى القلق". ووصف الشاعر الذي يحيى بداخله؛ فقال: "في جوف كل عالم شاعر؛ هو الذي يأخذه إلى طريق الأحلام والأوهام؛ ليخلق منها علمًا حقًّا، لا علم بلا خيال، ولا شعر بلا خيال، وشطحات الشاعر هي نفسها شطحات العالم". من يطالع سيرة الدكتور أحمد مستجير، رائد علم الوراثة المصري، والشاعر والأديب الكبير، يصاب بدهشة لا تنتهي، من إنجازاته العلمية والأدبية التي قدمها الراحل الكبير على حدٍّ سواء بكل نبوغٍ واقتدار؛ فقدَّم مجموعة من الأفكار الناجحة في مجال الزراعة، والثروة الحيوانية، لتحقيق الحدِّ الأقرب للكفاية في مجال زراعة القمح، والثروة الحيوانية. ولد الدكتور أحمد مستجير عام 1934م، في قرية الصلاحات بمحافظة الدقهلية، وبها نشأ وتربى، واهتم "مستجير" في المرحلة الثانوية من دراسته ب"كتب البيولوجيا"، لتعلقه الشديد وحبه لأستاذه "خليل أفندي"، كما قرّر الالتحاق بكلية الزراعة، وهي الكلية التي تخرَّج منها أستاذه، وحصل بعدها على بكالوريوس الزراعة من جامعة القاهرة عام 1945، ثم الماجستير في تربية الدواجن عام 1958، ودبلوم وراثة الحيوان عام 1961 من جامعة أدنبرة بإنجلترا، وحصل على الدكتوراه من نفس الجامعة في وراثة العشائر عام 1963. في عام 1964 عُيِّن مدرسًا بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، ثم أستاذًا مساعدًا عام 1971، وتدرج في المناصب حتى أصبح عميدًا للكلية من سنة 1986 إلى سنة 1995، ثم أستاذًا متفرغًا بها، كان "مستجير" عضوًا في 12 هيئة وجمعية علمية وثقافية منها: مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والجمعية المصرية لعلوم الإنتاج الحيواني، والجمعية المصرية للعلوم الوراثية، واتحاد الكتاب، ولجنة المعجم العربي الزراعي. ومن بين أحد أبرز إنجازات مستجير مشروع "زراعة الفقراء"؛ الذي بدأ العمل فيه عام 1989، بمساعدة عدد كبير من المتخصصين في مجال الزراعة، لاستنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل درجات عالية من الملوحة والجفاف بهدف الاستفادة منها في زراعة الصحراء في الدول النامية، فكان "مستجير" يرى أن "البيوتكنولوجيا"، يمكنها إسعاد الفقراء، ومن خلالها يمكن زراعة الأنسجة ودمج الخلايا بالهندسة الوراثية، وإنتاج نباتات مقاومة للأمراض والملوحة أو تتميز بوفرة المحصول والإنتاج الغزير؛ ولأن معظم البشر يعتمدون في غذائهم على القمح والأرز، بدأ "مستجير" في استنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل الملوحة والجفاف، لسد الفجوة الغذائية، ولقد استفادت الهند من أبحاث "مستجير" حول زراعة القمح بواسطة مياه البحر مباشرة دون تحليتها، وتحولت من دولة مستوردة للقمح حتى منتصف التسعينيات، إلى مصدرة له عام 2004 بعد أن حققت الاكتفاء الذاتي منه. وقدَّم أكثر من أربعين بحثًا علميًا في مجال إنتاج الألبان واللحوم والدواجن والوراثة الحيوانية، كما قام بتهجين الأبقار الأجنبية، مستخدمُا تكنولوجيا التلقيح الصناعي، مما يؤدى لرفع إنتاجية اللبن واللحم بها، كما لعب دورُا كبيرًا في تطوير زراعة القمح والتصدي لأخطار تلوث البيئة. أثرى المكتبة العلمية بالعديد من المؤلفات في الهندسة الوراثية؛ حتى لُقِّب ب"أبو الهندسة الوراثية"، من كتبه: مقدمة في علم تربية الحيوان، دراسة في الانتخاب الوراثي في ماشية اللبن، كتاب في التحسين الوراثي لحيوانات المزرعة، وكتاب في النواحي التطبيقية في تحسين الحيوان والدواجن، والمشاكل الفلسفية للعلوم النووية، وصراع العلم والمجتمع، وصناعة الحياة، التطور الحضاري الإنساني، وطبيعة الحياة، والبذور الكونية، وهندسة الحياة، ولغة الجينات، والشفرة الوراثية للإنسان، والجينات والشعوب واللغات، وطعامنا المهندس وراثيًّا، والوراثة والهندسة الوراثية بالكاريكاتير. ولم يكن نبوغ "مستجير" قاصرًا على المجال العلمي، بل له العديد من الإسهامات الأدبية؛ ولتعدد إسهاماته الأدبية لُقِّب ب "الأديب المتنكر في صورة عالم"، كتب "مستجير" أول قصائده في عام 1954، وكانت بعنوان "غدًا نلتقي"، والتي أعجب بها الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، ومن كتاباته ودواوينه: "عزف ناي قديم"، و"هل ترجع أسراب البط ؟"، كما كتب في عروض الشعر "مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي"، إضافة إلى كتابه الأدلة الرقمية لبحور الشعر العربي. وحصل علي الكثير من الجوائز وأوسمة الشرف؛ منها: جائزة الدولة التشجيعية للعلوم والزراعة في 1974، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في 1974، وجائزة أفضل كتاب علمي مترجم في 1993، وجائزة الإبداع العلمي في 1995، وجائزة أفضل كتاب علمي في 1996، وجائزة الدولة التقديرية لعلوم الزراعة في 1996، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في 1996، وجائزة أفضل كتاب علمي لعام 1999، وجائزة أفضل عمل ثقافي لعام 2000، وجائزة مبارك في العلوم والتكنولوجيا المتقدمة في 2001. تزوَّج من سيدة نمساوية تَعرَّف عليها خلال دراسته في إدنبرة، وأنجب منها ثلاثة من الأبناء؛ هم المهندس طارق، المتخصص في هندسة الحاسب، وسلمي المتخصصة في اللغة الألمانية، والدكتورة مروة؛ وتعمل في الجامعة الألمانية وتخصصت في دراستها في الهندسة الوراثية؛ ويُذكر أنها توصلت إلي اكتشاف الجين المسبب لمرض القولون. لم يكن مستجير عالمًا وشاعرًا فحسب، بل كان إنسانًا بكل ما تعنيه الكلمة؛ يُذكَر أنه في أثناء عمله ذات مرة كمهندس زراعي، لفت انتباهه طفل يجمع القطن، يقول في ذلك: "قرأت في وجهه وجه مصر، بهجة غامرة، وحزن بعيد وغامض وعميق"، فأعطاه قرشين، علم مفتش من القاهرة ما فعله مستجير فعنفه وأوصاه أن يعامل الفلاحين بقسوة حتى يهابوه.. ليلتها لم ينم وكتب في مفكرته: "هل تستلزم الوظيفة الجديدة قتل الإنسان داخلي؟ هل يستكثرون أن يحظى الفلاح مني ببسمة؟ يكرهون أن يربت إنسان على كتف إنسان، أمن أجل 15 جنيهًا أحتاجها يقتلون فيَّ الإنسان؟"، فقرَّر "مستجير" ترك العمل من فوره. وخلال قضاءه إجازته الصيفية بالنمسا مع زوجته وقعت أحداث الحرب الإسرائيلية اللبنانية 2006 وأخذ يتابعها، وتأثر وحزن حزنًا شديدًا إثر مشاهدته أحداث التدمير والمذابح التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين والأطفال في لبنان؛ فأصيب بنزيفٍ في المخ ونقل على إثره إلى المستشفي حيث وافته المنية في مثل هذا اليوم 17 أغسطس/آب 2006 عن عمر يناهز 72، فكما عاش مهمومًا بمشكلات وطنه، مات أيضًا مهمومًا بمشكلاته وقضاياه.