كانت الساعة تشير إلى الثانية من صباح يوم 16 يوليو 2016، أى بعد ثلاث ساعات فقط من إعلان قيام انقلاب فى تركيا واستيلاء مجموعة من الجيش على الحكم حتى كانت طائرة الرئيس التركى أردوغان تهبط فى مطار أسطنبول أتاتورك لينزل منها معلنا فشل الانقلاب، مصرحا بأن الذين قاموا بهذه المحاولة الفاشلة تلقوا أوامرهم من الولاياتالمتحدةالأمريكية تحديدا من مقاطعة بنسلفانيا فى اشارة إلى فتح الله جولن، باعتبار أن من قاموا بالمحاولة هم من أنصار هذا الزعيم الإمام ويعتبرون ضمن أعضاء حركته “الخدمة”. تركز جماعة «الخدمة» فى عملها أساسًا على التعليم، فهى تبنى المدارس داخل وخارج البلاد، كما أنها اخترقت المجتمع بإنشاء مؤسسات اقتصادية وإعلامية وطبية وثقافية وإغاثية. وكانت القفزة الكبيرة فى نشاط الجماعة بعد انقلاب عام 1980، حيث استفادت من دعم الدولة ومن مساحات الحرية المتاحة، لتبدأ رحلتها مع إنشاء المدارس خارج تركيا، مرورًا بتكوين وقف الصحفيين والكتاب الأتراك، الجهة الممثلة للجماعة بشكل شبه رسمي. وتعتبر حركة جولن مختلفة عن باقى الحركات الإسلامية فى المنطقة والعالم، حيث إنها غالبًا تلقى ترحيبًا كبيرًا من الغرب، إذ تعتبر هى "النموذج" الذى ينبغى أن يحتذى به بسبب "انفتاحها" على العالم، وخطابها الفكري. فمثلًا إذا كان نجم الدين أربكان يرى أمريكا عدوًا للعالم الإسلامى بسبب تحكم "الصهيونية العالمية" فى صنع القرار فيها، فإن جولن يرى أن أمريكا والغرب عمومًا قوى عالمية لا بد من التعاون معها. ولكن معارضيه يقولون عنه انه الخطر الحقيقى على العلمانية التركية، ويتهمونه بمحاولة تقويض العلمانية التركية عبر أسلمة الممارسات الاجتماعية. واستند أردوغان فى اتهامه للولايات المتحدة فى أنها قد تقف وراء الانقلاب أن جولن يعمل مع مخابراتها، كما أنه يعد خصمه اللدود بعد أن كان حليفه فى يوم من الأيام! كما أن حلفاء جولن الرئيسيين، كانوا هم المسئولين فى قضية إيرجينكون التى اعتبرت بمثابة فضيحة، حيث تم سجن الآلاف من القيادات العليا فى الجيش بما فى ذلك كل قيادات هيئة الأركان العامة فى تركيا. وإيرجينكون هى منظمة سرية تاريخها طويل تعود جذورها إلى القرن الماضي، أما عن تاريخ التأسيس الحقيقى للحركة فهو فى عام 1999 كمنظمة سرية، وأهم أهدافها هو "المحافظة" على تركيا كدولة علمانية وعسكرية وقوية كما كانت فى عهد كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة. وتواجه المنظمة اتهامات بقيامها باغتيالات وتفجيرات وزرع عبوات ناسفة فى المدن التركية ومحاولة تنظيم انقلاب على الحكومة وتعاون مع منظمات ودول خارجية لزعزعة النظام فى تركيا. وتدافع المنظمة عن نفسها بأنها ضحية مؤامرة وتصفية حسابات من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم. وتضم الحركة فى صفوفها الطبقة المثقفة وذوى المراكز العالية فى تركيا من سياسيين سابقين وكتاب وصحفيين ورجال أعمال وجنرالات وقادة عسكريين وقضاة وغيرهم من مختلف الانتمائات العقائدية والحزبية فى تركيا. والذى يؤكد إلى حد ما نظرية أردوغان فى تورط الولاياتالمتحدة فى هذا الانقلاب، هو أن حلفاء جولن تابعون لها، وبالتالى لم يعجبهم نهائيا التقارب مع روسيا وإيران والصين، باعتبار أن ذلك من شأنه أن يغير من طبيعة تركيا . كان رجال جولن يحتلون المناصب العليا فى مواقع المسئولية فى الحكومة وفى أجهزة المخابرات، وحاول أردوغان إبعادهم أو حتى تحييدهم لكنه فشل فى منع حلفاء جولن فى تنفيذ أوامر الولاياتالمتحدةالأمريكية بالقيام بثورة ملونة فى ساحة تقسيم للمطالبة بإقالته والإتيان برئيس آخر موال بشكل آخر للغرب وتحديدا الولاياتالمتحدة. وقد وصف مركز أبحاث كاتيخون، وهو منظمة مستقلة تتألف من شبكة عمل دولية من الأفراد (بتشكيلة واسعة من المجالات والتخصصات) المتخصصين فى الجيوسياسة، والجيوستراتيجية والتحليل السياسى للأحداث العالمية وصف محاولة انقلاب بعض أعضاء الجيش والتى يرى أنها بمباركة الولاياتالمتحدة، جاءت بعد أن غير أردوغان سياسته الخارجية تحديدا عندما بدأ فى بناء شراكة إستراتيجية على محور أنقرةوموسكو، وعندما غير موقفه من القضية السورية. وفى محاولتها لعدم السماح بإنشاء نموذج "أوراسى" – انقرة - موسكو – دعمت الولاياتالمتحدة هذا الانقلاب عن طريق الاعتماد على شبكاتها المتمثلة فى حركة "حزمت" وحلفاء الزعيم الإسلامى جولن الذى يتعاون بنشاط مع جهاز الخدمات السرية الأمريكية. وبعد أن فشلت المحاولة من المتوقع بالطبع أن يتصاعد التوتر بين الولاياتالمتحدةوتركيا وأن تعود بقوة أكبر إلى حلف الناتو، وأن تنمى شراكتها بشكل أكبر كثيرا مع روسيا. الغريب أن جدران السجون التركية الآن تضم بين جنباتها أعضاء منظمة "إيرجينيكون" جنبا إلى جنب مع القضاة الذين أصدروا عليهم الأحكام وجلاديهم . العواقب السياسية والدبلوماسية للانقلاب أجمع معظم الخبراء السياسيين على أن المستفيد الوحيد من هذا الانقلاب الفاشل هو أردوغان شخصيا الذى سيعمل على تعزيز سلطاته، وقد بدأ بالفعل فى القيام بذلك، حيث سيتمكن أخيرا من وضع الجيش بكامله تحت سيطرته بعد أن فشل كثيرا فى ذلك. الباحث الفرنسى جون مارسو، المتخصص فى الشأن التركى، وأستاذ العلوم السياسية، يتوقع تزايد الاستبداد فى البلاد وتزايد مركزية السلطة، بل إنه من المنتظر إعادة عقوبة الإعدام لمعاقبة الخونة، كما جاء على لسان رئيس الوزراء التركى. أما أردوغان فقد خرج أكثر قوة بعد هذا الانقلاب الفاشل، بل إنه يعتبر فى موقف شرعى سواء داخل تركيا أم خارجها، فقد صدر للعالم صورة الزعيم الذى جعل الشعب ينزل إلى الشوارع بطلب منه عبر مواقع التواصل الاجتماعى ليحبطوا انقلابا قام به عدوه اللدود وهو الجيش. هذه الصورة التى من المؤكد أنه سيفعل بسببها المستحيل ليحافظ عليها، على الرغم من أن الجميع متأكد من أن الذين نزلوا إلى الشوارع ليسوا كل الأتراك ولا حتى معظمهم، بل إن أغلب الأتراك فى الواقع يرفضون الحكومة والحاكم، مما يدل على وجود انقسام داخل البلاد. أما بالنسبة للاجئين فى تركيا والذين يقدر عددهم ب 3.1 مليون لاجئ منهم 2.9 مليون سورى يعيشون على الأراضى التركية وفق ما أعلنته المفوضية الأوروبية. وبالطبع يجب الإشارة إلى أن أردوغان قد أعلن فى بداية يوليو عزمه توطين اللاجئين، وقد جاء إعلانه هذا بمثابة الإنقاذ، فما أن أعلن دعوته للنزول إلى الشوارع لرفض الانقلاب، كان هؤلاء السوريون هم أول من نزلوا استجابة للدعوة، باعتبار أن أردوغان يعمل لصالحهم، وبناء عليه سيأتون فى مقدمة اهتماماته التى لا يمكن تجاهلها. أما الآثار المترتبة إزاء الاتحاد الأوروبى، فلن يكون لها أى وجود، إذ لا يوجد أى حدث عالمى يمكن أن يؤثر تأثيرا فوريا على هذا الاتحاد، فى نفس الوقت لن يتغير شئ فى الاتفاق الذى تم بين الاتحاد وأنقرة فى 18 مارس الماضى، والذى يهدف إلى وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا مقابل ترك تركيا تلعب دور حامى الحدود فى منطقة الشرق الأوسط. أما بالنسبة لدخول الاتحاد، فرغم أن هناك مفاوضات تجرى من بداية الشهر فإن آن جون مارسو يحذر الحكومة التركية من أنها إذا ظلت على انتهاجها للاستبداد بحجة القضاء على أية انقلابات مستقبلية، فإن ذلك من شأنه جعل انضمامها للاتحاد الأوروبى ضربا من المستحيل. وبرغم أن الاتحاد يماطل فى قبول انضمام تركيا إليه، بل إنه يعلن رفضه فى الكثير من الأحيان، فإنه لن يترك تركيا فى هذه الحالة الأزمة دون أن يتدخل ولو بتصريح كذلك الذى خرج من المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، التى طالبت أردوغان بالتعامل مع الانقلابيين لكن مع احترام قواعد سيادة القانون. موقع المساواة والمصالحة الفرنسى أعلن ثانى أيام الانقلاب أن الانقلاب قد نجح ! الموقع قام بتحليل ما حدث، مؤكدا أن كل الوكالات والصحف والمواقع قالت إن تركيا تعرضت لانقلاب عسكرى وأنه نجح فى الاستيلاء على السلطة، وأنه فى طريقه لتعديل الدستور، وما من ذلك من أخبار لا يختلف عليها أحد، لكن الواقع ربما يكون شيئا مختلفا تماما، خصوصا أن أردوغان ماض فى مشروعه الدستورى كما يخطط له. المتابع للأحداث على حد تعبير الموقع الفرنسى يمكنه استنتاج بعض النقاط المهمة أهمها الوقت الذى استغرقه زمن الانقلاب والذى لم يتخط 6 ساعات. لم يتم القبض فيه لا على الزعيم السياسى للنظام، وهو أردوغان ولا على أى قائد للشرطة، الوحيد الذى تم القبض عليه هو قائد الجيش. كان من الممكن إطلاق صاروخ واحد من إحدى الطائرات على المكان الذى كان يفترض وجود أردوغان فيه، لكن ذلك لم يحدث.
لم يقم جنود المشاة بدعم الدبابات الخسائر فى الجيش كانت قليلة، إذ لم تتعد وقتها قتيلين، إضافة إلى 47 قنيلا من جانب القوات الخاصة، وهذه الأعداد تعد قليلة جدا مقارنة بتسليم أنفسهم بهذه السرعة. نزول بعض فئات الشعب إلى الشارع لمنع الانقلاب دون تفكير فيما قد يتعرضون له من عواقب وخيمة مثل القتل، لاسيما أن الجيش قد يكون نزل إلى الشوارع بأسلحة ثقيلة. قبل الانقلاب بثلاثة أيام وسفارات فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة مغلقة دون إبداء أية أسباب، بل إنه فجأة تقرر إلغاء الحفل السنوى الذى تقوم به إحدى هذه السفارات دون سابق إنذار. سرعان ما تم القبض على 3000 رجل جيش منهم خمسة جنرالات و29 من كبار الضباط، وذلك على يد الشرطة الموالية قلبا وقالبا للنظام. عصر اليوم التالى للانقلاب خرج قادة الأحزاب السياسية المختلفة فى تركيا واحدا تلو الآخر لإدانة الانقلاب ودعم أردوغان و"الديمقراطية". لقد أدركوا جميعا أن التعبير عن أى اختلاف فى الرأى مع أردوغان فى هذه اللحظة معناه شديد الخطورة، فأردوغان كان على وشك رفع الحصانة البرلمانية عن العديد من النواب، لاسيما حزب الشعب الديمقراطى. لا يمكن تصور أن جيشا فى قوة الجيش التركى يقوم بانقلاب فاشل، إلا إذا كان من قاموا به هم مجموعة من الهواة. جرت العادة على أن انقلابات تركيا تعمل على الإطاحة برأس النظام وليس تقويته. جرت العادة أيضا أنه يتم القبض على الموالين للنظام من صناع السياسة والعسكريين ورجال الشرطة التابعين للنظام، وذلك قبل استخدام الدبابات والطائرات. تسبب الانقلاب الفاشل فى جعل كلمات مثل إنقاذ الديمقراطية والحفاظ على النظام الدستورى وتجنيب المنطقة شر الفوضى تنهمر كالمطر على رأس الرئيس التركى الذى بدا منتشيا بنفسه، ليصبح كل ما سبق يصب فى جعبة مصلحة شخص واحد فقط اسمه رجب طيب أردوغان، الذى سيسعى إلى الإطاحة بقيادات الجيش العاشقة لأتاتورك، والتى لم تعلن بسرعة رفضها للانقلاب وتأييدها له بعدما عمدت إلى إضعافه دوليا. سيعمل على إضعاف المعارضة فى سياق وجود توترات داخلية سواء اجتمعية أم اقتصادية أم سياسية، وحتى وجود الحرب الأهلية مع الأكراد. سيعمل على تحسين صورته على المستوى الدولى، وسيهدى للعالم صورة شخصية له باعتباره حامى حمى الديمقراطية فى العالم. فى النهاية يرى الموقع الفرنسى أن الانقلاب ما هو إلا انقلاب وهمى مدبر من قبل أردوغان وحزب العدالة والتنمية والمتشددين، بهدف إحياء التعديل الدستورى المقترح الذى حلم به منذ فترة طويلة، لكنه ظل غير قادر على القيام به بسبب نتائج الانتخابات. فاستغلال حادث سروج لإعادة إحياء الحرب الأهلية مع الأكراد يبدو غير كاف. وتفجير سروج هو هجوم انتحارى وقع فى مدينة سروج التابعة لمحافظة شانلى أورفة التركية يوم 20 يوليو 2015. سقط نتيجة لهذا الهجوم 32 قتيلا وأكثر من 100 جريح. استهدف التفجير تجمعا ل 300 شخص من اتحاد الشباب الاشتراكى فى حديقة مركز أمارا الثقافى أثناء مؤتمر صحفى لتوضيح الجهود المبذولة لإعادة بناء عين العرب (كوباني) من جديد بعد حصارها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). أعلن لاحقا عن علاقة عبد الرحمن الأوغوز مفجر القنبلة بتنظيم الدولة الإسلامية. كان رد حزب العمال الكردستانى على هذا التفجير بالدخول فى صراع مع الجيش التركى بدأ بقتل ضابطى شرطة، وكان ذلك بمثابة إعلان لانتهاء فترة عملية السلام الكردية التركية التى كانت قد بدأت عام 2009 واستمرت بدون أى نزاعات. وصرح رئيس الجمهورية التركية وبشير أطلاي، وهما من مهندسى عملية السلام، توقف مرحلة السلام. وقد توالت ردود الفعل الداخلية والخارجية المنددة بهذا التفجير. لكن برغم ذلك ظل موقفه فى إعادة الحرب ضعيفا، لكن الآن فإن أردوغان أصبح لديه ما يكفيه للضغط للحصول على الأصوات المطلوبة لمشروع استكمال حربه ضد الأكراد بزعم خوفه من زعزعتهم للاستقرار فى المنطقة. إذن لقد نجح الانقلاب.