تعمدت الاستئثار والاحتكار لإنتاج المعرفة للوصول إلى الجماهير
مصر تستحق قناة وثائقية تليق بها
استطاعت الزميلة "آمال عويضة" نائب مدير تحرير الأهرام في بحثها: "الدور المعرفي للقناة التليفزيونية الوثائقية (قناة الجزيرة الوثائقية نموذجًا)"، معايشة موضوع البحث وسافرت إلى مقر القناة لجمع مادة بحثية فريدة، استحقت عنها درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف، ويحسب لها أن هذا البحث هو الأول والوحيد من نوعه عن قناة "الجزيرة الوثائقية"، واستطاعت بالجهد المبذول والمثابرة جمع المعلومات التي تميزت بالثراء والعمق في بحث متسلسل ومنطقي. ولعل أهم ما يميز البحث هو قدرة الباحثة على إجراء 30 مقابلة شخصية مع موظفي القناة، على الرغم من التحفظ من جانب القناة والشبكة، وعدم اهتمام القناة محل البحث بالتوثيق لبدايتها، وسِيَر العاملين بها، وتجربة إنتاج الأعمال الوثائقية، فضلًا عن أن نقص بعض المعلومات عن بداية القناة محل البحث، دفع الباحثة للرجوع إلى مواقع شبكة "الجزيرة" للاستناد إلى ما تنشره من أخبار أو معلومات، والسرية التي تحيط بآليات العمل في الشبكة إجمالُا وقناة "الجزيرة الوثائقية" خصوصًا من إستراتيجية وخطة وميزانية، وإن أتيحت الفرصة للباحثة للاطلاع على بعض الوثائق الداخلية، والتي تم اعتبارها الحد الأدنى من المعلومات المطلوبة. وتعترف "آمال عويضة" قائلة: "عندما اخترت بمعاونة أستاذي والمشرف على البحث د.ناجي فوزي دراسة الدور المعرفي للقناة الفضائية الوثائقية، كنت أعتقد أن لديَّ فكرة لا بأس بها عن القناة العربية الوحيدة في هذا المجال، وأنها بالفعل تصلح نموذجاً لدراسة تحليلية يمكن من خلالها الاستفادة منها لإعادة تطبيقها في مصر، والاستفادة من تراث مصر الوثائقي وامتلاكها أرشيفًا يتجاوز عمره قرنًا من الزمان". وتنوه "آمال عويضة" إلى تجربة كتابتها سيناريو عن تهويد القدسالمدينة القديمة بعنوان "القدس أولا" لصالح الوثائقية عبر شركة إنتاج أردنية، ساعدتها في إنتاجه من الباطن شركة مصرية، واكتشفت أن "الوثائقية"، مجرد صورة عن شبكة "الجزيرة" التابعة لها، وما يريده ممولوها، يكشف عن سياسة قطر تجاه مصر والعالم العربي. ويلفت البحث النظر إلى أن قناة "الجزيرة الوثائقية" قد عمدت البدء من نقطة الصفر في صناعة أرشيف أعمال وثائقية خاص بها، لا يشاركها فيه أحد، فعمدت إلى الاستئثار والاحتكار لإنتاج المعرفة باستخدام التقنيات الحديثة؛ للوصول إلى الجماهير بالاعتماد على ثراء الدولة الممولة، وقدرتها على الإنفاق لإنتاج "سلع معرفية" موحدة القالب، تستند إلى القيم التي ترغب السلطة الممولة في الدفاع عنها والترويج لها، حيث لم تسع -على سبيل المثال- للحفاظ على استمرارية التجربة الثقافية في المنطقة العربية، ولم يكن كل همها دعم الصناعة الوثائقية في العالم العربي، أو استكمال أدوار قامت بها دول سبقتها في هذا المجال وقدمت روادًا في مجال الأعمال الوثائقية، وخصوصًا في "مصر" و"سوريا" و"المغرب العربي"، بل تعمدت البدء من جديد وتأسيس قيم ثقافية ومعايير مغايرة بمجموعات عمل احترافية تم اختيارها طبقًا لمفهوم أهل الثقة في الأغلب، وليس أهل الخبرة. وترى الباحثة أن ما اتبعته "الجزيرة الوثائقية" هو نوع من الاحتكار يقود إلى ما يمكن تسميته "الاستعمار الإعلامي الإقليمي" Regional Media Imperialism ، في ضوء التطورات التكنولوجية في مجال البث والاستقبال، بهدف قيام ما يمكن أن يُطلق عليه "إمبراطورية ثقافية" تفرض مضمونها الإعلامي على الجماهير المستقبلة (الناطقة بالعربية). وتذكر "عويضة" في بحثها أن "قناة الجزيرة الوثائقية" التي تشارك الدولة في تمويلها طبقًا لمرسوم أميري ينص على أن أموال الشبكة إجمالًا الثابتة والمنقولة، من الأموال العامة المملوكة للدولة ملكية خاصة، وتخضع لأحكامها، وتلاحظ الباحثة إن تكلفة متوسط إنتاج الدقيقة ألف دولار بأسعار 2012، وهي تكلفة رفعت سقف المنافسة لصالح "شبكة الجزيرة"، التي استأثرت بسوق إنتاج الوثائقيات. وترى الباحثة أن "قناة الجزيرة الوثائقية" تابعت باهتمام وتركيز تفاصيل الحياة اليومية في "فلسطين، كما وضعت "مصر" تحت ميكروسكوب النقد السلبي، ونصبت من نفسها مدافعة عن الإسلام السني المحافظ دون تقديم ما يمكن أن يساعد في رفعة الإسلام أو تحرير فلسطين أو إنقاذ مصر، وذلك بتقديم تصور جزئي للواقع المحيط، وهو ما يكرس للوعي الزائف المشوه والمغلوط الذي يشكل دعاية لتيار "الإسلام السياسي"، أو يكرس لأوضاع سائدة كما في فلسطين، أو يدعو للتمرد مثلما تفعل مع مصر دون تقديم تحليل ضمن رؤية واعية تطرح البدائل البناءة. ورصدت الباحثة الأعمال التي قدمتها قناة "الجزيرة الوثائقية" تتناول فيها العالم العربي، وعددها 33 عملًا، لمصر فيها النصيب الأكبر، إلى جانب خمسة أعمال عن فلسطين، وبنسبة ثلثي الأعمال عن المنطقة العربية، يليها بفارق كبير الأعمال التي تتناول القارة الأوروبية (ثمانية عشر عملًا)، وعلى الدرجة نفسها من الاهتمام كان الاتجاه شرقًا نحو آسيا (سبعة عشر عملًا)، ويأتي في مرتبة تالية الدول المجاورة للشرق الأوسط: (تركيا، وإيران، وإسرائيل وحوض البحر المتوسط)، وتلاها الاهتمام "إفريقيا"، ثم أمريكا الشمالية (ثمانية أعمال عن الولاياتالمتحدة، وثلاثة أعمال من كندا)، وكشفت الباحثة عن خفوت الاهتمام بقارة مثل: "أمريكا اللاتينية" التي كانت هدفًا في بداية انطلاق القناة محل البحث، كما لم تظهر قارة "أستراليا" في نطاق اهتمامات القناة. وقد لاحظت "عويضة" أن اختيار بث الأعمال ذات البعد التاريخي يتم في سياق ذي مغزى بالنسبة للقناة، مثل تزامن بث بعضها مع الذكرى الأولى لثورة "25 يناير2011"، أو مع أحداث جارية بعينها، مما يعكس إستراتيجية وخطة تؤثر وتتأثر بالأحداث، كأن يتوالى ويتزامن بث سلسلة "الإسلاميون"، و"محمد علي" بجزءيه، وسلسلة "الأزهر" مع الأحداث التي أدت في العام نفسه إلى انتخاب عضو جماعة الإخوان المسلمين "محمد مرسي" رئيسًا لمصر، لتكشف عن اتجاه الأفكار التي تدعمها القناة من حيث اختيار الموضوع وعناوين الأجزاء التي تفرض وجهة نظر صانعها، وتكشف الأعمال عن انحياز في إعادة كتابة التاريخ اعتمادًا على رؤية واحدة. وتختتم "آمال عويضة" بحثها بطرح عدة تساؤلات: هل "الوثائقية" في إصرارها على إنفاق كل هذه الأموال تحاول أن تحيا لأنها تعلم أنها زائلة؟، وهل كان هذا هو أيضًا هاجس الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الستينيات؟، وتجيب "عويضة" قائلة: "ربما ولكن ما يجعلني أنحاز ولو قليلًا لناصر –ولست ناصرية، وإن كنت مصرية-، إيماني أنه ومن حوله لم يصنع ذلك انطلاقا من ثورة اندفعت بين أيديهم من باطن الأرض، ولكنها ميراث أن تكون مصريًا في تلك البقعة الفريدة من العالم"، مؤكدة أن لهذا السبب -في اعتقادها- أن مصر تستحق قناة وثائقية تليق بها، وتحاول ببحثها هذا أن تهمس بالوصفة بالجهد والاجتهاد إيمانًا بهذا الوطن.