إيمان عمر الفاروق شظايا الانفجار الكبير الذى هز القارة العجوز ليلة الخميس قبل الماضى متجسدا فى صدمة الرحيل البريطانى عن حظيرة الاتحاد الأوروبى، تتناثر وتتكاثر فى كل الاتجاهات وأبعد المسافات. وإذا كانت تجرحنا كعرب فى المدار الاقتصادى بالأساس بالنظر إلى الاستثمارات الخليجية بلندن أو تخدش أنسجة الأمن لدى المهاجرين العرب والمسلمين برفع منسوب الخوف لديهم من هجمات الكراهية المتوقعة، إلا أن هناك منطقة وسطى ما بين خسائر المستثمرين وهواجس المهاجرين ستقع هى الأخرى فى مرمى شظايا الانفجار وإن يكن بشكل غير مباشر عبر التداعيات السياسية المترتبة على نتائج استفتاء بريكسيت وأبرزها استقالة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، وما يعنينا هنا بالمقام الأول بوصلة خلفائه نحو الشرق الأوسط وإسرائيل التى فقدت بالفعل صديقا لكنه وللأسف سيعوض بأصدقاء لا يقلون عنه مثقال ذرة فى دعمهم لإسرائيل . فأجواء الحداد التى تعيشها إسرائيل على إثر استقالة كاميرون لن تستمر طويلا، وإن جرت على ألسنة كبار مسئوليها عبارات التعازى، يتقدمهم رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو، لافتا النظر إلى التعاون الذى بلغ أوجه فى عهد كاميرون بين بريطانيا وإسرائيل فى مجالات الأمن والاقتصاد والتكنولوجيا. ووزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلى يوفال شتاينتس باكياً كاميرون، واصفا إياه بالمثقف الجذاب الذى حاول كبح جماح حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات، وبلغ حجم التعاون الاستخبارى بين بريطانيا وإسرائيل فى عهده أرقاما قياسية. فيما أطلق عليه وزير الأمن الداخلى جلعاد أردان «جينتلمان» كان يُكن لإسرائيل مكانة خاصة عميقة . صحيفة “الجيروزاليم بوست” وضعت حدا لمشهد الدموع المنسكبة لرحيل كاميرون، بتأكيدها أن إسرائيل خسرت بالفعل صديقا حميما، لكن المرشحين لخلافته سيواصلون المسيرة البريطانية المؤيدة لإسرائيل. ولعل أبرزهم وأوفرهم حظا عمدة لندن السابق بوريس جونسون الذى عمل بالصحافة، الرجل المشاغب الغريب، حيث قام إبان زيارة له بإسرائيل بالتجول بشوارع تل أبيب مستقلا دراجة بخارية برفقة عمدة المدينة المضيفة رون جولدائى، ويتفوق على كاميرون فى روابطه بإسرائيل، حيث لا يقتصر الأمر على الدعم السياسى بل يتعداه إلى الإعجاب الشخصى، بل لقد وصل إلى حد التطوع فى الكيبوتس منذ شبابه، معبرا عن تلك التجربة بقوله: “سنواتى فيه تركت أثرا كبيرا علي. أنا صهيونى متحمس وأدعم إسرائيل ومؤمن بحقها بالوجود، ومنذ تطوعى بالكيبوتس كعامل غسالة لتنظيف الملابس صرت معجبا بها ولم يفارق مذاق الحمص من وقتها لسانى”. ويهاجم بشدة ورعونة ولسان سليط حركة مقاطعة إسرائيل قائلا: “ينبغى أن يكون الشخص مجنونا حتى يشارك فى مقاطعة إسرائيل الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تشهد تعددية وتمتاز بمجتمع مفتوح”. وعرف عن جونسون انتقاده لرئيس الوزراء البريطانى السابق تونى بلير، واعتبر حينها أن الصمت الذى التزمه بلير حيال إعدام الرئيس العراقى الراحل صدام حسين غير مبرر.فضلا عن تصريحاته المثيرة للاستفزاز ضد السود والزنوج والأقليات العرقية والمسلمين لا سيما فى أعقاب هجمات لندن عام 2005. وقد عمل جونسون فى هيئة تحرير مجلة سبيكتيتر فى بريطانيا بين سنوات 1999- 2005. وانتخب سنة 2001 نائبا فى مجلس العموم البريطانى فى شمال لندن فى مدينة هينرى أونتيمز. وعين سنة 2003 نائبا لرئيس حزب المحافظين، وترك منصبه سنة 2004. وشغل منصب وزير الفنون فى حكومة الظل سنة 2004 ووزير التعليم العالى فى حكومة الظل بين سنة 2005 - 2007. وعلاقة جونسون بالإسلام علاقة ذات طابع فريد، فجده لوالده كان تركيا مسلما يُدعى على كمال، وزوجته الأولى وهى إيطالية الأم ووحيدة أبويها، وفرق الطلاق بينهما فى 1993 من دون أن تنجب له، تزوجت فيما بعد من مسلم باكستانى اسمه عبدالمجيد، يصغرها بأكثر من 22 سنة، فقد كان عمره 23 وهى 45 سنة حين الزواج الذى اعتنقت على إثره الإسلام وغيّرت اسمها إلى دلشات كالى غوري، ومنذ 11 سنة كانت تعمل متطوعة لرعاية الأطفال بمسجد “منهاج القرآن” فى شرق لندن. وبرغم أن هذا الإرث العائلى أو الوشائج الأخرى التى حدت بالبعض للاعتقاد بأنه سوف يكون نصيرا للإسلام على غرار المزاعم التى شاعت فى أعقاب تولى الرئيس الأمريكى باراك أوباما الحكم فإن سجل تصريحات الرجل ومواقفه تنبئ بخلاف ذلك على نحو ما استعرضنا. وإذا كانت هناك عناصر مشتركة تدفع البعض للتعامل معه كما حدث مع أوباما فثمة عناصر أكثر وضوحا تجمعه بدونالد ترامب أبرزها مواقفه المتناقضة بخلاف الشبه الكبير بينهما فى الملامح، فمن المعروف عن عمدة لندن السابق أنه اُشتهر بمناصرته للمهاجرين، لكنه لم يلبث أن انقلب على ذاته مناديا بضرورة ضبط الحدود، وبأن البلايين التى يتم دفعا للاتحاد الأوروبى تكفى لبناء مستشفى فى لندن أسبوعيا . فضلا عن موقفه والحديث المتناقض بخصوص بشار الأسد، فقد كتب يوجه تحية تقدير للأسد قائلا إنه وإن يكن ديكتاتورا إلا أنه استطاع أن يُنقذ حلب !. ولا يختلف الأمر كثيرا بقدوم جورج أوزبورن وزير المالية البريطانى حيث إنه هو الآخر يشتهر بمناصرته لإسرائيل بشكل مطلق واصفا علاقتها ببريطانيا بالأصدقاء، ومرحبا بهم داخل بريطانيا كما ورد على لسانه أمام أحد التجمعات اليهودية عام 2012. أما مايكل جوف وزير العدل البريطانى فيُعد الأسوأ، حيث كان مؤيدا بشدة لغزو العراق عام 2003 مبشرا بالديمقراطية التى سوف تتفتح ثمارها فى بغداد، وبعد مرور خمس سنوات على الغزو وصفه بالنموذج الأكثر نجاحا فى السياسة الخارجية البريطانية . وفى عام 2006 وصف الإسلام بأنه تهديد خطير يماثل النازية والشيوعية ولا بد من مواجهته بحزم. وهكذا تدور معظم الوجوه المرشحة لخلافة كاميرون فى فلك معاداة الإسلام ومناصرة إسرائيل على نحو مطلق يُغذى مشاعر الخوف لدى المسلمين عامة ويبعث شعورا بالطمأنينة بالداخل الإسرائيلى الذى يشهد حالة من الجدل المحتدم حول انعكاسات خروج بريطانيا الحليف الأبدى التاريخى لها من الاتحاد الأوروبى، وهل يصب فى مصلحتها أم لا. حيث يرى البعض أن إسرائيل بذلك قد فقدت صوتا داعما طالما أحدث توازنا داخل الكتلة الأوروبية، بينما يرى البعض الآخر أن تأثير بروكسل على لندن بصدد القضايا الخاصة بإسرائيل كان يفوق تأثير لندنببروكسل، وأن وجود بريطانيا داخل اجتماعات الاتحاد الأوروبى من عدمه لن يُحدث تأثيرا بالغا . كذلك يرى عدد من الخبراء أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى لن يؤثر على الشرق الأوسط بشكل كبير من الناحية السياسية، كون العلاقات مع أغلب دوله ثنائية أكثر من كونها تندرج فى إطار تعددى ضمن السياسات اليورو متوسطية. وبالتالى من غير المتوقع حدوث تغيرات دراماتيكية بفعل الرحيل البريطانى عن الاتحاد الأوروبى فى منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت بعض الأصوات بالداخل الإسرائيلى ترى فى ذلك فرصة تتيح لها قدرا أكبر من المناورة . وبناء عليه يعد البعد الأكثر تأثيرا بالنسبة للعالم العربى هو المدار الاقتصادى، يليه من الذى سيخلف ديفيد كاميرون وإن كان من الواضح أنه أيا كان الوجه الجديد، فإن الملامح لن تتبدل كثيرا ولا عزاء للعرب!.