بطانة السوء أحد الأمراض السياسية الشهيرة فى تاريخ الحياة السياسية المصرية عبر الزمن، والتى لم يخل منها حكم ما حتى لو اتصف القائون عليه بالديمقراطية أو الليبرالية أو بمكارم الأخلاق الإسلامية والعمل بقواعد الشريعة. وربما يفاجأ البعض بإطلاق الملاحظة على هذا النحو الذى يبدو فيه شئ من التعميم، لكن لو احتكم العقلاء للتاريخ المصرى منذ العهد العثمانى، حيث الحكم تحت ظلال الخلافة الإسلامية وما قبله منذ بداية اتساع الدولة الإسلامية بعد الفتوحات التى شملت الشرق كله، وانتهى بهم المكان عند الدولة المصرية منذ عصر الليبرالية بعد ثورة 1919، إلى نهاية حكم مبارك مرورا بعهدى عبدالناصر والسادات، لو احتكم الناس بهدوء إلى وقائع التاريخ لتأكدوا من أن أنظمة الحكم المختلفة لجأت إلى هذه البطانة تحت مسميات مختلفة، ودفعت البلاد ثمنا غاليا لهذا العمل خلاصته، عدم ترسخ القيم الديمقراطية وحكم المؤسسات وتداول السلطة بشكل سلمى، مثل كل البلاد التى انطلقت إلى التقدم والرفاهية والحرية لشعوبها. نعلم بداية أن السياسة عموما لا تخلو من الأعمال غير النزيهة، وتحضرنا فى ذلك مقولة ميكيافيللى الشهيرة فى نصيحته للحاكم بأن الغاية تبرر الوسيلة، ونعلم أيضا أن مفكرى السياسة فى تاريخ البشرية الحديث ركزوا كل جهدهم على أن تخضع الأعمال السياسية للقيود والضوابط حتى لا تنحرف وتعود شعوبها إلى الاستبداد والتخلف، وما تراث فلاسفة السياسة الغربيين، بل وأيضا من عرفهم التاريخ الإسلامى القديم والحديث، إلا شاهد حى على الصراع الدائم بين الخير والشر فى عالم الحكم والسلطة، وعلى وضع المواثيق وطرح الأفكار والقيم التى تجعل السياسة فى خدمة الصالح العام ونهضة الأمم. ونعلم أيضا أن انحراف السياسة عن غايتها النبيلة كان سمة لأنظمة حكم مختلفة، بما فيها أنظمة الحكم التى عرفتها ثورات التحرر الأوروبية وتجارب الحكم فيما يعرف بالأنظمة الليبرالية، وتلك الفاشية والشيوعية وصولا إلى النماذج المختلفة فى بلدان العالم الثالث الذى ننتمى إليه، ولكن الفارق الجوهرى الذى وضع حدا فاصلا بين الأنظمة الفاضلة وتلك السيئة فى مختلف التجارب والنماذج هو فى إغلاق الطريق أمام استمرار الفاسدين فى سدة الحكم أو بالأحرى عدم دوام الحال لأى سلطة من السلطات أو لأى نظام حكم، لأن طول أمد السلطة هو مصدر الفساد والإفساد، فهى بطبيعتها مفسدة لصالحها، وهكذا كان مبدأ تداول السلطة ضرورة أساسية للحفاظ على دوام قيم الحرية و النهضة والتقدم، بينما استمرارها دون حدود زمنية معين ة ودون رقابة ومحاسبة مدعاة للفساد وترسيخا للاستبداد. وحتى لا نمعن فى جلد الذات أو ندعى الترويج للمقولة الخاطئة بأن شعوبنا لا تعرف الديمقراطية أو غير جاهزة لها، وبعيدا عن الاستغراق فى العموميات، فإن التوقف عند الواقع المعاصر لأفضل أنظمة الحكم من حيث الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية يعتمد فى توضيح هذا الفارق الجوهرى الذى يشكل حدا فاصلا بين البقاء على الجمود والاستبداد وبين التغيير والحياة الديمقراطية الحقة. فإذا نظرنا إلى أى رئيس غربى يأتى إلى الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة، ولنقل مثلا رؤساء الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا، نلحظ أنه يختار دائما الفريق الذى يعمل معه دون استشارة بالطبع لأى سلطة أخرى من السلطات المعروفة كالبرلمان أو القضاء أو الإعلام.... إلخ، وليس بالضرورة أن يكون هذا الفريق مثاليا، بل كثيرا ما يضم أشخاصا مكروهين وربما مطاردين بالفساد بشكل أو بآخر، إلا أن ما يجمعهم جميعا هو اقتناع الرئيس بأنهم المجموعة التى يراها مناسبة لكى تساعده فى الحكم وتقدم له النصيحة، وهى غالبا ما تؤثر بشدة على قراراته فى الداخل والخارج. والمعنى هنا أن هذا الفريق الذى يشكل حاشية الرئيس ليس جمعا من الناس يتسمون بصفات الأنبياء أو المعصومين من الخطأ، وإنما هم مثل غيرهم يصيبون ويخطئون، فقط بينهم وبين الرئيس علاقة ثقة وولاء بدرجات مختلفة. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالمسألة لا تخضع لأشخاص الفريق وميولهم ومدى نزعة الخير أو الشر فى نفوسهم، وإنما مرتبطة بالقدرة على تغيير الرئيس وفريقه، وذلك من خلال ترسيخ مبدأ تداول السلطة وإيجاد الآليات التى تحقق هذا الهدف و القبول من الجميع حكاما ومحكومين، بالمحاسبة والتغيير خصوصا إن استفحل أمر المشاكل قبل حلول انقضاء المدة الزمنية المقررة للرئيس. ومن هنا برزت أهمية الدساتير، ومبدأ الفصل بين السلطات، ورقابة البرلمان على الحكومة، ودور الإعلام فى كشف الحقائق وفضح الانحرافات. لذلك كثيرا ما يتخلص الرئيس الأمريكى مثلا من بعض مستشاريه وكبار المسئولين حوله، إذا ثبت بوضوح وقوع أخطاء جسيمة تضر بالصالح العام حتى لو كانوا من أعز الناس إلى قلبه، هذا فضلا عن تحديد مدة حكمه هو بأربع سنوات ولا يسمح له بالتجديد إلا مرة واحدة، ولا يعود إلى الحكم فى أى انتخابات عامة أخرى إلا بعد أن يحل محله رئيس آخر عند انتهاء المدتين. والحال نفسها وبأشكال أخرى تتم فى الدول الأوروبية الديمقراطية كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا. فى مصر عرفنا وجود الرئيس وحاشيته أو الفريق الذى يعمل معه ويستشيره ويتأثر بكلامه ونصائحه، لكننا لم نعرف كيف نتخلص من الرئيس ولا من حاشيته عندما يتضح بجلاء أنه أو هم قد انحرفوا عن الصالح العام، فتحول الحكم لدينا إلى «ملك عضوض»، وهو الوصف الشهير الذى ورثناه فى حياتنا السياسية منذ الدولة الأموية، وذلك لأننا تعاملنا مع الرئيس على أنه خلفية إسلامى موكل من الله بتنفيذ شرعه، وعلى الأمة طاعته دون محاسبة وإلا كان الاعتراض اعتراضا على الله وشرعه، أو ربما يؤدى الخروج عليه إلى وقوع فتنة يترتب عليها ضرر أكبر من الإطاحة به لو كان ظالما. وفى وقت من الأوقات دفعنا ثمنا غاليا من الممتلكات والأرواح بسبب التحريض على الإطاحة بالحاكم على أساس أنه لا يطبق شرع الإسلام، ولابد من إسقاطه بالقوة المسلحة وسط خلاف وجدل لم ينتهىا حول ما إذا كان الحكم عليه بأنه خارج عن الإسلام صحيحا وسليما من الناحية الشرعية أم لا. وفى حالات أخرى تعاملت مع الرئيس على أنه المستبد العادل أو الزعيم الملهم الذى يختزل الشعب فى شخصه، فهو مستبد فى تحقيق العدل بين الجميع وهو عنوان الكرامة الوطنية والشخصية الحريصة على مصالح الشعب كله، والقادرة على اختيار السياسات الأفضل التى تحقق هذه المصالح بحكم ما لديه من قدرات شخصية فريدة. وفى تقديرى، أن انعدام تداول السلطة ومن ثم دوام الجمود والاستبداد فى بلادنا يرجع إلى أسباب تعود إلى الماضى، أى هم من الموروث القديم وأخرى تعود إلى الحاضر والمعاصرة، وتتعلق برفض القبول بمتطلبات الديمقراطية كما عرفتها التجارب الغربية الليبرالية، وفى أفضل الأحوال التأرجح بين تفعيل هذه المتطلبات ودفع الثمن الاجتماعى والسياسى والثقافى اللازم لذلك، وبين الحفاظ على الموروث القديم. فمازالت البيعة هى الطريق الشرعى للحكم وليس «الانتخاب»، ولاتزال الجمعيات والحركات الاجتماعية والسياسية هى أدوات الضغط لتحقيق التغيير أو الإصلاح وليس الأحزاب، ولاتزال مؤسسة الرئاسة هى صانعة وصاحبة القرار فى نفس الوقت وليس البرلمان، ولايزال القضاء محكوما بضغوط السلطة التنفيذية وليس مستقلا ولايزال الإعلام معبرا عن السلطة الحاكمة أو أصحاب النفوذ والمال وليس الرأى العام الشعبى. حاشية الرئيس أو بطانته تتحمل جزءا كبيرا من المسئولية فى عرقلة الانطلاق من الموروث القديم إلى الجديد الديمقراطى، هذا بافتراض وجود رئيس صالح من نوع المستبد العادل أو الحاكم الديمقراطى، فعلى مدى الزمن لعبت هذه الحاشية دورا معوقا للغاية فى حدوث هذا التحول الذى طال انتظاره. وبغض النظر عما إذا كنا قد عرفنا هذا الرئيس أو ذاك فى الماضى القريب أم لا، فإن هناك وقائع دامغة تدين هذه الحاشية. حاول عبدالناصر الثوة عليها ولم يمكنه الموت، ونجح السادات فى القضاء عليها ولكنه أوجد حاشية بديلة لها، واستسلم مبارك لها فكانت الكارثة.