استقرار أسعار الذهب في مصر بعد تراجع الدولار    عاجل:- السعودية تمنع دخول مكة لحاملي تأشيرات الزيارة خلال موسم الحج    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 23 مايو 2024    أسعار الدواجن واللحوم اليوم 23 مايو    فلسطين.. إصابات جراء استهداف زوارق الاحتلال الصيادين شمال غرب خان يونس    ماذا يعني اعتراف ثلاث دول أوروبية جديدة بفلسطين كدولة؟    باحثة ب«المصري للفكر والدراسات»: قلق دولي بعد وفاة الرئيس الإيراني    العثور على ملفات حساسة في غرفة نوم ترامب بعد تفتيش مكتب التحقيقات الفيدرالي    ليلة التتويج.. موعد مباراة الهلال والطائي اليوم في دوري روشن السعودي والقنوات الناقلة    تعليم الجيزة تكشف حقيقة تسريب امتحان الدراسات الاجتماعية بالجيزة    أخبار مصر: منع دخول الزائرين مكة، قصة مقال مشبوه ل CNN ضد مصر، لبيب يتحدث عن إمام عاشور، أسعار الشقق بعد بيع أراض للأجانب    محمد صلاح يثير الجدل مجددًا بنشر غلاف كتاب "محاط بالحمقى"    اللعب للزمالك.. تريزيجيه يحسم الجدل: لن ألعب في مصر إلا للأهلي (فيديو)    نشرة «المصري اليوم» الصباحية..قلق في الأهلي بسبب إصابة نجم الفريق قبل مواجهة الترجي.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم قبل ساعات من اجتماع البنك المركزي.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم الخميس 23 مايو 2024    رحيل نجم الزمالك عن الفريق: يتقاضى 900 ألف دولار سنويا    أول دولة أوروبية تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو.. ما هي؟    ناقد رياضي: الأهلي قادر على تجاوز الترجي لهذا السبب    والد إحدى ضحايا «معدية أبو غالب»: «روان كانت أحن قلب وعمرها ما قالت لي لأ» (فيديو)    سيارة الشعب.. انخفاض أسعار بي واي دي F3 حتى 80 ألف جنيها    سر اللعنة في المقبرة.. أبرز أحداث الحلقة الأخيرة من مسلسل "البيت بيتي 2"    وأذن في الناس بالحج، رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادا للركن الأعظم (صور)    رئيس الزمالك: شيكابالا قائد وأسطورة ونحضر لما بعد اعتزاله    ارتفاع عدد الشهداء في جنين إلى 11 بعد استشهاد طفل فلسطيني    هل يجوز للرجل أداء الحج عن أخته المريضة؟.. «الإفتاء» تجيب    محافظ بورسعيد يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية بنسبة نجاح 85.1%    ضبط دقيق بلدي مدعم "بماكينة طحين" قبل تدويرها في كفر الشيخ    المطرب اللبناني ريان يعلن إصابته بالسرطان (فيديو)    بالأسم فقط.. نتيجة الصف الخامس الابتدائي الترم الثاني 2024 (الرابط والموعد والخطوات)    4 أعمال تعادل ثواب الحج والعمرة.. بينها بر الوالدين وجلسة الضحى    أمين الفتوى: هذا ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    تسجيل ثاني حالة إصابة بأنفلونزا الطيور بين البشر في الولايات المتحدة    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23 مايو في محافظات مصر    وزير الرياضة: نتمنى بطولة السوبر الأفريقي بين قطبي الكرة المصرية    البابا تواضروس يستقبل مسؤول دائرة بالڤاتيكان    تشييع جثمان ضحية جديدة في حادث «معدية أبو غالب» وسط انهيار الأهالي    بالأرقام.. ننشر أسماء الفائزين بعضوية اتحاد الغرف السياحية | صور    ماهي مناسك الحج في يوم النحر؟    سي إن إن: تغيير مصر شروط وقف إطلاق النار في غزة فاجأ المفاوضين    محمد الغباري: مصر فرضت إرادتها على إسرائيل في حرب أكتوبر    حظك اليوم وتوقعات برجك 23 مايو 2024.. تحذيرات ل «الثور والجدي»    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    محمد الغباري ل"الشاهد": اليهود زاحموا العرب في أرضهم    بسبب التجاعيد.. هيفاء وهبي تتصدر التريند بعد صورها في "كان" (صور)    22 فنانًا من 11 دولة يلتقون على ضفاف النيل بالأقصر.. فيديو وصور    مراسم تتويج أتالانتا بلقب الدوري الأوروبي لأول مرة فى تاريخه.. فيديو    ماذا حدث؟.. شوبير يشن هجومًا حادًا على اتحاد الكرة لهذا السبب    مختار مختار : علامة استفهام حول عدم وجود بديل لعلي معلول في الأهلي    بقانون يخصخص مستشفيات ويتجاهل الكادر .. مراقبون: الانقلاب يتجه لتصفية القطاع الصحي الحكومي    احذر التعرض للحرارة الشديدة ليلا.. تهدد صحة قلبك    «الصحة» تكشف عن 7 خطوات تساعدك في الوقاية من الإمساك.. اتبعها    أستاذ طب نفسي: لو عندك اضطراب في النوم لا تشرب حاجة بني    هيئة الدواء: نراعي البعد الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين عند رفع أسعار الأدوية    إبراهيم عيسى يعلق على صورة زوجة محمد صلاح: "عامل نفق في عقل التيار الإسلامي"    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى مستهل التعاملات الصباحية الاربعاء 23 مايو 2024    طالب يشرع في قتل زميله بالسكين بالقليوبية    عمرو سليمان: الأسرة كان لها تأثير عميق في تكويني الشخصي    البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان يلتقي الكهنة والراهبات من الكنيسة السريانية    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياة نزار (1).. الشاعر الذى احترف الحب مثل الأنبياء
نشر في الأهرام العربي يوم 09 - 06 - 2016


محسن عبدالعزيز
فى طفولته انتحرت شقيقته «وصال» بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لا تحبه. وفى طفولته أيضا شاهد رجال البوليس وهم يأخذون والده إلى السجن لأنه جعل من بيته منتدى المعارضة ضد الانتداب الفرنسى على سوريا.
انتحار من أجل الحب، وسجن من أجل الوطن، ثنائية شكلت حياة نزار قبانى وشعره، فظل طوال حياته يدافع عن حق المرأة فى الحب والحياة وحق الأوطان فى الحرية.
فصورة أخته وهى تموت من أجل الحب ظلت محفورة فى لحمه وذاكرته طوال حياته.


يقول: لم تخل أسرتنا من مجانين احترفوا الفن وماتوا من أجله، أختى الكبرى قتلت نفسها لأنها لم تستطع أن تفوز بمحبوبها. وجدى أبو خليل، أسس مسرحا فى دمشق فى نهاية القرن التاسع عشر فطاردوه بالبيض والطماطم، لكنه لم يتراجع لأن حلمه كان أكبر من جميع مطارديه. هل أنا مجنون الأسرة الثالث؟
إن مراجعة سجلى الشعرى والقضايا التى حوكمت بسببها، تؤكد انتسابى لهذه الأسرة المجنونة التى يموت أفرادها من أجل الفن.
«خذوا جميع الكتب
التى قرأتها فى طفولتى
خذوا جميع كراريسى المدرسية
خذوا الطباشير والأقلام
والألواح السوداء
وعلمونى كلمة جديدة
أعلقها كالحلق
فى أذن حبيبتى»
ذهب الطفل نزار المولود فى 21 مارس 1923 بدمشق للمدرسة فى سن السابعة لم يكن متفوقا ولا لماحا، وكان ينتقل من صف إلى صف بسرعة السلحفاة - على حد قوله - وعندما كان يجد اسمه بين الناجحين كان يعتقد أن الذى نجح هو نزار آخر.
فى سن الثانية عشرة أحب الرسم ووجد نفسه غارقا فى بحر من الألوان، وبعد ذلك بثلاث سنوات قرر أن يكون خطاطا وتتلمذ على يد خطاط يدوى، ثم عاد للرسم مرة أخرى وظل يعشقه حتى أصدر ديوان «الرسم بالكلمات» بعد ذلك.
ثم شغف بالموسيقى وتعلم العزف والتلحين على العود، لكنه أخير رسى على الشعر، وحفظ أشعار الرومانسيين عمر بن أبى ربيعة، وجميل بثينة، وقيس بن الملوح.
يقول سقط على الشعر فى شهر أغسطس 1939، وأنا فى السادسة عشرة من عمرى، ولم يترك لى مجالا للاختيار أو الاعتراض، كنت على ظهر سفينة مبحرة إلى إيطاليا حين بدأ الماء يرتفع، والموج يقتحم حجرات السفينة، وممراتها وغرف القيادة، وهكذا الشعر يتجمع فى الداخل كما تتجمع المياه الجوفية فى باطن الأرض، ثم يختار المكان والزمان الذى يضربنا منه، نحن لا نفعل شيئا للقصيدة، هى التى تفعل بنا كل شىء، وهى التى تخترقنا وتجتاحنا وتكتبنا.
«فكرت أن الشعر يهبط كالمفاجأة السعيدة
ويجيء مثل الطائر الليلى من جزر بعيدة
فكرت أن الشعر يحمل كيسه
ويوزع الألعاب والحلوى على الأطفال فى السنة الجديدة
حتى وجدتك بين أقلامى وبين دفاترى
فعرفت أنك تكتبين القصيدة»
التحق نزار قبانى بكلية الحقوق عام 1941 واعتبر أن التحاقه بهذه الكلية وليس الآداب هو غلطة جميلة ارتكبها، لأنها كانت لمصلحته ومصلحة الشعر، فليس كل خريجى الآداب شعراء جيدين، وربما كان دخولى الحقوق هكذا يقول، هو الذى أنقذنى من التشويه المهنى، وحمانى من أن أكون مدرسا للغة العربية فى قرية نائية من قرى الوطن العربى.
وخلال دراسته للحقوق وقبل تخرجه بعام أصدر ديوانه الأول «قالت لى السمراء»، وقام بطبعه على نفقته الخاصة، وأثار هذا الديوان جدلا واسعا، ومن يومها قالوا عنه شاعرا إباحيا، وعلق هو على ذلك بأن ديوان «قالت لى السمراء» أحدث وجعا عميقا فى جسد المدينة التى ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها، لقد هاجمونى بشراسة وحش مجنون، وكان لحمى يومئذ طريا
«يقول عنى الأغبياء
إنى دخلت إلى مقاصير النساء.. وما خرجت
ويطالبون بنصب مشنقتى.. لأنى..
عن شئون حبيبتى شعرا كتبت
أنا لم أتاجر مثل غيرى بالحشيش
ولا سرقت ولا قتلت
لكننى أحببت فى وضح النهار
فهل ترانى قد كفرت؟»
كان نزار يحب أمه كثيرا، ويقال إنها ظلت ترضعه حتى سن السابعة من عمره وتطعمه بيدها حتى الثانية عشرة، ومن الواضح أنها كانت تشجعه على الشعر، لأنه يقول عنها: أمى هى الوحيدة التى كانت تنحاز إلى أعمالى التخريبية، وعندما عرف أبى ذات يوم أننى أرتكب كتابة الشعر.. قال لأمى: أخشى أن عفريتا قد ركب هذا الولد فخذيه غدا إلى بيت أقرب شيخ ليبخره، ويكتب له حجابا يحميه من زيارة العفاريت، وبعد نصف قرن مازال عفريت الشعر يركبنى، وكل الأحجبة لم تطرد عفريتا واحدا من رأسى.
فور تخرجه عمل نزار قبانى بالسفارة السورية بالقاهرة عام 1945 وكان عمره 22 عاما، كما عمل سفيرا فى لندن وأنقرة والصين ومدريد.
«لو كنت فى مدريد فى رأس السنة
كنا سهرنا وحدنا
فى حانة صغيرة
ليس بها سوانا
تبحث فى ظلامها عن بعضها يدانا».
بعد يوانه الأول أصبح نزار نجما تهفو إليه قلوب الجميلات، لكن هذا لم يجعله سعيدا، لأنه تعب من كثرة النساء التى تحمل الحب الحقيقى الذى يريده.
وشكا من ذلك فى أحد حواراته قائلا: كنت كلما ودعت امرأة، أستيقظ من فراشى باكيا، وفى حلقى بحار من الملح والفجيعة. كنت أبحث مثل شهريار عن امرأة تحبنى لذاتى لا لكونى شاعرا معروفا تحيط به الخرافات والأساطير من كل جانب.
«أحببتنى شاعرا طارت قصائده
فأولى مرة أن تفهمى الرجلا
وحاولى مرة أن تفهمى مللى
قد يعرف الله فى فردوسه المللا»
وكان ديوانه الثانى صفعة لأصحاب التقاليد البالية بداية من العنوان «طفولة نهد»، مرورا بعناوين القصائد «حلمة» «القبلة الأولى» «هجمة الشفتين»، وفسر ذلك فى مقدمة الديوان: نشأت على كره عنيد للشعر الذى يراد من نظمه إقامة ملجأ أو تاريخ ميلاد حبى أو تعداد لمآثر الميت على رخامة قبره.
أريد أن يكون الفن لكل الناس كالهواء والماء وغناء العصافير، يجب ألا يحرم منه أحد. إننى أحلم بالمدينة الشاعرة لتكون إلى جانب مدينة الفارابى الفاضلة، وحينئذ يكتشف الإنسان نفسه ويعرف الله.
حاولت فيما كتبت أن أرد قلبى إلى طفولته وأتخير ألفاظا بسيطة وأختار من أوزان الشعر ألطفها على الأذن، فإذا أحس القارئ أن قلبى صار مكان قلبه، وأنه يعرفه قبل أن يعرفنى وأننى صرت له فما وحنجرة، فقد أدركت غايتى.
وفى قصيدة «حلمه» قال:
«تهز هزى وثورى
يا خصلة الحرير
يا مبسم العصفور
يا أرجوحة العبير
يا حرق نار سابحا
فى بركتى عطور
يا كلمة مهموسة
مكتوبة بنور»
ولأن نزار قبانى لا يصلح إلا أن يكون شاعرا، فقد قرر أن يترك الدبلوماسية نهائيا ويتفرغ للشعر تماما، حدث ذلك عام 1966، حيث أسس دار نشر منشورات نزار قبانى ثم أصدر ديوانه المهم «الرسم بالكلمات»، الذى فتح عليه أبواب الهجوم من كل مكان:
»تعبت من السفر الطويل حقائبي
وتعبت من خيلى ومن غزواتى
لم يبق نهد أبيض أو أسود
إلا زرعت بأرضه راياتى
لم تبق زاوية بجسم جميلة
إلا ومرت فوقها عرياتى
فصلت من جسد النساء عباءة
وبنيت أهراما من الحلمات»
وجاءت نكسة 1967 لتصيب كبرياء الشاعر الطاووسى فى مقتل
كانت الهزيمة أشد إيلاما لنزار قبانى أكثر من أى أحد، لأنه العاشق الكبير، كيف يستطيع أن ينظر فى عينى حبيباته والوطن مهزوم ومكسور؟! لهذا جاءت قصيدته هوامش على دفتر النكسة صرخة جريح ضد الجميع، أوطانا وثقافة وشعوبا وحكاما ومحكومين.
«إذا خسرنا الحرب لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملك الشرقى من مواهب الخطابة
بالعنتريات التى ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها
بمنطق الطبلة والربابة
كان بوسع نفطنا الدافق بالصحارى
أن يستحيل خنجرا
من لهب ونار
لكنه
يراق تحت أرجل الجوارى»
كان نزار يعيش حياة القلق والملل مثل فنان يقول: أنا إنسان ملول، والملل الفنى ظاهرة صحية، لأنه ينقذ الفنان من تكرار نفسه ومن تراكم الصدأ على دفاتره.
هذا التململ الشعرى بدأ يطاردنى، بعد أن أصدرت ديوان الرسم بالكلمات عام 1966، فمنذ ذلك التاريخ بدأت أسأل نفسى ثم ماذا؟
إن صورة الحب كما رسمتها للناس فى «طفولة نهد» و«حبيبتى»، و«أنت لى» غامت ألوانها، أصبحت غير قادرة على استيعاب الصورة العصرية المتطورة للحب. فالحب مادة سريعة التحول ويأخذ كل يوم شكلا جديدا:
وبدأت منذ عام 1968 كالسجناء أحفر الأنفاق تحت الأرض للخروج إلى برية أكثر اتساعا وبحار أكثر انفتاحا.
وكانت التجربة الأولى كتاب الحب 1970 وهو محاولة لكتابة القصيدة العربية، بشكل جديد وإلباسها ثوبا عصريا مريحا وعمليا، فكتاب الحب أتعبنى واستهلكنى ومزقت عشرات المسودات، ومن خلال عملية الشطب والتمزيق عرفت وجعا جديدا، لم أعرفه فى كل تاريخى الشعرى، إنه وجع الإيجاز.
«إلى ثلاثينية
دخلت الثلاثين منذ شهور
وما زلت أشعر برغم الحوار المثقف
أنك بعد تخافين منى
ألابد أن يتدخل شيخ القبيلة
بينى وبينك.. كى تطمئنى؟»
تزوج نزار مرتين الأولى من ابنه خاله زهراء أقبيق وأنجب منها هدباء وتوفيق وقد توفى ابنه توفيق عام 1973، وكان فى السنة الخامسة بكلية طب القاهرة أصيب بمرض فى القلب حار فيه الأطباء، فأخذه نزار إلى لندن، وهناك قالوا له: لا فائدة وبرغم كل ذلك لم ييأس واستأجر له منزلا فى الريف الإنجليزى الساحر عسى أن يخفف الهدوء والجمال من قسوة الألم.
تلك وصفة شاعر قد تشفى القلوب العليلة بالحب، لكنها مع المرض الحقيقى غالبا لا تفيد، فقد ظل توفيق يعانى من الآلام المبرحة حتى فارق الحياة وعمره لا يتجاوز 24 عاما، تاركا حسرة ووجعا فى قلب أبيه الذى رثاه بقصيدة الأمير الخرافى توفيق قبانى
«لأى سماء نمد يدينا؟
ولا أحد فى شوارع لندن يبكى علينا»
وقد واجه فجيعة موت ابنه بمفرده فى بلد غريب لا يعرفه فيها أحد.
«أواجه موتك وحدى
وأحمل كل ثيابك وحدى
وألثم قمصانك العاطرات
واسمك فوق جواز السفر
وأصرخ مثل المجانين وحدى
وكل الوجوه أمامى نحاس
وكل العيون أمامى حجر
فكيف أقاوم سيف الزمان
وسيفى انكسر»
كانت زوجته الثانية «بلقيس» حب عمره، وهى سيدة عراقية قابلها أول مرة فى العراق عام 1962، فى أمسية شعرية وقد جذبه شعرها الفاحم الذى ينزل على ظهرها كأمواج الليل، ، وتكررت اللقاءات والأمسيات، ثم تزوجها وعاش معها أجمل أيام عمره وأنجبت له زينب وعمر، وكانت تعرف قدره جيدا وتقول أليس رائعا أن تحيا امرأة حياة كاملة مع رجل تتمناه كل النساء؟!
كانت سيدة ناضجة عاقلة استطاعت أن تحتوى نزار بكل عبقريته وجنونه.
يقول عنها نزار، كم مرة تلقت مكالمات هاتفية من معجبات وأعطتنى سماعة التليفون لأتكلم، وخرجت من الغرفة حتى لا تحرجنى، وعندما كانت تتجمع حولى الصبايا فى نهاية أمسية شعرية، كانت تترك القاعة وتجلس فى سيارتها حتى لا تضايقنى.
وعندما سألتها صحفية ألا تتضايقين من المعجبات حول زوجك؟
أجابت بكل كبرياء، ولماذا أتضايق معجبات نزار جزء من مجدنا الشعرى المشترك.
«هل تعرفون حبيبتى بلقيس؟
فهى أهم ما كتبوه فى كتب الغرام
كانت مزيجا رائعا
بين القطيفة والرخام
كان البنفسج بين عينيها
ينام ولا ينام»
لكن بلقيس الزوجة والحبيبة ماتت مثل كل أحلام الشاعر، ماتت فى تفجير السفارة العراقية التى كانت تعمل بها فى بيروت عام 1981.
بلقيس
مذبوحون حتى العظم
والأولاد لا يدرون ما يجرى
ولا أدرى أنا.. ماذا أقول؟
هل تقرعين الباب بعد دقائق؟
هل تخلعين المعطف الشتوى؟
هل تأتين باسمة
ونافرة
ومشرقة كأزهار الحقول؟
...
بلقيس
كل غمامة تبكى عليك
فمن ترى يبكى على
بلقيس كيف رحلت صامتة
ولم تضعى يديك على يديا؟
وبعد وفاة بلقيس حبيبة عمره، غادر لبنان متنقلا حائرا بين باريس وجنيف ثم استقر أخيرا فى لندن، وقضى بها 15 عاما، دون أن يتزوج وفاء لحبيبته بلقيس، بعد أن احترف الحب والحياة والبشر جميعا مثل كل الأنبياء.
لم يتعال نزار قبانى على الجمهور أبدا، فى شعره واعتبر نفسه أول من طبق اشتراكية الشعر فى العالم العربى، وأول من أمم الكلمات وطرحها على التداول الشعرى، لأن المهم ليس أن نطرح الواقعية الاشتراكية فلسفة وتنظيرا فى حين نتصرف فى كتابتنا مع الجمهور تصرفا أرستقراطيا ونقيم ملايين الجدران بيننا وبينه، ونركض أمام الجماهير ونتركها تلهث خلفنا.
وقد لعب شعرى دوره بنجاح فى إضاءة الوجدان العربى وكنس ألوف الأكاذيب والخرافات التى كانت تعشش فى مغارات النفس العربية سواء ما يتعلق بالحب أم الجنس أم السياسة.
عندما قلت أحبك
كنت أعرف أن المتوحشين سيتعقبوننى بالرماح المسمومة وأقواس النشاب، وأن صورى.. ستلصق على كل الحيطان وأن بصماتى ستوزع على كل المخافر وأن جائزة كبرى.
ستعطى لمن يحمل لهم رأسى
ليعلق على بوابة المدينة
...
ولا يعانى نزار قبانى من ازدواجية فى حياته، مثل شعرائنا الذين يدعون دائما إلى الحرية والتحرر التام فى علاقاتهم المتعددة مع النساء، لكنهم يحرمون على بناتهم وأخواتهم ممارسة هذه الحرية.
فهو يقول: أنا شاعر لا يناقض نفسه ولا يقيم حواجز أو حدودا بين ما يكتبه على الورق وبين طريقة حياته، الحرية التى أنادى بها ليست وقفا على بنات الناس فقط، بل تنطبق على بناتى هدباء وزينب وإلا كنت شاعرا منافقا.
يا سادتى إن السماء رحيبة جدا، ولكن الصيارفة الذين تقاسموا ميراثنا وتقاسموا أوطاننا
وتقاسموا أجسادنا
ولم يتركوا شبرا لنا
يا سادتى: عفوا إذا أقلقتكم أنا لست مضطرا لأعلن توبتى هذا أنا.
عندما حدثت انتفاضة أطفال الحجارة ضد الاحتلال الإسرائيلى، كتب ديوان ثلاثية أطفال الحجارة عام 1982، وقال فى مقدمته لا بد من الاعتراف أن أسيادنا وأسياد الأدب العربى فى هذه المرحلة هم أطفال الحجارة، فالحجر الفلسطينى نسف إمارة الشعر من جذورها وصار هو أمير الشعراء بلا منازع.
وأسقط أطفال الحجارة الخطاب الشعرى القديم والخطاب السياسى القديم، وفتحوا أمامنا أبواب الثورة والحرية والحداثة على مصراعيها.
آه يا جيل الخيانات
ويا جيل العمولات
ويا جيل النفايات
ويا جيل الدعارة
سوف يجتاحك مهما أبطأ التاريخ
أطفال الحجارة
بعد 35 ديوانا وثورة فى الشعر والعقل العربى، قررت دمشق إطلاق اسمه على الشارع الذى ولد فيه، وقال نزار: هذا الشارع الذى أهدته لى دمشق هو هدية العمر وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنة، تذكروا أنى كنت يوما، ولدا من أولاد هذا الشارع لعبت فوق حجارته وقطفت أزهاره وبللت أصابعى بماء نوافيره.
وصف نزار قبانى الموت بأنه صديقه الذى تعرف إليه فى صيف 73 بلندن عندما أخذ منه توفيق ابنه، ثم زاره مرة أخرى عام 1981، وأقنع بلقيس زوجته أن تذهب معه، كما طرق بابه هو فى مستشفى جورج تاون، فى واشنطن عام 1982، عندما كان يجرى جراحة بقلبه لكنه لم يفتح له فترك له الموت بطاقة وذهب.
لكن الموت عاد يحوم حوله مرة أخرى بداية من عام 1997 بعد أن تردى وضعه الصحى، واستطاع الموت أن يأخذه كصديق فى الثلاثين من شهر إبريل 1998، وعمره 75 عاما.
وطلب فى وصيته أن يدفن فى دمشق التى علمته الشعر والإبداع وأبجدية الياسمين.
وبالفعل دفن بدمشق فى جنازة مهيبة تليق بمن علمنا الحب والغناء، وكانت أبجدية الياسمين آخر ما أصدره من دواوين عام 1998.
وكتب عنه محمود درويش شموع كثيرة تضاء لنزار قبانى، لكنها أقل من الشموع التى أضاءها الشاعر طيلة خمسين عاما للعشاق والمدافعين عن حرية الجسد والوعى والأرض.
شاعر متفرد مند قصيدته الأولى، أنزل الشعر من أبراج النخبة إلى متناول الأيدى كالخبز والورد فى عذوبته قسوة الحرير على زبيب الصدر الفضى، وفى قسوته عذرية انتحار الأنهار فى البحر، عاشق الثنائيات الحادة والألوان الساطعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.