سعدى يوسف فى مطْلع الثلاثينيّات، نفّذَ بوريس كارلوف فيلمَه الأول عن فرانكنشتاين، ليكونَ مقدمةً لأفلام رعبٍ أمثال زوجة فرانكنشتاين ، ابن فرانكنشتاين.. إلخ. قبل ستين عاما، شهدتُ بإحدى دور السينما، فى البصرة، مدينتي، واحداً من تلك الأفلام التى لن تُنسى. ولقد كنتُ قرأتُ، فيما قرأتُ، سنواتِ الصبا، رواية مارى شَلِى ( 1797-1851) الموسومة «فرانكنشتاين أو بروميثيوس العصر « Frankenstein or Modern Prometheus (من المفيد أن أذكر أن مارى كانت زوجة الشاعر الشهير بيرسى بيش شَلِي). قبل أيام، وأنا فى تورنتو، دخلتُ، مصادفةً، دكّانَ أنتيكات، من تلك الدكاكين التى تعرضُ كتُباً إلى جانب السِلَع الأخرى، وهى أماكنُ يرتادها الناسُ هنا، كثيرا، لأن الريع المتأتى من المبيع يذهب إلى أعمالٍ خيريّةٍ. وقد كانت سعادتى غامرةً آن وجدتُ رواية مارى شَلي، هناك، فى طبعةٍ أمريكيةٍ أنيقةٍ، من سنة 1993. * قراءتي، اليومَ، غيرُ قراءتى أمسِ البعيد. أنا، اليومَ، أُدَقَّقُ، وأُنعِمُ النظرَ ، وأتفكّرُ فى النصِّ ، وأتذكّرُ، وأستعيد، وأقارِنُ. لقد دهشتُ، حقّاً، لأن إنجليزيّة القرن التاسع عشر، إنجليزية مارى شَلِي، لم تختلفْ كثيراً عن إنجليزية القرن الحادى والعشرين التى نتداولُها الآن. صحيحٌ أن كلماتٍ معيّنةً اكتسبتْ خصوصيّةَ استعمالٍ مثل Intercourse ، التى تستعمَل هذه الأيام تعبيراً عن الاتّصال الجنسي، لا الاتّصال عموما، لكن لغة القرن التاسع عشر ظلّت مُيَسّرةً لقاريءٍ مثلي. هل لفن الرواية دخْلٌ بهذا الأمر؟ * على أية حالٍ، مضيتُ فى القراءةِ، متلهِّفاً أو أكادُ، حتى لقد أتممتُ الروايةَ فى يومٍ واحدٍ. قراءتى هذه صحّحتْ لديّ أموراً من بينِها، أن فرانكنشتاين ليس اسماً للمخلوق الشائه، بل هو اسمٌ للسيد فيكتور فرانكنشتاين، طالب العِلْمِ المُغالى فى الطلَبِ، الذى بعثَ الحياةَ فى الرميم الذى أضحى وحشاً أو بمنزلة الوحش. ومن بين ما هدتْنى إليه قراءتي، أنّ العمل، عمل مارى شَلِي، ليس روايةَ رُعبٍ، بإطلاق. إنه عملٌ متأنٍّ، عميقٌ، فيه أكثرُ من مدخلٍ فلسفيٍّ إلى الإنسان ومصائره. كان فيكتور فرانكنشتاين يطمحُ إلى تحقيق الإنسان الكامل: الحُلمِ الأثير. ولقد أخطأَ السبيلَ، فجاءنا بالوحش. إلاّ أن هذا الوحشَ جديرٌ بعنايتنا، نحن، بنى الإنسان. هذا الوحشُ كان يريد أن يخرج من وحشيّته. كان يريد أن يألفَ الناسَ، وأن يأْلفَه الناسُ: إنه يهذِّبُ حواسّه، ويكتشف النارَ، واللغة، والملبَسَ والمَطعمَ.. إلخ. وهو حاقدٌ على فيكتور فرانكنشتاين لأنه لم يَبْرأْه بشَراً سوِيّا. وحشُ فرانكنشتاين، فى مسعاه إلى الاكتمال، ليس بعيداً عن «جمعة» روبنسن كروزو، ولا عن حيّ بن يقظان، أو فاوسْتْ، أو الشاعر أوفِيدْ فى مَبعَدِه الروماني. * أُورِدُ هذا المقْطعَ: أتَمَّ الكائنُ كلامه، وركّزَ نظراتِه عليّ، متوقِّعاً جواباً، لكنى كنت حائراً، مرتبكاً، غير قادرٍ على ترتيب أفكارى بما يكفى كى أفهمَ المدى الكامل لمقترَحِه. مضى يقول: عليك أن تخلقَ أنثى لي، أعيش معها، وأتبادل العواطفَ الضرورية لوجودي. * إذن: لم يكن وحشُ فيكتور فرانكنشتاين وحشاً. مَن الوحشُ؟ تورنتو 30/04/2016