لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. "ميل بروكس" فنان الكوميديا الأمريكي الشهير قوة ضاربة حقيقية في عالم الكوميديا، وربما تعرفه أو لا تعرفه، لكنك بالتأكيد سوف تُعجب بأي عمل تراه له؛ مثلا منذ أعوام عرض التليفزيون فيلم "السروج البراقة" وهو محاكاة ساخرة (Spoof) لأفلام رعاة البقر، وقد راق الفيلم لكل مَن رآه. له كذلك عمل شهير جدا وناجح اسمه "المنتجان"، وإلى حد ما تمّ استخدام الحبكة في فيلم "أنا باضيع يا وديع" مع فارق هائل طبعا. لقد قدّم بروكس من أفلام المحاكاة الساخرة تلك: • "السروج البراقة" (blazing saddles) وهو محاكاة لأفلام رعاة البقر. • "فرانكنشتاين الصغير" (Young Frankenstein) وهو محاكاة لأفلام الرعب. • "كرات الفضاء" (Spaceballs) وهو محاكاة لفيلم "حرب الكواكب". • "دراكيولا ميت ومستمتع بهذا" (Dracula dead and loving it) وهو محاكاة أخرى لأفلام دراكيولا. • "القلق العظيم" (High anxiety) وهو محاكاة لأفلام هتشكوك. • "روبين هود: رجال في ثياب ضيقة"، وهو محاكاة لأفلام روبين هود. • "فيلم صامت" (Silent Movie) وهو محاكاة لأفلام السينما الصامتة الكوميدية. في كل هذه الأفلام يكون ميل بروكس كاتب قصة وسيناريو ومخرجا وممثّلا في الغالب.
فيلم اليوم "فرانكنشتاين الصغير" يعود لعام 1974، وهو محاكاة ساخرة لأفلام فرانكنشتاين كما قلنا؛ من أجل الحفاظ على التأثير المحبّب لفيلم فرانكنشتاين القديم تمّ استخدام الأبيض والأسود وهي جرأة بالغة في السبعينيات؛ حيث كان الناس يريدون رؤية كل شيء ملونا (شعرت بإحباط شديد عندما دخلت السينما وأنا طالب في المدرسة الإعدادية، واكتشفت أن الفيلم أبيض وأسود).. كما أن مؤثرات ستريكفادين الكهربائية التي استعملت في الفيلم القديم تمّ استخدامها هنا بالضبط. بينما كان بروكس يخرج فيلم "السروج البراقة"، اقترح الفنان جين وايلدر أن يُقدّما قصة ماري شيللي الشهيرة فرانكنشتاين، والسؤال هو: ماذا حدث لحفيد الدكتور فرانكنشتاين؟ الحفيد الذي يعيش في زمننا هذا، ويكتشف أوراق تجارب جده ويصمّم على أن يعيد التجربة؟ راقت الفكرة لبروكس جدا، وبدأ صنع هذا الفيلم رائع الجمال، واللافت أن كل كادر فيه يدل على حب عميق للنسخة الأصلية العتيقة.
"ميل بروكس" فنان الكوميديا الأمريكي الأشهير سوف يخيل لك عندما ترى الفيلم أنه تمّ تصويره عام 1930؛ بسبب الأبيض والأسود وطريقة الانتقال من لقطة لأخرى... إلخ، لكن الحقيقة أن بروكس أخرجه في السبعينيات من القرن الماضي.. إنه كالمؤلف الذي يحاول اليوم أن يكتب بأسلوب الجبرتي، ومن الغريب أن الفيلم كوميدي لكن فيه لحظات مخيفة حقا. سوف يلاحظ مَن يشاهد أعمال ميل بروكس أنه يستخدم عددا محدودا من الممثّلين الذين يحبّ العمل معهم؛ ومنهم: جين وايلدر ومارتي فلدمان ومادلين كان وكلوريس ليتشمان، والأمر يتكرر هنا. إن جين وايلدر هو بطل الفيلم.. في وايلدر شعرة جنون يسهل أن تلمحها في معظم أدواره بعينيه المتسعتين وصرخاته المجنونة. هنا يلعب دور البروفيسور فرانكنشتاين الذي يدرس بجامعة أمريكية.. إننا في بداية الفيلم نرى تابوتا ينفتح ومومياء راقدة فيه، ثم ينزع أحدهم صندوق أوراق تحتضنه المومياء. شاهد افتتاحية الفيلم الموجسة هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: ويعرف البروفيسور أنه قد ورث القلعة التي يملكها جده في ترانسلفانيا.. أراد بروكس أن تدور الأحداث في ترانسلفانيا؛ لأنها مهد قصص الرعب الغربية، بينما القصة الأصلية تقع في سويسرا. في طريقه للقلعة يقابل الخادم التقليدي في أفلام الرعب.. الأحدب المخيف (إيجور)، وهنا يلعب دوره مارتي فلدمان الممثل البريطاني جاحظ العينين، وهنا دعابة لفظية، فبدلا من نطق الاسم "إيجور" ينطقونه "آيجور" (Eye gore) إشارة لعينه المخيفة.
إضغط لمشاهدة الفيديو: أو هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: وفي القلعة ذاتها يُقابل الممثلة الباردة ذات الوجه المخيف كلوريس ليتشمان التي تنتفض الخيول رعبا عند سماع اسمها، وسوف نعرف أنها كانت تحبّ جد فرانكنشتاين وهي مصدر عزف الكمان الغامض المخيف ليلا. إضغط لمشاهدة الفيديو: الآن يجد الحفيد قبوا سريا، ويجد في القبو كل أوراق جده المخيفة إضغط لمشاهدة الفيديو: يقرأ تجربة جده في إعادة الحياة لجثة عن طريق التيار الكهربي.. هكذا يصمّم على أن يكرر التجربة، ويقوم بسرق جثة لص تمّ شنقه ليعيد لها الحياة. جاء دور المخ.. لهذا يرسل مساعده لسرقة مخ من المستشفى، بالطبع يكون المساعد أبله لا يُجيد القراءة، لذا يقوم بسرقة مخ في مرطبان لا يستطيع قراءة المكتوب عليه.. يعتقد أن Abnormal هو اسم الشخص.. النتيجة طبعا هي مخ مجنون في جسد لص عملاق. يتم صنع الوحش الضخم وتبدأ اللحظات الدرامية التي يعرفها المشاهد جيدا.. لحظات انهمار الصواعق على الجثة المعلقة، مع صرخات العالم المجنونة. بالطبع تفشل التجربة أولا، ثم بعد قليل يكتشف العالم أنها نجحت جدا وأن الوحش قد بعث.. المشكلة هي أنه مجنون فعلا ويحاول خنقه، وهذا يجعله يشك في أن هناك خطأ ما، الأمر الذي يتأكّد منه عندما يستجوب الأحدب. شاهد اعتراف إيجور باسم صاحب المخ هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: في البلدة يشعر الناس بقلق وتوجّس من القلعة ويخشون أن يكون الحفيد يكرر تجارب جده، وهكذا ينشأ خيط آخر هو تحقيق المفتش كيمب في الأمر، وهنا يجد ميل بروكس فرصة عمره للسخرية من سكان أوروبا الشرقية.. اللكنة المضحكة والذراع الخشبية وعصابة العين.. إن كنيث مارس ممثّل ظريف فعلا يظهر في معظم أفلام بروكس، وأداؤه في هذا الفيلم لا يُنسى.
إضغط لمشاهدة الفيديو: يهرب المخلوق محاولا ممارسة الدمار في كل مكان، وبعد قليل يصير اجتماعيا ولطيفا جدا، لدرجة أنه يقدّم بعض العروض الراقصة في مشاهد تُذكّرنا بالمشاهد الأخيرة من فيلم "كنج كونج". الفكرة كذلك أن خطيبة فرانكنشتاين تهيم به حبا، وهكذا ينتهي الفيلم بأن تصير هي للمخلوق، بينما يرتبط البروفيسور بالفتاة الحسناء التي قابلها في قلعة فرانكنشتاين، لا أستطيع شرح النهاية أكثر هنا. نال الفيلم حشدا من الجوائز -وإن لم يحصل على أي أوسكار- كما احتلّ مكانه في موضع متقدّم من قوائم أفضل 100 فيلم كوميدي في التاريخ، واعتبرته مكتبة الكونجرس فيلما مهما ذا مكانة ثقافية عالية.