إيمان عمر الفاروق لم يعد موجودا فى مكتبه المطل على نيل الجيزة، لنهرع إليه نتلمس الحقيقة الخفية عند أطراف لسانه وأصابعه، لكنه يرقد كما كان دوما بشرفة التاريخ، حيث إطلالة المشهد أكثر رحابة واتساعا وعمقا، حيث المقر الدائم لمكتب الأستاذ بمتن الوقائع والأحداث التاريخية بميادين السياسة وشوارع التاريخ الذى يسكن بخطوط كفه وتجويف عقله، ويتعامل معه بوصفه محاولة لتنشيط الذاكرة، وليس مجرد سجل وتدوين لما فات، وفى رحلة تنقيبنا عن جذور "سايكس –بيكو" وشهادة ميلادها عثرنا على فصل كامل عن "مارك سايكس " فى الجزء الأول من كتاب الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل " المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل " قام بإنعاش ذاكرتنا القومية وتغذية شرايين الوعى العربى بجرعة مكثفة من المعلومات فى بناء تحليلى، أحكم الأستاذ هندسته كعادته، حيث مزج بين اتفاقية "سايكس-بيكو" و"وعد بلفور" باعتبار الأولى مقدمة أفضت إلى الثانى وكان الرابط بينهما شخصية السير مارك سايكس بالمؤثرات اليهودية عليه، كاشفا الدور الخفى الذى لعبه للتمهيد لإقامة وطن قومى لليهود، وذلك وفقما تشهد به الوثائق البريطانية. لقد تركنا العنان لقلم الأستاذ لإثراء ملفنا، وكأنه أبى ألا يشاركنا تلك الذكرى الأليمة بتاريخ العالم العربى حتى بعد رحيله، أو ربما عز علينا نحن أن نفتقده، فلم يضن علينا بإرث وافر من تركته الوثائقية.
لا يزال ظهور "مارك سايكس" على مسرح الأحداث بالشرق الأوسط، والدور الذى قام به فى تلك اللحظة لغزا من الألغاز. ولم يكن " مارك سايكس" يهوديا وإنما كان كاثوليكيا، وكان إضافة إلى ذلك صهيونيا بالمعنى المسيحى. ويمكن أن يقال إضافة إلى ذلك إن التأثيرات اليهودية عليه كانت غالبة، فوالدته الليدى "هنريتا سايكس" كانت لسنوات طويلة عشيقة للسياسى البريطانى الشهير "بنجامين دزرائيلي" أول وآخر يهودى يتولى رئاسة الوزارة فى بريطانيا (وذلك طبقا لما ورد فى تاريخ حياته المعتمد الذى نشرته "جين رايدلي" فى لندن سنة 1995).وكان "مارك " ابن "هنريتا" موضع اهتمام "دزرائيلى "الذى ظل فى رئاسة الوزارة أو خارجها سياسيا، واسع النفوذ شديد الارتباط بالفكرة الصهيونية. مؤمنا وعاملا من أجل توطين اليهود فى فلسطين. ومن المعقول أن كثيرا من قناعات "دزرائيلى " رسخت فى وعى "مارك سايكس "من أيام طفولته وشبابه، كما أن شخصيته تأثرت بروح المغامرة واللامبالاة التى اشتهر بها "دزرائيلي". وقبل الحرب كان "مارك" قد أصبح عضوا فى مجلس العموم البريطاني، واشتهر بالفعل بتعاطفه مع اليهود ومع الحركة الصهيونية.وكانت صلاته وثيقة بكثيرين منهم، وأولهم اللورد "روتشيلد". وطبقا لرواية مارك سايكس نفسه فإنه فور نشوب الحرب، التحق بفرقته وذهب معها إلى خنادق القتال فى فرنسا، وذات يوم من ربيع سنة 1915(بعد نشوب الحرب بعدة شهور) كان اللورد "كيتشنر" –قائد القوات البريطانية السابق فى مصر والقائد العام للجيش البريطانى وقتها- يتفقد مواقع الجبهة فى فرنسا، ووصل إلى مركز قيادة متقدم، فإذا عينه تقع على مارك سايكس. ويروى مارك سايكس فى مذكرة كتبها أن اللورد كيتشنر فوجئ به موجودا فى جبهة القتال، فوجه إليه إحدى نظراته التى اشتهرت بحزمها ونفاذها، وقال له بحدة "سايكس، ماذا تفعل هنا ؟" رد سايكس قائلا لكيتشنر" أؤدى واجبى يا سيدى "، وقال له كيتشنر بسرعة: "مكانك فى هذه الحرب ليس هنا، مكانك فى الشرق، فاذهب إلى هناك ".ثم استطرد كيتشنر محددا أمره قائلا لمارك سايكس "سلم كتيبتك الليلة إلى نائبك وتوجه إلى لندن، وستجد هناك تعليمات تنتظرك بما يتعين عليك أن تعمله ". وعندما وصل مارك سايكس إلى لندن عرف أن مهمته فى الوقت الراهن هى رسم خريطة الشرق الأوسط بالتنسيق مع فرنسا بما فى ذلك الاتفاق على قسمته بين القوتين. وسافر سايكس من لندن إلى القاهرة، ثم عاد بعد ذلك إلى باريس ليلتقى ب "جورج بيكو " –الذى أصبح قنصل فرنسا فى القاهرة- ويبدأ معه المفاوضات التى انتهت بينهما بالاتفاقية التى اشتهرت باسم "سايكس- بيكو". إن الاتفاقية التى وقع عليها الاثنان ظلت سرا من أسرار الحرب، حتى قامت حكومة "سان بيتسبرج "المؤقتة بعد سقوط حكم "آل رومانوف" فى روسيا، وبعد قيام الدولة البلشفية فيها، بإذاعة نصوصها وخرائطها. وأحدثت إذاعتها صدمة كبرى فى العالم العربي. وكان أكثر من أصيبوا بالصدمة هو المعتمد البريطانى فى القاهرة السير "هنرى مكماهون"، بالإضافة إلى مكتب المخابرات فيها (مكتب القاهرة)، الذى يشرف عليه "جلبرت كلايتون"، "لأن ما فيها جاء متناقضا فى كثير منه مع كل ما كانت تجرى مناقشته من خلال الاتصالات مع الشريف "حسين"وأبنائه، وبالذات "عبد الله" و"فيصل". وبالفعل فإن الأطراف العربية جميعها أخذت على غرة، فخريطة "سايكس-بيكو" التزمت بالتقسيم بين "الساحل" و"الداخل"، وهو أمر لم يكن الشريف حسين، ولا كان القوميون والإسلاميون العرب – من أنصار مشروع الدولة العربية المستقلة والخلافة الإسلامية العربية – على دراية به. ثم إن الخريطة – بعد ذلك- كانت قاطعة فى أن فرنسا سوف تحصل على سوريا، وهذا أمر يعارضه الشريف حسين، كما يعارضه كل الثوار العرب، وهو كذلك أمر لا يوافق عليه المركز الإمبراطورى فى القاهرة، وعلى رأسه المعتمد البريطانى فى مصر السير "هنرى مكماهون"، ومكتب المخابرات (مكتب القاهرة) الذى يرأسه "كلايتون". وكان رأى هؤلاء جميعا، ومعهم القائد العام للقوات البريطانية فى مصر، أن فرنسا بوجودها فى سوريا، سوف تكون قريبة أكثر مما ينبغى من قناة السويس، مما يعطيها الفرصة لإثارة المتاعب أمام بريطانيا فى مصر، مع العلم – على حد تعبير السير "هنرى مكماهون" – بأن " أصدقاء اليوم يمكن أن يصبحوا أعداء الغد، وأن الحلفاء قد يتحولون إلى أضداد إذا ما تغيرت الظروف ". وكانت ذريعة المعتمد البريطانى فى مصر وكذلك مكتب القاهرة فى تحفظهما إزاء الاتفاقية أن نصوصها ظلت سرا عليهما – برغم مسئوليتهما الإمبراطورية -، فإن الشريف حسين وكل الأطراف العربية القومية والإسلامية سوف يعتبرون المعاهدة خيانة لهم، وفى هذا الوقت الحرج بالذات قد يؤدى إلى مضاعفات خطيرة. والغريب أن المعتمد البريطانى فى القاهرة تلقى تعليمات بإبلاغ الشريف حسين، أن ما قيل عن خريطة مزعومة تم الاتفاق عليها لتقسيم المشرق بين بريطانياوفرنسا، هو "محض دعاية مغرضة، قام بها البلاشفة الملاحدة فى روسيا لإفساد الصداقة العربية-البريطانية ". إن الشريف حسين – برغم شكوك راحت تعاوده بين حين وآخر- كان على استعداد لأن يصدق ما تقوله الحكومة البريطانية. وربما لأنه كان لا يزال بعد مؤمنا ب "وعد الشرف "الذى تقطعه الحكومات الكبرى على نفسها لأصدقائها فى الحروب. أو ربما أن وعيه بأمور السياسة الدولية كان ما زال مأخوذا بتجاربه القبلية السهلة البسيطة. وأما الشخصيات العربية من القوميين والإسلاميين الذين التفوا حوله وجعلوا منه راية يناضلون تحتها، فقد كانت صدمتهم كبيرة، وضاعفت من وقع الصدمة حادثة غريبة وقعت فى ذلك الوقت. فقد حدث والجيش البريطانى يتقدم تحت قيادة الجنرال "اللنبي" إلى تخوم فلسطين أن اقتحم الأتراك مبنى القنصلية الفرنسية فى بيروت، فإذا هم هناك يعثرون على قائمة كاملة بأسماء الزعماء السوريين، الذين يتعاونون فى حركة الثورة العربية مع الشريف حسين وكان أن قاموا بتشكيل محكمة عسكرية أصدرت حكما بالإعدام على أربعة عشر من هؤلاء الزعماء، وجرى تنفيذ الحكم فيهم فعلا بعد أيام من صدوره، والتف حبل المشنقة على صفوة من الزعماء السوريين من أنصار دولة الخلافة العربية الجديدة. وأدى ذلك ومضاعفاته إلى نوع من الإحباط فى صفوف الثورة، تبدى ضرره فى العلاقات بين العناصر القومية من الضباط والتجار والأعيان والموظفين، وبين القيادة القبلية المتمثلة فى الشريف حسين وأبنائه. وكان هناك اعتقاد جازم فى صفوف الثورة العربية ومواقعها فى الشام، بأن الأتراك لم يعثروا على هذه القائمة بأسماء القادة السوريين مصادفة، وإنما كان الأمر ترتيبا فرنسيا قصد منه الخلاص من العناصر القومية المحركة للثورة والفاعلة فى صفوفها، والمعارضة لتقسيم سوريا، والمطالبة بدولة عربية موحدة. ومن المفارقات أن مكتب القاهرة البريطانى كان مشاركا فى هذه الظنون، لكنه مع ذلك أكمل اتصالاته مع الشريف حسين وكأن شيئا لم يحدث. محاضر وزارة الحرب يستطيع أى قارئ لمجموعات الوثائق البريطانية لرئاسة مجلس الوزراء ولوزارة الخارجية، ولوزارة المستعمرات ولوزارة الحربية ولوزارة شئون الهند، أن يكتشف دون عناء أن السياسة البريطانية، لم يكن فى نواياها ولا فى خططها ما يشير إلى أنها تريد أن تفى بكل التعهدات التى قطعتها على نفسها أثناء الحرب. يستوى فى ذلك تلك العهود التى اتفقت عليها مع فرنسا بمقتضى اتفاقية "سايكس – بيكو "، أو تلك التى أعطتها لقيادات الثورة العربية فى ذلك الوقت:الشريف حسين وأبناؤه، أو " عزيز المصرى " و"رشيد رضا "، وغيرهم. والشاهد أن أكثر ما يكشف الرغبات الحقيقية للحكومة البريطانية، هى مجموعة محاضر وزارة الحرب التى ناقشت الإستراتيجيات العليا لبريطانيا فى منطقة الشرق الأوسط . وقد اعتمدت هذه المناقشة بالدرجة الأولى على تقرير قدمه اللورد " كيتشنر " وزير الحربية، وهو فى نفس الوقت خبير بقضايا المشرق من تأثير خدمته الطويلة فى مصر. وفى مجموعة الوثائق السوية لمجلس الحرب البريطانى، ( مجموعة الوثائق التى تبدأ من محضر اجتماع لمجلس الوزراء رقم 27/1 ( مجلس الوزراء ) إلى برقية وزارة الخارجية رقم م س 63549 – وهى مجموعة يضمها دولاب كامل فى محفوظات سنوات الحرب، تصل إلى قرابة ثلاثة آلاف صفحة – فإن صورة النوايا والخطط البريطانية الحقيقية تتكشف على النحو التالى: 1 -إن بريطانيا يجب أن تحتفظ بسيطرة فاعلة على الساحل السورى بدءا من فلسطين وانتهاء بالإسكندرونة على الحدود التركية، فتلك ضرورة لتكملة سيطرتها على الساحل المصرى فى شمال إفريقيا. وأقصى ما يمكن أن تسمح به بريطانيا هو أن تترك لفرنسا القسم الأكبر من ساحل سوريا الشمالى تحت اشتراطات معينة. ولما كان احتلال القسم الأكبر من الساحل السورى بأكمله قد يثير مشاكل مع فرنسا، فإن مواقع منه يمكن أن يسمح لها بطابع خاص يستجيب لمطالب السيطرة البريطانية. وكان التفكير الذى ورد فى مناقشات مجلس الحرب، هو أن يكون هناك موزاييك من القوميات والأديان فى منطقة الساحل. وقد أشار اللورد " كيتشنر " فى هذه النقطة إلى حبات عقد بينها: مسلمون فى سيناء – يهود على ساحل فلسطين الجنوبى – مسيحيون فى وسط الساحل السورى – طوائف عربية غير سنية فى شمال الساحل السورى – ثم يكون من شأن هذا الموزاييك المتجاور وربما المتنافر، أن يجد لنفسه مصلحة بشكل من الأشكال مع بريطانيا تحقق هدفا مزدوجا: يتخفف الموزاييك الساحلى من ضغط الداخل عليه، وفى ذات الوقت فإن ذلك يعطى لبريطانيا – إذا استلزمت مصالحها – منافذ تضغط منها على هذا الداخل نفسه. 2 - إن الأماكن المقدسة لكل الأديان فى الشرق يجب أن تكون تحت الحماية البريطانية. وعلى لسان "كيتشنر" نفسه فقد وردت عبارة قال فيها أثناء مناقشات وزارة الحرب "إن الأماكن المقدسة ل" محمديين " فى مكة وفى المدينة يجب أن تكون تحت الحماية البريطانية بطريق غير مباشر. وكذلك يجب أن تكون كربلاء والنجف فى العراق. ونفس الشىء ينطبق على كنيسة القيامة، وقبة الصخرة وحائط المبكى فى القدس. فذلك يعطى الإمبراطورية البريطانية حقا أن تواجه العالم باعتبارها حامية كل المقدسات الدينية. 3 - إن بريطانيا يمكن لها أن تفكر جديا فى التمهيد لإقامة خلافة إسلامية عربية شريطة أن تجد "البيت الإسلامي"الذى تعطيه تأييدها فى مقابل ضمان ولائه لها.ومن المفهوم أن يكون قيام الدولة العربية الإسلامية محصورا فى الداخل الصحراوى من العالم العربى، فهذه المنطقة بين الخليج الفارسى والبحر الأحمر سوف تظل مهمة للإمبراطورية ولضرورات الدفاع عنها. 4 - إن بريطانيا لابد أن تضمن سيطرتها على ما بين النهرين (يقصد العراق) لأن هذه هى المنطقة التى يمكن منها منع روسيا من الوصول إلى المحيط الهندي.ولابد لبريطانيا أن تمد فيها وتحت إشرافها خطوط مواصلات – ضمنها سكك حديدية من الموصل إلى البصرة– لربط شبكة المواصلات الإمبراطورية. وهناك إشارات متناثرة فى كل المجموعة البريطانية –فى تلك الفترة – تظهر أسلوبا فى التعامل يعكس أساسيات واضحة لا لبس فيها، من بينها أن الحكومة البريطانية تعطى نفسها الحق فى العمل منفردة فى كل المنطقة. وهى تعرف أن فرنسا لها مطالب تاريخية وإستراتيجية قد تتمسك بها. لكن المرونة مطلوبة، ففى فترة من الفترات يكون التأجيل أو السكوت أسلم، وفى فترة أخرى تستطيع بريطانيا أن تتصرف على الأرض بما يناسب مصالحها، ثم تتصور لنفسها القدرة على تهدئة مشاعر فرنسا، وتطويع عصبية ممثليها (مثل جورج بيكو)، وحجتها عليهم أن العرب لا يريدون فرنسا، ثم إن تعاون هؤلاء العرب مع الحلفاء ضرورى الآن. وبالتالى فإن فرنسا مطلوب منها أن تضبط أعصابها وتترك بريطانيا تتصرف بحرية، وهى سوف تفعل ذلك مراعاة لضرورات الحرب ولصالح النصر. وكان التخطيط البريطانى لترتيب أمور الشام، ينتقل بسرعة للتركيز على فلسطين وبالتحديد للعمل على إقامة وطن قومى لليهود فيها، يؤدى دوره المرسوم فى الإستراتيجية البريطانية. سايكس بالقاهرة وفجأة مرة أخرى عاد إلى الظهور فى القاهرة نفس الرجل الذى تولى اتفاقية "سايكس بيكو"، وهو السير "مارك سايكس "، وقد جاء هذه المرة لكى يرتب لما بعد تقسيم العالم العربى، وأوله التمهيد لإنشاء الوطن اليهودى الموعود فى فلسطين. وتروى وثيقة وزارة الخارجية رقم 106764- 2476/371 بتاريخ 12 يوليو 1915، أن القائد العام البريطانى فى مصر الجنرال "ماكسويل" تحدث فى شأن فلسطين مع السير "هنرى مكماهون"، وعرض عليه اقتراحا أطال التفكير فيه، وهو أن توضع فلسطين تحت الحماية البريطانية شأنها شأن مصر، ثم يعهد بإدارتها إلى سلطان مصر "لأن القدس لا بد فى هذه الظروف أن تبقى تحت الحماية الظاهرة لأمير مسلم ". وخلال السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى فإن اللجنة التنفيذية للمؤتمر الصهيونى، والمسئول عنها وقتذاك هو "ناحوم سوكولوف"، اعتبرت أن أمامها مهمتين: 1 - إنشاء وإقامة معسكرات مؤقتة لليهود النازحين من الشرق ومن البلقان فى أوروبا الغربية، وترتيب أمورهم هناك حتى يمكن نقلهم بعد أن تخف المعارك فى فلسطين. 2 - إن اللجنة التنفيذية ينبغى أن تنتهز فرصة الحرب وإعادة رسم خريطة المنطقة من جديد بمقتضى اتفاقية "سايكس-بيكو"، لكى تطالب بما تعتبره حقها فى فلسطين وتحصل عليه فى مناخ أصبح ملائما. ولم يكن المؤتمر الصهيونى ولجنته التنفيذية، ولا يهود أوروبا بكل نفوذهم فى عواصمها – وبخاصة لندن – ينتظرون غير هذه الفرصة. وهكذا عاد إلى مسرح الأحداث لحظتها السير "مارك سايكس" موظفا كل ما تعلمه من "دزرائيلي"، وحاملا كل ما حصله من تأثير نفوذ عائلة "روتشيلد"، ومعززا بنجاحه فى ترتيب الأمور مع فرنسا باتفاقية "سايكس-بيكو". ويكتب "ناحوم سوكولوف" وهو وقتئذ المسئول الأول فى اللجنة التنفيذية للمؤتمر الصهيونى، بعد وفاة "هيرتزل" ما نصه: "إنه من واجبى أن أوجه تحية خاصة إلى السير مارك سايكس. فقد كان هو الروح الملهمة والمحركة، فى توجيه عملنا فى تلك الفترة الدقيقة والحساسة. إن سايكس أصبح الرجل الذى يتولى فى واقع الأمر معظم أمورنا، ويقوم بالتنسيق بين وزارة المستعمرات ووزارة الحرب والقيادة العليا ووزارة الخارجية واللجنة التنفيذية للمؤتمر الصهيونى. لقد سألنى سايكس فى أول لقاء بيننا: -هل أنت المسئول عن الحركة الصهيونية؟ ورددت عليه قائلا: -نعم. .. وسوف ننجح إذا ساعدتنا. ورد على بنبرة قاطعة وحاسمة: -حسنا، هذه مسئوليتى ! ". ويواصل "سوكولوف" شهادته فيكتب:"كنا نعتبر أن هذه الحرب، هى التى ستعطينا بعد النصر وطننا اليهودى فى فلسطين. وفى الفترة الحاسمة من عملنا كان مارك سايكس هو الذى يقوم بكل الاتصالات، وينسق كل الجهود من أجل تعهد واضح من الحلفاء بعد النصر، بأن يعطونا الفرصة والحق فى إنشاء وطننا اليهودى فى فلسطين، إن سايكس لم يقم بهذه المهام فى لندن وحدها، لكنه أخذ على عاتقه أن يمهد لنا الطرق فى باريس مع هذه الحكومة الفرنسية، وفى روما مع الحكومة الإيطالية ومع الفاتيكان. إن سايكس فى هذه الفترة لم يكن يسمح لنفسه بفرصة للراحة أو للنوم. فقد كان يعمل بلا كلل، وقد جعل من الصهيونية جزءا أساسيا من حياته. وهو لم يقم بجهده فقط مع الدول، وإنما مهد لنا أيضا مع الرأى العام الإنجليزى. فقد كان هو الذى رتب للدكتور حاييم وايزمان فرصة أن يلتقى بأهم صحفى فى إنجلترا، وهو س.ب. سكوت رئيس تحرير جريدة "المانشستر جارديان ". ولن أنسى له أبدا أنه صحبنى معه حينما كان برفقة رئيس الوزراء لويد جورج والأميرال جيليكو القائد العام للأساطيل البريطانية، وفى هذه المقابلة أتيحت لى الفرصة لأن أتحدث إلى رئيس الوزراء، الذى قال لى إن هذه الحرب سوف تكون بلا فائدة، إذا لم نستطع أن نعطى للشعوب حقها فى تقرير مصيرها، بمن فى ذلك اليهود فى فلسطين ". كانت التأثيرات اليهودية على مارك سايكس غالبة فقد كانت والدته عشيقة للسياسى البريطانى الشهير بنجامين دزرائيلى، أول وآخر يهودى يتولى رئاسة الوزارة فى بريطانيا، وكان مارك موضع اهتمامه. قناعات دزرائيلى رسخت فى وعى مارك من أيام طفولته وشبابه.