فى السابع من فبراير عام 1999، توفى الملك حسين بن عبدالله ملك الأردن، وكانت جنازته بمثابة قمة كونية، لم تستطع الأممالمتحدة أن تجمع من جمعهتم جنازة الحسين.. حافظ الأسد مع نتنياهو ، ومندوب صدام مع رئيس إيران .. الهند مع الباكستان .. ولي عهد خادم الحرمين مع مندوب البابا .. علماء الدين مسلمين ومسيحيين ويهود .. واحد وأربعون رئيس دولة وملك وسلطان، بما فيهم الرئيس الامريكى بل كلينتون والرئيس الروسى يلتسين، وعدد من رؤساء الولاياتالمتحدة السابقين، ومندوبى أكثر من 60 دولة، هرولوا نحو العاصمة الأردنية لحضور جنازة الملك حسين بن طلال. كانت جنازة غير مسبوقة، حرص كل رؤساء وزعماء الشرق والغرب على حضورها، تكريما لرجل قدم خدمات جليلة ولا تقدر بثمن للغرب والشرق معا ضد مصالح أمته العربية وأمته الإسلامية، كما أن الرجل ينتمى إلى أسرة قدمت رأس وجسد الأمة العربية والإسلامية على طبق من فضة للغرب والشرق معا، إنها أسرة الشريف حسين الجد الأكبر للملك حسين، الذى قاد زعامة العرب فى بداية القرن العشرين، وقام بما سمى وقتها ب "الثورة العربية الكبرى" ضد الدولة العلية العثمانية لصالح القوى الاستعمارية الكبرى التى كانت تمثلهما فى ذاك الوقت انجلتراوفرنسا، ومعهما روسيا القيصرية العدو اللدود للدولة العثمانية، وهى قصة خيانة لا مثيل لها فى التاريخ الإنسانى، بطلها الشريف حسين بن على الهاشمى (1854 1931) وأولاده وأحفاده، أختصرها هنا فى لقطات قصيرة منها بتركيز شديد. بدأت الشرارة الأولى للثورة العربية فى مكة، يوم 10 يونيو 1916، بأن قام جنود الشريف حسين بمهاجمة الحامية التركية فى جدة، وفى 13 يونيو اشتركت ثلاث بوارج بريطانية فى ضرب معسكرات الحامية التركية بجدة، وفى 14 يونيو طارت الطائرات البريطانية فوق معسكرات الترك، تقصف وتدمر بالتعاون مع شريف مكة كبير العرب وقتها، الذى أعلن قيام "الثورة العربية" ضد الترك. قوبل إعلان الثورة فى فرنسا بارتياح شديد، وبادرت الحكومة الفرنسية بتشكيل وفد حمل رئيسه خطابا رقيقا من المسيو بوانكاره رئيس الجمهورية الفرنسية، إلى الشريف حسين، ومعه مليون وربع المليون من الفرنكات الفرنسية. فى الوقت الذى كان فيه الشريف حسين يحشد الجماهير العربية ضد تركيا، ويعلن دعمه للحلفاء فى حربهم ضد تركيا، كانت هناك مفاوضات سرية تدور بين كل من روسياوانجلتراوفرنسا لاقتسام أملاك الدولة العثمانية عامة، وبين انجلتراوفرنسا لاقتسام بلاد العرب خاصة، وكانت هذه المفاوضات تتم فى نفس الوقت الذى تدور فيه المراسلات بين انجلترا والشريف حسين لحمله على حرب الدولة العثمانية مقابل مساعدته فى إنشاء دولة عربية كبرى، تضم بجانب الحجاز بلاد الشام والعراق، ويكون هو ملكا لهذه الدولة، وتكون كذلك لأولاده من بعده، وصدق الشريف حسين وعودهم، فباع العرب والمسلمين بأبخس ثمن، وكانت هذه الثورة التى أحسبها من أكبر نكبات العرب فى العصر الحديث. عاهد الإنجليز الحسين على إنشاء دولة عربية بكل مستقلة داخليا وخارجيا، واتفق أن تكون حدود هذه الدولة من الشرق بحر فارس (هو الخليج العربى، لكنه جاء هكذا فى الاتفاقيات والمكاتبات الرسمية)، وغربا بحر القلزم (البحر الأحمر) والحدود المصرية والبحر الأبيض المتوسط، وشمالا ولاية حلب والموصل إلى نهر الفرات مجتمعا مع دجلة إلى مصبهما فى بحر فارس، ماعدا مستعمرة عدن فهى خارجة عن الحدود، حتى أن السير مكماهون (لزوم الحبكة) تحفظ على هذه الحدود، وطلب إخراج الساحل الشامى وبعض أجزاء من سورية من حدود هذه الدولة (الأكذوبة). صدق الشريف حسين وعود الإنجليز والفرنسيين، حتى أنهم عاهدوه أيضا أن يقدموا لحكومة هذه الدولة كل ما تحتاجه من مال ونفقة وسلاح، ولن يردوا له طلبا أو يبخلوا عليه بشىء، لأن موارد العرب فى ذاك الحين كانت محدودة للغاية، فلم يكن البترول قد ظهر بعد، وإن كانت كل المؤشرات تشير إلى أن هذه القوى قد علمت به وبأهميته بما كان عندهم من علم، ومن دراية بتلك البقاع. قامت الجيوش العربية بتنفيذ كل خطط الإنجليز فى المنطقة من خلال الحسين وأولاده، فدمروا الموانىء وخطوط السكك الحديدية، وهى المشاريع العظيمة التى أقامها الترك لتقريب البلاد العربية من بعضها، ولكن الإنجليز كان غرضهم عزل بلاد العرب وإطالة المسافات بينها، وعاهدوا الحسين أن يعاملوه معاملة الند للند، والحليف الصادق للحليف، يطلعوه على أسرارهم، ويحافظون عليه، ويدافعون عنه، فصدق وعودهم، وشرب سمهم الزعاف فى كئوس العسل. لقد أثار الحسين المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها ضد الترك، ووصل الأمر به إلى شروعه فى توزيع منشور لكل الدنيا يدعى فيه أن الأتراك سيضربون الكعبة المقدسة، ليبرر لهم ثورته ضد الترك، والغريب أن مكماهون هو الذى اعترض على هذه الفرية القذرة، لأنه رأى أن من شأن هذا المنشور إثارة المسلمين الهنود، وقد يأتى هذا بنتائج عكسية ضد مصالح الانجليز الذين كانوا محتلين لها. فى 4 مارس سنة 1915 وقعت كل من روسياوانجلتراوفرنسا بمدينة بطرسبرج، معاهدة تاريخية، لتقسيم أملاك الدولة العثمانية بينهم، تم الإتفاق عليها بين ثلاثتهم، وفى مايو عام 1916 تم الإتفاق رسميا بين مندوب انجلترا (مارك سايكس) ومندوب فرنسا (جورج بيكو)، على رسم خط الحدود الجديد لنفوذ كل دولة فى المنطقة، وظلت هذه المعاهدة سرية حتى نشرتها صحيفة البرافدا الروسية عام 1918، بعد نجاح البلاشفة فى الاستئثار بحكم البلاد، وجاء فى مادتها الثالثة بيان محدد بتقسيم البلاد العثمانية إلى مناطق نفوذ بين الدول المتعاقدة، فاستأثرت روسيا بعدة مناطق فى القوقاز، وكان من نصيب فرنسا السواحل الشامية كلها فى سوريا ولبنان، فى حين كانت مصر وبلاد الجزيرة العربية والعراق من نصيب انجلترا، وتكون لفلسطين إدارة خاصة، وعرفت هذه المعاهدة تاريخيا باسم "سايكس بيكو". فى غمرة نشوة الحسين بالانتصارات المزيفة التى تصور أنه يحرزها ضد الترك، وظنه أن حلمه بإنشاء مملكة عربية كبرى تكون له ولأولاده من بعده، لم يقف تآمر الحلفاء ضد العرب عند اتفاق "سايكس بيكو"، بل صدر "وعد بلفور"، لكن الغريب هنا أن وعد بلفور صدر فى 2 نوفمبر 1917، وقبل أن يعرف أحد اتفاق سايكس بيكو، ونشرته صحيفة المقطم فى مصر فى 9 نوفمبر، أى بعد صدوره بستة أيام فقط، وكان يعنى أن دولة عربية تقتطع من جسد العروبة وتعطى لليهود، لكن كأن الأمر لا يعنيه، فلم تكن فلسطين فى حدود مملكته التى يحلم بها. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ذهب الأمير فيصل (ابن الشريف حسين) ومعه رجل المخابرات الإنجليزى توماس إدوارد ( لورانس العرب) إلى مؤتمر الصلح بباريس يوم 6 فبراير سنة 1919، لعرض قضية العرب، ولخص كل مطالبه فى الإعتراف ببلاد العرب وحدة جغرافية مستقلة برئاسة والده صاحب الجلالة الشريف حسين بن على، وخلال هذه الفترة، وأثناء وجوده فى مؤتمر الصلح، التقى فيصل مع الدكتور حاييم وايزمان رئيس منظمة الصهيونية العالمية، ووقع معه اتفاقية طويلة، أعطت لليهود حقوقا كثيرة فى فلسطين، وهذه الإتفاقية تعد واحدة من وثائق وجود الدولة العبرية فى فلسطين، وأعطت لوعد بلفور صبغة شرعية. فى يوم 28 مارس سنة 1920، اجتمع الأمير عبدالله بن الشريف حسين مع المستر ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانى فى القدس، واتفق الإثنان على تأسيس "إمارة شرق الأردن"، برئاسة الأمير عبدالله بن الحسين بن على الهاشمى، على أن تساعد هذه الإمارة بريطانيا ماديا لتوطيد الأمن، وتسترشد برأى مندوب بريطانى يقيم فى عمان (!!)، وتنشىء بريطانيا مركزين للطيران بها (قواعد جوية). أدمجت بريطانيا شرق الأردن مع فلسطين فى صك الانتداب الذى قدمته إلى مجلس عصبة الأمم، وتم إقراره فى جلسة 24 يوليو 1922، وكان محتوى الصك أن تكون فلسطين وطنا قوميا لليهود طبقا لوعد بلفور، بمعنى أن بريطانيا قطعت مساحة من الأراضى العربية لإنشاء دولة جديدة هى "الأردن" لتكون إمارة للشريف حسين وأولاده، ليس كمكافأة، بل لتأمين الكيان الجديد المزمع إنشاءه تحت اسم دولة اسرائيل. ثم جرت مفاوضات بين دائرة حكومة الأردن وحكومة القدس، انتهت بمعاهدة جديدة بين الطرفين، وافق خلالها الأمير عبدالله على أن تتحمل إمارة شرق الأردن مرتبات المعتمد البريطانى وموظفيه، ويهيىء "صاحب السمو" الأمير عبدالله محلا لإقامة البريطانيين من موظفى المعتمد البريطانى، وتكون سلطتى التشريع والإدارة بمشاورة المعتمد البريطانى فى فلسطين، وأن كلمة "فلسطين" تعنى ذلك الشطر من الإقليم المنتدب الواقع إلى الغرب من نهر الأردن، ويتعهد "سمو الأمير" ألا يعين أى موظف إلا بعد موافقة الحكومة البريطانية، كما يتعهد بأن يسترشد بنصيحة صاحب الجلالة البريطانية عن طريق المندوب السامى لشرق الأردن فى جميع الأمور المختصة بشأن البلاد، وأن يرجع إلى مشورة صاحب الجلالة البريطانية فى قانون الميزانية السنوى، وأى قانون له صلة بإصدار أوراق النقد الأردنية، وتقريبا أى قانون بشأن أى مسألة لابد أن يرجع الأمير إلى الحكومة البريطانية. كما نصت هذه المعاهدة المؤلفة من 21 بندا تثير أعصاب أى عربى على أن تحتفظ بريطانيا بقوات مسلحة فى إمارة شرق الأردن، وتتكفل الحكومة الأردنية بنفقات هذه القوات (!!)، ووافق "سمو الأمير" عبدالله بن الحسين على كل هذه الشروط. ورغم كل المظالم التى عانى منها شعب الأردن، استمر الملك عبدالله بعد طوال حياته ملكا للأردن بدعم الإنجليز، كما لو كان موظفا لدى الإنجليز بدرجة ملك، فاكتسب كراهية الشعب وكل العرب الأحرار، وكانت سياسته استمرارا لمنهج والده الذى تسبب فى تدمير الأمة العربية فى الشام والجزيرة، حين حارب الأتراك المسلمين لصالح الإنجليز والفرنسيين والروس، وباع هو وأولاده فلسطين لليهود. وفي يوم الجمعة الموافق 20 يوليو سنة 1951، وبينما كان يزور المسجد الأقصى فى القدس لأداء صلاة الجمعة، قام رجل فلسطينى بسيط يعمل خياطا بالقدس، احترق قلبه وهو يرى وطنه العزيز يسرقه اليهود بمباركة الأسرة الهاشمية، يدعى مصطفى شكري، بإطلاق ثلاث رصاصات قاتله إلى رأسه وصدره، وكان مع عبدالله فى تلك اللحظة حفيده الأمير الحسين بن طلال (ملك الأردن فيما بعد) فتلقى هو الآخر رصاصة، لكنها اصطدمت بميدالية كان جده قد أصر على وضعها عليه، فكانت سببا فى إنقاذ حياته، وأصبح ملكا على الأردن عام 1952 وعمره 17 سنة بعد إقصاء والده الملك طلال بسبب خلل فى قواه العقلية، وكان "الحسين" أيضا موظفا انجليزيا برتبة ملك، ثم أصبح عميلا أساسيا لدى جهاز الموساد الاسرائيلى واسمه الحركى "مستر بيفى"، وأشهر خدمة قدمها لاسرائيل هو انه قاد بنفسه طائرته الخاصة وذهب مع رئيس وزرائه زيد الرفاعى لتل أبيب وقابل رئيسة وزرائها جولد مائير، واخبرها بأن المصريين والسوريين سيعبرون القناة، وكان ذلك قبيل 6 أكتوبر 1973 ب 11 يوم، لكنهم أخذوا كلامه بغير جدية، حتى أن جولد مائير قالت بعد ذلك: لقد خسرنا كثيرا لأننا لم نأخذ كلام صديقنا "بيفى" على محمل الجد. بعد موت الحسين عام 1999، تولى عرش الأردن ابنه عبدالله، وهو لمن لا يعلم من أم انجليزية تدعى "تونى جاردنر" التى تغير اسمها إلى منى الحسين، أى أن عبدالله هذا نصفه انجليزى، ورغم أن العرف الدولى يقضى بألا يتولى مواطن أى منصب قيادى فى أى دولة إلا إذا كان والديه يتمتعان بجنسية الدولة، لكن عبدالله بن الحسين ينتمى لأسرة انجليزية ومع ذلك أصبح ملكا، فهل سيكون مثل والده أم يكون أكثر ولاء ووفاء لمن ينتمى إليهم؟ الملك عبدالله (ابن مستر بيفى) انتقد فى تصريحات غريبة منذ أيام لمجلة "ذا أتلانتك" الأمريكية عددا من قادة ورؤساء العرب، وقال إن الرئيس محمد مرسى "ليس لديه أى عمق"، وأنه عندما التقى بالرئيس المصرى فى الرياض وناقشا دور حركة حماس، المسيطرة على قطاع غزة، وجد أنه "ليس لديه أى عمق بالأمور". وسخر "الملك" الخائن سليل الخونة من جماعة الإخوان المسلمين، حيث قال أنها جماعة "ماسونية" ومجموعة "ذئاب فى ثياب حملان"، وشدد على أن منع الإسلاميين من الاستيلاء على السلطة هو معركته الكبرى فى المنطقة. وقال أيضا لا فض فوه أن كلا من مرسى ورئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان استبداديين ويسيئان استخدام الديمقراطية، إذ يعتبرونها مجرد حافلة وبمجرد أن يصلوا لهدفهم سيغادرونها. وسخر "الملك" من أصحاب "الزبيبة"، التى تظهر على الجبهة للذين يداومون على الصلاة. وأعتقد اننى بذكر ما قلته سلفا قد رددت على الأخ عبدالله سليل العائلة التى أضاعت فلسطين والأمة العربية. [email protected]