جاء إنشاء دولة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط في1948 زلزالا تاريخياغير في المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لشعوب المنطقة, ولاتزال توابعه تؤثر علي حياتنا المعاصرة حتي يومنا هذا. وهناك ثلاثة أو أربعة تواريخ مهمة في حياة إسرائيل, وهي علي التوالي, المؤتمر الصهيوني الأول في1897 في بازل بسويسرا, ثم وعد بلفور في نوفمبر1917, ثم15 مايو1948 بإعلان دولة إسرائيل بعد انتهاء الاحتلال البريطاني لفلسطين, وربما أخيرا يونيو1967 بهزيمة الجيش المصري. وقد كان صدور وعد بلفور من الحكومة البريطانية بالاعتراف بوطن قومي وليس دولة لليهود, نقطة تحول مهمة ليس فقط من حيث توفير نوع من الاعتراف الدولي, بل أيضا لتوحيد, أو علي الأقل, لدعم الفكرة الصهيونية بين اليهود أنفسهم, حيث كانت هناك مجموعات مهمة من اليهود في العالم يعارضون الفكر الصهيوني باعتباره خطرا علي الوجود اليهودي المنتشر في معظم دول العالم. وتظهر الملابسات التي صاحبت وأدت إلي صدور وعد بلفور, كيف أن التاريخ لا يسير في خط مستقيم, ولا هو مؤامرة واحدة, بل هو حصيلة للتصارع والتجاذب بين العديد من المؤامرات المتعاونة والمتعارضة والمتقاطعة, وأن دور الصدف والحظ والأحداث غير المتوقعة لا يقل أهمية وخطورة, وإذا كانت النتيجة النهائية هي نجاح شبه كامل للمخطط الصهيوني, كما أعد له حاييم وايزمان, فإن ذلك لم يكن قدرا محتوما بل لعبت فيه الصدفة دورا لا يستهان به. ويظل مع ذلك أهمية الدور الذي لعبته الحركة الصهيونية بدعم بريطاني عنصرا حاسما لا يستهان به. وإذا كان حاييم وايزمان هو المحرك الأكثر فاعلية لإصدار وعد بلفور, فقد واجه معارضة شديدة من أنصار الاندماج من الجاليات اليهودية. وقد ولد وايزمان في روسيا, وبعد مراحل التعليم الأولي فيها, استكمل دراسته في ألمانيا ثم حصل علي الدكتوراه في الكيمياء من سويسرا. وفي1904 هاجر إلي إنجلترا. وعلي خلفية محاكمة الجنرال الفرنسي ديرفوس, فقد رأي وايزمان أن العلاج ليس في إيجاد وطن لليهود في أي مكان, وإنما في العودة إلي أرض الميعاد في فلسطين. وكان معظم زعماء الجالية اليهودية في إنجلترا تفضل الاندماج في المجتمع البريطاني. وكان أهم زعمائهم في ذلك الوقت هو لوسيان وولفWolf, وهو يهودي ولد في لندن وترعرع في ظل الليبرالية البريطانية, ويري أنه بريطاني, وأن الوطنية ليس لها صلة بالدين. وقد ظلت الخصومة والمنافسة بين وايزمان ووولف قائمة, أحدهما يدعو إلي الصهيونية, والآخر إلي الاندماج, الأول مهاجر ثم استقر في إنجلترا, والآخر مولود فيها وليس له تاريخ سابق مع دولة أخري. وقد ظل هذا الصراع قائما بين اليهود المولودين في إنجلترا, وأولئك الوافدين إليها بالهجرة, وكانت الغالبية مع الاندماج في الفريق الأول, ومع الصهيونية في الفريق الثاني. كذلك فقد كان هناك عدد غير قليل من الرأسمالية اليهودية قد وصل إلي مراكز مرموقة في البرلمان أو الوزارة, وكان يطلق عليهم أبناء العم. وأشهر هذه العائلات هي عائلة روتشيلد وعائلة مونتفيورMontefiore, وقد تبنت العائلة الأولي الصهيونية, في حين تمسكت الثانية بضرورة الاندماج في المجتمع البريطاني. وكان من أوائل اليهود الذين شغلوا منصب الوزارة البريطانية هربرت صامويل, والذي أصبح مندوبا ساميا لفلسطين بعد فرض الانتداب البريطاني عليها, والوزير الآخر كان ابن عمه منتاجو صامويل. هذا عن موقف بعض العناصر اليهودية, أما موقف الحكومة البريطانية قد اتسم منذ بداية الحرب العالمية الأولي بالمرونة الكاملة, وبعبارة أدق بالانتهازية المطلقة. فقد اتصلت الحكومة البريطانية بجميع الأطراف, في نفس الوقت أو في أوقات مختلفة, وأدارت حوارات متوازية مع جميع الأطراف من الحلفاء والأعداء بأشكال سرية ومن خلال قنوات متعددة رسمية وغير رسمية. فقد كانت هناك اتصالات مستمرة مع حاييم وايزمان, وقد ظلت أكثرها فاعلية, ولكن كانت هناك اتصالات موازية مع منافسه لوسيان وولف. هذا فيما يتعلق بالجالية اليهودية في إنجلترا, أما علي المستوي الدولي فقد عقد نوع من الاتفاق مع فرنسا, عرف باتفاق سايكس/بيكو ثم انضمت إليه روسيا لاحقا. كذلك تم اتصال مع الشريف حسين في مكة مع الوعد بتمكينه بالاستقلال وتأسيس دولة عربية تمتد من الحجاز إلي شمال سوريا, وذلك من خلال مكاتبات مكتب القاهرة, وأشهرها خطاب ماكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر بالوعد باستقلال دولة العرب. وفي أثناء الحرب, بدأت اتصالات أخري بين الحكومة البريطانية وعناصر من الدولة العثمانية لعقد صلح منفرد منها مع تقديم الضمانات بسلامة الأراضي العثمانية, وعدم التفريط في إسطنبول واستمرار نوع من السيادة العثمانية علي الولايات العربية في سوريا والجزيرة العربية. وقد توقفت هذه الاتصالات الأخيرة مع الدولة العثمانية بعد قيام الثورة الروسية حين اعلنت روسيا آنذاك تخليها عن المطالبة بإسطنبول, وبالتالي اختفاء الحافز للدولة العثمانية للخروج من الحرب. وهكذا تعددت المسارت المتاحة أمام السياسة البريطانية إزاء التعامل مع المشكلة اليهودية. وكان كل منهما يمكن أن يؤدي إلي نتيجة مغايرة. فالحديث عن وطن قومي لليهود مع حاييم وايزمان, كان يتعارض مع اتفاق سايكس/بيكو مع فرنسا( ثم روسيا) حيث يتضمن هذا الاتفاق وضع سوريا( بما فيها فلسطين) تحت الإدارة الفرنسية. كذلك يتعارض هذا الوعد مع تفاهم ماكماهون مع الشريف حسين بقيام دولة عربية تمتد حدودها في الشمال إلي جنوب تركيا. وأخيرا فإن التفاهمات الأولية مع ممثلي العناصر المتنازعة في الحكومة العثمانية لعقد صلح منفرد مع الدولة العثمانية وخروجها من الحرب, فقد كانت هذه التفاهمات تعترف بسيادة تركيا بشكل نظري علي مختلف الولايات العربية مع إعطائها نوع من الاستقلال الذاتي. ومع هذه الاحتمالات المتعارضة والتي كانت الحكومة البريطانية قد بدأتها مع مختلف الأطراف في نفس الوقت, فقد قامت في سنوات الحرب الأخيرة عدة أحداث بعضها غير متوقع مما أدي إلي ترجيح سيناريو وعد بلفور علي ما عداه من سيناريوهات كانت مطروحة علي الساحة. ولعل من أهم هذه الأحداث غير المتوقعة هو قيام الثورة الروسية, وإعلان الحكومة الروسية تخليها عن المطالبة بإسطنبول, وبالتالي زوال المبرر أمام بعض عناصر الحكومة العثمانية لعقد صلح منفرد مع الحلفاء خوفا مع ضياع إسطنبول في حالة الهزيمة وبقاء روسيا ضمن الحلفاء وإرضائها علي حساب الدولة العثمانية. كذلك فإن تأخر حملة الشريف حسين في دخول دمشق ودخولها مع الامير فيصل بمساعدة الجيش البريطاني, مما أضعف موقف الشريف حسين وابنه فيصل, وبذلك تمكنت القوات الفرنسية من طرده من سوريا. ولا ننسي الإلحاح الشديد الذي بذله حاييم وايزمان ونجاحه في تجنيد عدد كبير من وزراء الحكومة البريطانية لصالح المطالب الصهيونية, إنما يرجع إلي ما حققه وايزمان مع نجاح التيار المعارض له والذي كان يفضل إستراتيجية الاندماج. كذلك لا ننسي, أن أستقالة حكومة أسكويث الأرستقراطي البريطاني والذي لا يخلو من نظرة استعلاء, ومجيء لويد جورج, من ويلز مكانه, وبالتالي الأقرب مزاجا للأقليات, كان أمرا مساعدا علي قبول الوعد لليهود. وأخيرا فإن دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب قد ساعد علي حسم هذا الصراع, وكان الرئيس ويلسون قريبا من الأوساط المالية اليهودية. وهكذا يتضح أن نجاح حاييم وايزمان في التأثير علي الحلفاء وخاصة إنجلترا لإصدار وعد بلفور في مثل هذا الشهر, وإن كان إنجازا خطيرا ما زلنا نعيش في تراكمات نتائجه حي الآن, فإنه أيضا لم يكن قدرا محتوما. لقد جاء هذا الوعد نتيجة مؤامرة صهيونية, ولكنها لم تكن المؤامرة الوحيدة في الميدان, وقد ساعدها الحظ أو سوء الحظ. وفقا لرؤية كل مراقب. فليست هناك مؤامرة وحيدة, بل العديد من المؤامرات, وتتوقف النتائج النهائية, في كثير من الأحوال, علي ملابسات طارئة وغير محسوبة. والله أعلم المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي