معظم الذين يكتبون - أو يتكلمون - عن مخططات الغرب لتقسيم المنطقة العربية تحت مسمي «سايكس - بيكو» الجديدة، لا يعرفون شيئاً عن سايكس - بيكو القديمة !! ولم يكلف أحد منهم نفسه بالبحث عن هذه الاتفاقية ومتي وكيف تم طبخها. هنا أتذكر أستاذ التاريخ الذي علمني ذلك في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، ومازلت أتذكر اسمه بالكامل: إمام أحمد السيد وفا.. وكان ذلك في مدرسة دمياط الثانوية بين عامي 1952 و1955، وكان هو بالمناسبة قائدي وقائد كتيبة دمياط الثانوية قبل ذلك، وخلال كل هذه الفترة.. وكما حببني في دراسة التاريخ.. شدني إلي التدريب العسكري منذ عام 1950.. تخيلوا فقد كان جيلي يشتعل بالوطنية وحب الجهاد والنضال ضد القوات الانجليزية في منطقة قناة السويس.. حقاً.. ما هي أصول سايكس بيكو الأولي وكيف نشأت، وماذا كان هدفها.. كانت الحرب العالمية الأولي علي أشدها.. وكانت هناك ثورة عربية رائعة تتحرك ضد الاستعمار العثماني التركي.. وكان يقودها الشريف حسين شريف مكة والحجاز.. وهدفها الاستقلال عن تركيا العثمانية وانشاء الدولة العربية الواحدة الكبري.. واستغلت بريطانيا هذه الثورة ولعبت عليها ودارت مفاوضات حملت اسم مراسلات الحسين - مكماهون انتهت إلي اتفاقية تعهدت فيها بريطانيا للعرب بمساندة استقلالهم، بعد انتهاء الحرب وهزيمة تركيا.. ولكن بريطانيا .. هي بريطانيا كان هدفها هنا ضمان ولاء الثورة العربية لمخططات بريطانيا التي كانت تسعي لوراثة الاراضي التي كانت تحكمها تركيا واستغلت - لذلك - حلم العرب في الاستقلال عن تركيا.. ولعبت علي هذا الأمل.. اذ كانت بريطانيا تسعي جادة لتصبح المالك الفعلي لمعظم ممتلكات تركيا العثمانية. كانت بريطانيا تري أن الامبراطورية التركية العثمانية يجب أن تسقط.. ولكن في أحضان بريطانيا نفسها - ولا مانع ان تحصل دولة أوروبية أخري أو أكثر علي لقمة من الارض العربية.. وهنا كانت الخديعة الكبري.. إذ في نفس الفترة التي كانت تجري فيها المراسلات بين الشريف حسين زعيم الثورة العربية وممثل بريطانيا مكماهون.. كانت هناك مفاوضات أخري تجري في السر بين بريطانياوفرنسا للاتفاق علي تقسيم المنطقة العربية بين الدولتين.. وعرفت هذه المفاوضات السرية باسم سايكس - بيكو.. الأول هو ممثل بريطانيا السير مارك سايكس.. والثاني هو ممثل فرنسا مسيو جورج بيكو، وتوصلت هذه المفاوضات إلي معاهدة في 16 مايو 1916، وحتي تدخل المعاهدة حيز التنفيذ عرض الاثنان نتائج محادثاتهما السرية علي روسيا القيصرية، التي وافقت عليها مقابل اتفاق تعترف فيه بريطانياوفرنسا بحقها في ضم مناطق معينة في آسيا الصغري، بعد الحرب وللاسف تم كل ذلك رغم الوعود التي قطعتها بريطانيا علي نفسها للاقطار العربية بالاستقلال مقابل قيام الشعوب العربية بمساندتها والوقوف بجانبها في الحرب.. بل ووصل الأمر بتوقيع المعاهدة بين بريطانيا والعرب أساسها مراسلات الحسين - مكماهون. وباستثناء شبه الجزيرة العربية، قسمت بريطانياوفرنسا بلاد الشرق العربي إلي خمس مناطق، هي: السواحل اللبنانية والسورية التي اعطيت لفرنساوالعراق الذي أعطي لبريطانيا، أما فلسطين فقد اتفق علي وضعه تحت ادارة دولية بسبب ما فيها من مقدسات للاديان الثلاثة.. ولكنها انتهت إلي وضع فلسطين تحت انتداب بريطانيا.. أما المنطقة الخامسة فقد اتفقت بريطانياوفرنسا علي قيام دولة عربية مستقلة تحت حكم عربي علي أن يكون لفرنسا الأولوية في إحدي المنطقتين هي الاراضي الداخلية في سوريا.. وكذلك حصلت بريطانيا علي إدارة العراق، من الداخل.. ولكن تطور الاوضاع في روسيا القيصرية وتحولها إلي النظام الشيوعي جعل الدولة السوفيتية الجديدة تكشف هذه المعاهدة!! ولكن كل شيء مضي كما كان متفقاً عليه فأصبحت العراقوفلسطين وشرق الاردن من نصيب بريطانياوسوريا ولبنان من نصيب فرنسا.. حتي وان حاولت بريطانيا تقديم لقمة من الشرق العربي لأبناء الشريف حسين فمنحت ابنه الاكبر فيصل سوريا ولكن سارعت فرنسا بطرده وهزيمته في موقعة ميسلون داخل الارض السورية.. فأجلسته بريطانيا علي عرش العراق.. كما أجلست ابنه الثاني الأمير عبدالله، أميراً علي منطقة شرق الأردن!!. وبعد حوالي قرن من الزمان يتجدد الحديث عن «سايكس - بيكو» جديدة لاعادة تقسيم المنطقة العربية بالسعي لتقسيم العراق نفسه.. وتقسيم سوريا بل والتلويح بامتداد مخطط التقسيم إلي الجزيرة العربية نفسها.. وأيضاً إلي مصر وكذلك إلي ليبيا .. وما حدث في السودان معلوم ومعروف.. حتي اليمن لا يسلم من هذا المخطط لان بريطانيا التي كانت تضع يدها علي الجنوب اليمني تسعي لتمزيق اليمن نفسه، بعد أن كان الجنوب قد اتحد مع الشمال، في جمهورية واحدة. إيه رأيكم في هذه اللعبة التي عمرها الان قرن من الزمان بين 1916 أيام سايكس بيكو الأولي و2014 أيام سايكس بيكو الثانية.