نبيل سيف كل الذين عرفوا الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل 40 عاما ماضية، يعرفون جيدا وعن ظهر قلب اسم «منير عساف «مدير مكتب الأستاذ منذ أن غادر «الأهرام»، بعد خلافه مع السادات وحتى رحيل الأستاذ عن الحياة قبل أيام معدودة. وظلت كل مؤلفات الأستاذ هيكل بداية من «الطريق إلى أكتوبر» و»عبد الناصر والعالم» وحتى «مبارك والمنصة» لا تخلو مقدمتها التى صاغها الأستاذ من توجيه الشكر للعاملين بمكتبه وعلى رأسهم منير عساف، كما لم يخل حوار صحفى مع الأستاذ هيكل سواء للصحافة المصرية أو العربية أو الأجنبية عن ذكر اسم منير عساف فى مقدمة كل حوار، فالرجل هو مدير مكتب الأستاذ هيكل فى الشكل العام، لكنه فى الحقيقة جزء من تجربة حياة الأستاذ هيكل المهنية فى عالم الصحافة والسياسة وصنع القرار واقتراب هيكل من رؤساء وملوك وسلاطين العالم.
حتى عندما التقى هيكل قبل سنوات الرئيس الإيرانى وقتها هاشمى رفسنجانى فى حوار صحفى ودخل الجميع للصلاة وسقط فى يد منير عساف، الذى أنقذه تفكيره إلى الاستئذان للذهاب للوضوء، وهنا انفجر هيكل فى الضحك المتواصل لعدة دقائق، الأمر الذى دفع رفسجانى إلى سؤاله عن السبب فأجابه هيكل بأن منير أول مرة يكون من غير وضوء وضحك الجميع. فى السابعة ونصف صباح كل عيد ميلاد للأستاذ هيكل يصل منير عساف إلى عمارة جوهرة النيل المجاورة لشيراتون القاهرة على نيل الجيزة، حيث مكتب الأستاذ هيكل القابع فى الدور الرابع بالشقة 43، وذلك لتهنئة الأستاذ هيكل بعيد ميلاده الأخير، وما إن استقل منير عساف الأسانسير فى الطريق لمكتب الأستاذ حتى تعود به الذاكرة إلى الوراء قبيل 40 عاما، حينما جاء لمنزل الأستاذ للمرة الأولى بعد فبراير 1974 مباشرة، وكان قد استأذن الأستاذ فى ذلك قبل أن يغادر الأستاذ مبنى «الأهرام» الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر السبت 2 فبراير إلى الأبد، بعد أن قام بنفسه بتسليم كل الأمور للدكتور عبد القادر حاتم، الذى أصدر الرئيس السادات قرارا بتعيينه رئيسا لمجلس إدارة الأهرام، فى نفس الوقت الذى أصدر فيه قراره بتعيين الأستاذ هيكل مستشارا له، وهو المنصب الذى كان الأستاذ هيكل قاطعا فى عدم تنفيذه، حيث كان منير يختلق الأسباب لزيارة الأستاذ ومقابلته فى وقت كان بعض «الكبار» أيامها يخشون حتى فى الاقتراب من الهاتف لمجرد الاتصال. ويرجع منير عساف بشريط ذكرياته إلى الأهرام فى مبناه القديم، كان وافدا جديدا عليه ومشاركا فى انتقال أوراق ومتعلقات الأستاذ هيكل من مكتبه بشارع مظلوم إلى مكتبه فى المبنى الجديد بشارع الجلاء، مثلما كان موجودا ومشاركا فى انتقال أوراقه الخاصة وأغراضه من مكتبه بشارع الجلاء إلى منزله بالجيزة. وبين الانتقالين توالت أحداث وأحداث، زار الرئيس جمال عبد الناصر الأهرام، كان منير عساف فى مقدمة مستقبليه وحينما وقعت أزمة لطفى الخولى والأستاذة نوال المحلاوى سكرتيرة هيكل وقتها، وابتعدا عن الأهرام لفترة وعندما عادت الأستاذة نوال المحلاوى بعد الغياب وكلفها الأستاذ هيكل بمسئولية الإعداد والإشراف على ترتيب احتفالات الأهرام بعيدها المئوى، كان منير عساف معاونا لها إلى جانب عمله بالمكتب. وعندما صدر قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتكليف الأستاذ هيكل بوزارة الإرشاد القومى (الإعلام الآن) إلى جانب رئاسته للأهرام، كان منير عساف هو من نسخ على الآلة الكاتبة الخطاب الذى وجهه هيكل إلى الرئيس عبد الناصر بتاريخ 26 أبريل 1970، فى محاولة لم تنجح للاعتذار عن قبول المنصب، وكان منير عساف موجودا حينما تولى هيكل وزارة الخارجية بالإنابة أثناء غياب وزيرها السيد محمود رياض فى زيارة لدول البلقان. وحتى عندما قرر الأستاذ هيكل كتابة أول كتاب له عن الرئيس جمال عبد الناصر بعد رحيله، فإنه عهد إلى منير عساف بمجموعة ضخمة من الوثائق والمراسلات والأوراق، وكلفه بأن يقوم على فرزها فى حدود توجيهاته وشرحه للخطوط العريضة لموضوع الكتاب الذى رأى أن يكتبه «للعالم الذى عرف الرئيس عبد الناصر واهتم بسيرته» ، ليتفرغ تماما لمراجعة كل ورقة تسلموها من الأستاذ هيكل وخصه هيكل بإهداء كتابه بخط يده على الصفحة الأولى من نسخة الكتاب التى حصلت عليها، ونصه:»منير .. سوف تجد فى صفحات هذا الكتاب أن جهدك الممتاز فى حفظ أوراقى قد جعل كتابته ممكنة.. لك شكرى ، ولك معه صادق الود والإعجاب. (التوقيع) 1972/1/18 ويتذكر منير عساف عندما أصدر الرئيس السادات قراره يوم الجمعة الأول من فبراير 1974، الذى نشر فى الصفحات الأولى من صحف يوم السبت 2 فبراير، بتعيين الأستاذ هيكل مستشارا لرئيس الجمهورية، توقع كثيرون أنه سوف يخرج من «الأهرام»، حيث مكتبه القديم ليذهب إلى قصر عابدين، حيث تم إعداد مكتبه الجديد. واتصل به الأستاذ «عبد الفتاح عبد الله» وزير شئون رئاسة الجمهورية وقتها، يخطره بعدد حجرات الجناح الذى أعد له فى عابدين، ويسأله إذا كان يرغب فى انتداب أحد من سكرتاريته الخاصة بالأهرام للعمل معه فى منصبه الجديد. وفوجئ الرجل حينما جاءته إجابة الأستاذ هيكل صريحة بأنه «لا ينوى الذهاب إلى قصر عابدين، وإنما هو خارج من الأهرام إلى بيته حتى يعثر على مكتب يعمل منه كصحفى وكاتب مستقل». وتأكد موقف الأستاذ هيكل حين أدلى بتصريح لوكالات الأنباء ومراسلى الصحافة العالمية، قال فيه بالنص:»إننى استعملت حقى فى التعبير عن آرائى بصراحة، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته فى إخراجى من الأهرام، وهذا هو كل شىء، وفى كل الأحوال فلقد تركت منصبا ولم أترك مهنة»! وسأل هيكل وقتها منير عساف مداعبا بالطبع :»إيه رأيك تيجى معايا قصر عابدين ؟». وضحك . وحتى أول أغسطس 1981 كان منير عساف فى أجازة بدون مرتب من الأهرام. وفى شهر يوليو أخطر منير عساف الأستاذ هيكل بأنه سوف يتقدم باستقالته نهائيا اعتبارا من أغسطس 1981، وحاول هيكل أن يثنيه عن القرار، وطلب منة أن يعيد النظر فيه ما دام الأهرام يجدد له الإجازة دون اعتراض. فإنه لم يكن مطمئنا، وكان لديه شعور داخلى بأن الجو العام غير مريح فى الأهرام وقتها، واتخذ قراره بالاستقالة، وعندما قامت «هوجة» إجراءات سبتمبر 1981، وجرى اعتقال الأستاذ هيكل فى الساعة الثانية والثلث من فجر يوم الخميس 3 سبتمبر، وكان وقتها فى منزله بالإسكندرية، كان منير عساف فى القاهرة «العامل الوحيد» (أو «الأوحد») فى مكتب الأستاذ هيكل . ويتذكر منير عساف قائلا: وشعرت لأول مرة بأننى مكبل اليدين، مشلول التفكير، لا أعرف كيف أتصرف. ولم أجد أمامى غير الاتصال بالأستاذ صلاح جلال (رحمه الله) ، وكان وقتها نقيبا للصحفيين ، لعل النقابة تستطيع أن تتحرك فى أى اتجاه تراه نافعا فى تلك الظروف الطارئة والصعبة . وظللت أطارد الأستاذ صلاح جلال ، وألح عليه، وأزعجه فى كل وقت، وكان كعادته صبورا وكريما معى إلى أبعد الحدود. ومع مرور الوقت بدا واضحا أن أحدا لا يملك أى تصرف، وأن الأمور أصبحت تستعصى على الكل. واستطاعت النقابة بجهود النقيب وأعضاء مجلسها أن تتوصل إلى ترتيبات لتسهيل توصيل المستلزمات الضرورية للصحفيين المعتقلين. وبالفعل بدأت أذهب يوميا فى الموعد المحدد إلى سجن «مزرعة طرة»، حيث كان الأستاذ هيكل محتجزا ، لأسلم المسئولين هناك المستلزمات الضرورية لاحتياجاته، وخاصة الدواء، ليقوموا بدورهم بتوصيلها إليه دون أن تتاح لى فرصة لقائه أو حتى رؤيته من بعيد. ويتذكر منير المضايقات التى تعرض لها، فى الأهرام قبل استقالته مثلا أن أحد كبار الزملاء من كتبة التقارير المعروفين اتهمنى فى أحدها خصصه لى بأن منير عساف يستغل نفوذه فى الأهرام لخدمة الأستاذ هيكل ولرعاية مصالحه ووصل مضمون هذا التقرير إلى جهة سيادية عليا، اطلعت عليه واتصلت بالأستاذ على حمدى الجمال (وهو رئيس تحرير الأهرام فى ذلك الوقت) وطلبت منه غاضبا أن «الولد بتاع هيكل اللى عندك ده لازم يتحوّل للتحقيق ويعاقب، ولازم العقاب يعلن فى الأهرام علشان الكل يعرف» ! هكذا قيل لى، وفى عهد تولى يوسف السباعى اتهم منير عساف «بالتجسس وبالعمالة» لصالح الأستاذ هيكل، وبأننى «أنقل إليه من أوراق المؤسسة وأسرارها ما لم يكن يستطيع أن يحصل عليه من غيرى» !! ولم أستطع أن أسكت، وجاء رد فعلى منفعلا بأكثر من اللازم ، ودون مراعاة لأى حدود للياقة أو الأدب. وأشهد أن الأستاذ على الجمال (وكان مكتبه ليس ببعيد) لم يحاول أن يتدخل رغم ارتفاع صوتى الزائد على الحد. وطلب الأستاذ يوسف السباعى من الأستاذ على الجمال فى مكتبه، ليصدر قرار على الفور بنقل منير عساف «من مكتب رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة إلى أحد الأقسام الإدارية بالمؤسسة» هكذا جاء نص القرار، وحتى حينما ذهب منير عساف فى منتصف أكتوبر 1978 إلى الأهرام حاملا عددا من بطاقات الدعوة لحفل زواجه يوم السبت الثامن والعشرين من نفس الشهر لعدد من كبار المسئولين والزملاء، فوجئ أن هناك قرارا كان قد صدر بمنعه من دخول الأهرام وبأن له صورة فوتوغرافية معلقة فى مكتب الأمن بالمؤسسة (تماما كالمجرمين المطلوبين) حتى يتعرف علىّ من لا يعرفنى شخصيا وينفذ قرار المنع . وثار وقتها ثورة لا تهدأ، وقام بلا وعى بتمزيق بطاقات الدعوة، وألقى بها على الأرض فى بهو الأهرام أمام مكتب الأمن. وتم إبلاغ الأستاذ سيد ياسين (مدير المطابع والمشروعات وقتها، وكانت تتبعه إدارة الأمن) بوجوده وبما جرى ، ثم انصرف ولم يعد ثانية إلى الأهرام . حتى جاء عام 1997 حينما تعرض منير عساف إلى أزمتين قلبيتين متتاليتين نتيجة انسداد أربعة من الشرايين الموصلة للقلب تبعه تلف فى جزء من عضلة القلب . وكان الأستاذ هيكل وقتها خارج القاهرة، وما إن تم إبلاغه حتى عاد إلى القاهرة مصطحبا معه نجله الطبيب القدير الدكتور على، و على الفور تم نقله بسيارة إسعاف من المستشفى الذى كان فيه بمصر الجديدة إلى مستشفى مصر الدولى بالدقى، حيث كان شاغلهما إنقاذه بأى ثمن، وقد كان، فأبعد فترة عادت الأزمات القلبية تتوالى ضعيفة أحيانا وشديدة فى أحيان أخرى. ومرت سنوات وشعور منير عساف يزداد بأنه أصبح عبئا على من كان ينبغى عليه أن يخفف الأعباء عنه، ويروى قائلا: لم أعد أملك القدرة على أن أبذل نفس المجهود، الذى كنت أبذله فى السابق قبل العلة التى أصبت بها. وقرر أن يبتعد ليريح ويستريح. فقد يقترب عندما كان إيثار السلامة فى الابتعاد ويبتعد بعدما أصبح الخير والسلامة فى الاقتراب بغير مشاكل أو موانع أو محاذير. وبرحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل يظل «منير عساف « شاهدا على زمن وعصر وأيام الأستاذ هيكل «، ويصبح صمت منير عساف عن الحديث عن الأستاذ، هو صمت الاحترام لتاريخ كان منير عساف جزءا منه أو على الأقل فى أجزاء كثيرة منه، ليصبح «الرجل الغامض فى حياة محمد حسنين هيكل».