لقمة العيش يا باشا.. يعنى لو كان فى مصر شغل كنا اتغربنا - بدران باهى رشاد «بنى مزار المنيا»: أمتلك 4 ورش رخام فى البيضاء ولدى 70 عاملا مصريا.. وفى بداية عملى قال لى المالك الليبى: عاوز فلوس.. عاوز أى خدمة - محمد أحمد محمد «كفر الشيخ»: رجوعى لمصر.. رجوع للمجهول - معظمهم من محافظات الصعيد الفقيرة ويعملون فى البناء والزراعة والحرف كالسباكة وأعمال الدهانات - جثث لعمال مصريين فى مناطق القتال مع الإرهاب ببنغازى - يومية العامل المصرى تتراوح بين 60 و 80 دينارا فى البيضاء - أكثر من 200 مصرى يهربون يوميا عبر الصحراء إلى ليبيا عدد العاملين المصريين فى ليبيا وفق إحصاءات "شعبة إلحاق العاملة بالخارج" بوزارة القوى العاملة يقدر بأكثر من مليونى عامل. وبرغم عدم وجود أرقام دقيقة للعدد، فإن المؤكد من جميع التصريحات الرسمية المعلنة ومن تقديرات من قبلناهم فى ليبيا أن عدد العاملين لا يقل بأى حال عن مليون ونصف المليون مصرى موجودين حتى الآن داخل الأراضى الليبية. أهم ما يميز تلك العمالة هو قدومها من محافظات اتسمت بالفقر المدقع، فوفق المؤشرات الإحصائية والبيانية الخاصة بالعمالة المصرية، الغالبية من محافظاتسوهاجوالمنياوالفيوم وأسيوط، وهى أكثر المحافظات فقرا وتتصدر أعلى نسب البطالة بين سكانها. طبيعة ونوع العمالة المصرية بليبيا تنحصر أغلبها بشكل أساسى بين عمال التشييد والبناء والزراعة أما المهن الأعلى كالمهندسين والأطباء والمحاسبين فنسبهم محدودة. فى ليبيا لا تخلو مدينة بل لا يخلو حى من مصرى، فالبحث عن العمال المصريين خلال زيارتنا لليبيا لم يكن صعبا، فمن مدينة طبرق مرورا ببعض القرى والمناطق الصغيرة حتى مدينة البيضاء ومنها لمدينة بنغازى لا يخلو حى من المصريين. فى مدينة البيضاء ذهبنا لأحد الميادين التى يتجمع فيها العمال المصريون وتحدثنا مع بعضهم .الروايات تقريبا واحدة والأحلام أيضا واحدة والشقا والتعب والعمل واحد. سألنا محمد عبدالحى من الفيوم عامل باليومية، عن عمله ودخله وكيف يعيش، بدأ محمد الحديث قائلا: إنه أتى إلى ليبيا كى يعمل وينفق على عائلته فى مصر، وقال: أنا عامل محارة باليومية ويوميتى 80 دينارا وكانت تعادل 400 جنيه مصرى، لكن منذ العام الماضى ونحن نحول بالغالى لتوقف التحويلات بين ليبيا ومصر، فالآن تساوى 200 جنيه فقط، وأنا أسكن مع مجموعة من المصريين ونستأجر شقة بنحو 600 دينار شهريا. يتدخل فى الحديث محمود على عبدالمقصود من المنيا: الليبيون هنا فى البيضاء يعاملونا معاملة جيدة ولنا كثير من الأصدقاء، وصاحب الشقة التى نؤجرها هنا يهتم بنا ويسأل عن أحوالنا باستمرار، فهو يسكن فى المبنى نفسه. قاطعته متسائلا: ألا تخشون من الإرهاب ومن الحرب؟ فجاء الرد: البيضاء آمنة بالكامل وبعيدة عن الحرب.. ولقمة العيش يا باشا، يعنى لو كان فى شغل فى مصر كنا سافرنا واتغربنا. الروايات متكررة فكثير ممن قابلناهم تحدثوا عن أنهم عمال باليومية ودخلهم اليومى ما بين 60 إلى 80 دينارا ليبياً، ولكن الشغل ليس كل يوم حوالى 4 إلى 5 أيام فى الأسبوع حسب حاجة العمل. بدأ يتجمع حولى أعداد كبيرة من العمال المصريين فرحانين وبالكرم المصرى المعهود يأتى أحد العمال بكوب شاى تحية منه لى. وسمعت من رفيق رحلتى عن وجود مصريين استطاعوا أن يبنوا حياة ويفتحوا ورشا ومصانع للرخام وذهبنا لنقابل أحدهم. بدران باهى رشاد من المنيا وتحديدا من مركز بنى مزار يمتلك 4 ورش ضخمة لتصنيع وبيع الرخام بمدينة البيضاء ويعمل لديه نحو 70 مصريا. بدأ بدران يتحدث عن مشواره فى ليبيا وقال: سافرت إلى ليبيا عام 2001 أى منذ 14 عاما لأعمل لدى أولاد عمى فى ورشتهم ببنغازى واستمررت بالعمل كعامل لمدة عام وتعلمت مهنة الرخام وادخرت بعض الأموال . ثم سافرت من بنغازى للبيضاء وأجرت أول ورشة وبدأت العمل وربنا كرمنى، ونجحت وكبرت الورشة ثم أجرت أخرى ليصبح لدىّ أربع ورش لتصنيع وتقطيع وتركيب الرخام، وأتذكر أن صاحب الورشة الليبى التى استأجرتها أول ما جئت للبيضاء وقف بجانبى وقالى لو عاوز فلوس لو عاوز أى خدمة أنا موجود، فأنا هنا من 2001 ومعى أولادى وزوجتى وجلبت أولاد عمامى وأولاد أخوالى وكثيرا من أبناء بلدتى، فكل من يعمل معى مصريون، ففى هذه الورشة 32 مصريا يعملون معى ويتعامل معى كثير من المصريين، صنايعية تركيب ونقل كلهم مصريون، أكثر من 70 مصريا يعملون معى فى هذه المدينة فقط. سألته: كم يبلغ دخل العامل المصرى عندك؟ العمل بالإنتاج فعامل الرخام يحصل على حوالى 3000 دينار إلى 5000 دينار شهريا حسب إنتاجه، أما العمال باليومية لأعمال التحميل فأجدهم نحو 60 دينارا يوميا. سألته : ظهور داعش وجماعات الإرهاب هل أثر على المصريين فى مدينة البيضاء؟ بالنسبة للبيضاء لم يؤثر إطلاقا والليبيون هنا واقفون معنا فى كل شىء، ولم يتركونا، فعندما تحدث أزمات فى الخبز وهذا حدث كثيرا يجلبون لنا الخبر فى العمل أو فى المنزل، علاقتنا بالليبيين فى المدينة طيبة جدا. للأسف لا أستطيع أن أزور أهلى فى مصر فمن يسافر يمنع من الرجوع.. أنا اضطررت للسفر من 9 أشهر لمصر ورجعت عن طريق السفر للسودان ومنها إلى مطار اللابرق فى البيضاء، فالمسافة كانت بعيدة وتكلفت نحو 15 ألف جنيه مصرى، هذا يحدث لمن معهم إقامات أما المصريون الجدد فيأتون عن طريق التهريب عبر الصحراء. ألا ترى أن قرار السلطات المصرية بمنع سفر المصريين إلى ليبيا مهم لحماية المواطنين؟ قبل ما تمنعنى من السفر فكر لماذا أنا أسافر، هل حصلت على عمل فى مصر؟، يا أستاذ الغربة صعبة ومن لا يريد العمل والاستقرار فى بلده وسط ناسه، لكن ما باليد حيلة، إحنا عاوزين نشتغل ونصرف على أهلنا نعمل إيه يعنى نسرق ولا ننهب حرام.. نسافر ونعرق ونشقى ونعمل بس هذه كل أحلامنا. كيف يسافر المصريون عبر الصحراء؟ كل يوم تسافر أعداد كبيرة عن طريق الصحراء، أمس وصل عدد عن طريق التهريب شربوا العذاب خلال الطريق وكان معهم ناس تعبت أثناء السير فتركوهم فى الصحراء يرجعون فى اتجاه الضوء وتسليم أنفسهم للجيش المصرى.. فالعمال يتجمعون فى السلوم ثم يتحركون عبر الصحراء مشيا على الأقدام لمدة 12 ساعة ليلا من بعد العصر حتى اليوم التالى ومعهم دليل. ويوميا يدخل ليبيا حوالى 200 مصرى عن طريق الصحراء وهذه أقل دفعة، والمهربون يطلقون على أنفسهم الجمرك الثانى وبعد تجمعهم يسيرون عبر الجبل والصحراء للوصول إلى طبرق ويضعونهم فى مخازن بطبرق، ثم تأتى سيارات تحمل 15 فردا لنقلهم لمدينة البيضاء، وخلال الطريق لو تم استيقافهم من قبل الجيش الليبى يرحلهم لمصر، ومن يمر ويصل للبيضاء يصبح فى أمان ولا أحد يسأله عن التأشيرة أو الإقامة، ومن البيضاء كل واحد حر يعمل هنا أو يكمل على بنغازى أو أى مدينة أخرى. كيف تعيش أسرتك هنا؟ الأمور تمام والأولاد فى المدارس وعندى طفل صغير فى حضانة ومعى ولاد عمامى وكله تمام والحمد لله استطعت أن أشترى أرضا فى مصر تم تخصيصها لى على طريق المنيا الصحراوى لتكون مصنعا كبيرا للرخام، وتعاقدت على الماكينات من الصين وإيطاليا وبدأت فى بناء المصنع وأريد القول إن ليبيا وأهلها لهم فضل كبير علىّ فى بناء مستقبلى. ستفتح مصنعا ولديك أربع ورش فى ليبيا و14 عاما فى الغربة هل حان الوقت للرجوع لمصر؟ قريبا سأرجع إلى مصر لكن لن أقفل أبواب رزقى هنا، فأنا مسئول عن 70 عاملا، سأترك الورش تعمل وسأزورهم كل فترة وسأتفرغ للمصنع فى مصر وربنا يكرم. وأضاف بدران أن غلق الحدود على المصريين ليس على العمالة فقط بل على الشاحنات المصرية، فالشركات المصرية كانت تنقل البضاعة إلى ليبيا عبر 66 ألف جرار تعمل على خط التجارة البرى، الآن لا يسمح بدخول هذه الجرارات هذا "وقف حال" وارتفاع فى سعر المواد الخام فسعر الرخام ارتفع للضعف بسبب النقل. توقفت كثيرا وأنا أستمع لقصة نجاح شاب مصرى فى ليبيا وعلاقة المصريين بالليبيين.. وما استوقفنى أكثر حديثه عن عمليات التهريب عبر صحراء الحدود وحجم المصريين من العمال الذين يعبرون الصحراء يوميا وبهذه الأعداد وكأنها حدود مستباحة، فكيف إذن شكل تهريب السلاح والإرهابيين بين البلدين.. فبالتأكيد إذا استطاع هؤلاء العمال الغلابة إيجاد وسائل للحركة والسفر غير الشرعى يصبح بالتأكيد الجماعات الإرهابية لديها أيضا طرق يمكن أن تكون أكثر سهولة فى إدخال السلاح والإرهابيين من ليبيا إلى مصر.. فالحدود الليبية الشاسعة التى تقدر ب 1450 كيلومترا تعد الخطر الأكبر على المصريين من داعش والقاعدة ومشتقاتهما من مسميات الإرهاب. واستوقفنا مشهد تجمع سيارات الشباب أمام أحد مطاعم السندويتشات كما يحدث عندنا فى شارع جامعة الدول العربية فى القاهرة، ذهبت للمطعم على أمل أن أجد أحد العاملين به من مصر لأكتشف أن المطعم بالكامل مملوك لمصرى وكل من يعمل به مصريون وهو بالقرب من ميدان الكيش الذى اشتهر بتجمع وتظاهر أهالى بنغازى كل يوم جمعة. تحدثنا مع محمد أحمد محمد شاب من كفر الشيخ مؤجر للمطعم ويعمل لديه 7 مصريين وقد تجاوزت الساعة منتصف الليل بقليل ومازالت طلبات الأكل من الشباب الليبى الموجودين حول المطعم وفى سيارتهم تنهال عليه بكثرة. بدأ محمد الحديث عن أنه قام بتأجير هذا المطعم بعد أن هدأت حالة الحرب وتمركز الجيش بالمدينة وحاصر الجماعات الإرهابية فى بعض الأحياء فقط. سألنا محمد ألا تخاف الموت وأنت تعمل فى بنغازى وهى مدينة يسيطر عليها الإرهاب؟ خلال العام الماضى وحتى الشهرين السابقين كانت الحياة بالمدينة صعبة جدا، فكنا لا نستطيع الخروج من منزلنا بسبب المعارك بين الجيش والجماعات لكن الحمد لله كثير من أحياء المدينة أصبحت آمنة بالكامل والجيش يسيطر عليها والأهالى تتحرك بحرية وبدأ العمل، والحركة عادت للمدينة بشكل كامل، نحن هنا نفتح من الساعة العاشرة صباحا حتى 11 مساء واليوم الخميس الحركة أكثر والطلب على السندوتشات أكثر فنسهر حتى الواحدة صباحا. ألا تشعر بالقلق والخوف؟ بالتأكيد ومن لا يخاف من صوت القاذفات والرصاص والمدفعية ولكن "لقمة العيش"، أنا هنا صاحب مطعم وأكسب كويس ولدى عمال مصريون فكيف أترك هذا وأسافر، أنت تتحدث أننا نعيش فى المجهول وأنا أقول لك رجوعى لمصر هو المجهول فأين سأعمل ومن أين سأصرف على أسرتى، هذا هو المجهول الذى أعرفه، وفى الحقيقة من يخفف علينا الحياة هنا هم أهالى المدينة من الليبيين، فعلا نتعامل كأبناء بنغازى وأصدقاؤنا الليبيون لا يتركوننا فى أى مشكلة، وعلاقتنا هنا كأننا فى مصر وأكثر وفى نهاية الحديث دعانا على بطبق كبدة إسكندرانى مشطشط. وتحدث معنا باقى العاملين فى المطعم وجاءت رواياتهم مماثلة لكل مصرى فى ليبيا يحلم بعمل مستقر كى يستطيع أن يرسل أموالا شهرية لأسرته ويحتفظ بالقليل منه. تركنا محمد ابن كفر الشيخ وفى اليوم التالى وخلال تجولنا داخل معسكر الصاعقة للجيش الليبى فوجئت ببعض العمال المصريين يركبون أبوابًا فى مبنى داخل المعسكر وفى حوار سريع أوضح أن الحاج يوسف محمد لملوم من الفيوم يعمل نجار أبواب لدى شركة مقاولات ليبية ويحصل على 70 دينارا أجرا يوميا.. ضحك وقال نحن فى بلدنا الثانى ليبيا والأمور تمام. وإذا كانت هذه روايات المصريين الإيجابية عن الحياة والعمل فى ليبيا فبالطبع هناك روايات وقصص أكثر قسوة ودموية تعرض لها كثير من المصريين فى مدن ومناطق أخرى حتى داخل بنغازى، فكل فترة يتم العثور على جثث لبعض العمال المصريين فى الأزقة وداخل محاور القتال التى مازال القتال دائرا فيها، فالبحث عن العمل وتوفير الأموال لأسرهم أغلى عندهم من حياتهم. "رأيت كل شىء وتعبت على الحقيقة.. قابلت فى الطريق عيون كتير بريئة هى دية الحدوتة.. حدوته المصريين الشقيانين فى ليبيا"