سهير عبد الحميد «وجه محمد على مشحون بالاهتمام، عيناه تكشفان على الرغم منه – حالة من الاضطراب عندما غرقت الغرفة فى الظلام استعدادا لوضع الألواح فوق الزئبق، وأخيرا انكسرت حدة السكون باشتعال عود ثقاب أضاء الأوجه البرونزية الشاخصة، وكان محمد على الواقف قرب آلة التصوير يقفز ويقطب حاجبيه ويسعل . وقد تحول نفاد صبر الوالى إلى تعبير محبب للاستغراب والإعجاب صاح: هذا من عمل الشيطان ثم استدار على عقبيه ومازال ممسكا بمقبض سيفه الذى لم يتخل عنه لحظة واحدة وكأنه يخشى مؤامرة ما ". هكذا وصف جوبيل فسكة المصور الفرنسى قصة أول صورة فوتوغرافية التقطت فى منطقة الشرق الأوسط بأكمله فى الإسكندرية فى 7 من نوفمبر 1839، ومن يومها بدأت علاقة بين مصر والكاميرا نسج أول فصولها المصورون الأجانب، وخصوصا الأرمن ومنهم عبد الله إخوان – ليكيجيان – صباح . وعبد الله إخوان تحديدا كانوا من مصورى البلاط العثمانى زمن السلطانين عبد العزيز "1861 – 1876 " وعبد الحميد الثانى، ودعاهم الخديو توفيق للعمل فى مصر، حيث استأجروا محلا بجوار قصر نوبار باشا فى منطقة باب الحديد "رمسيس حاليا" وكانت بورتريهات السلاطين العثمانيين أكثر ما أتقنوه فجذبوا إليهم السائحين الأوروبيين، أما ليكيجيان فافتتح محله فى الجهة المقابلة لفندق شبرد بوسط القاهرة، وكان يوقع على صوره "متعهد جيش الإنجليز". وفى القرن العشرين عرفت مصر أسماء مصورين أرمن أمثال: أرشاك مصرف، و الأخوين أنترو وجارو. ويظل جارو الاسم الأبرز بين المصورين الأرمن ويظل محله الذى ظل لسنوات فى شارع قصر النيل قبلة كبار القوم فى مصر، علامة مميزة من علامات القاهرة الخديوية منذ منتصف القرن الماضى وحتى عشر سنوات مضت عندما قرر ابنه فاهى ترك التصوير والتفرغ لفن الرسم. فاهى جارو الذى رافق الأب فى رحلته هو من مواليد 1951، درس فى كلية ليوناردو دافنشى ببولاق وذهب فى منحة إلى إيطاليا لمدة سنة، له معارض عديدة ويرسم لوحات لبعض السفارات، يروى فاهى القصة التى تجسد تاريخ معاناة الأرمن ونجاتهم ثم نجاحهم فى البدء من جديد والاندماج فى وطنهم الذى احتضنهم واحتضنوه، ولكن دون أن ينسلخوا عن هويتهم الأرمينية. يقول فاهي: بدأت الرحلة عندما فر جدى إلى مصر عام 1915 واستقر به المقام فى الإسكندرية، حيث التقى بزوجته الأرمينية وأنجب منها ابنه جارو، كانت العائلة المكونة من خمسة أشقاء تقطن فى شقة صغيرة بمنطقة كرموز، وقد اضطر جارو إلى العمل فى سن صغيرة لمواجهة أعباء الحياة، وقد وجد ضالته فى حرفة التصوير التى يعشقها وهو فى سن الثامنة عشر بماكينة صغيرة وبخبرة بسيطة اكتسبها على يد المصور الأرمنى "أبكار"، مع الحرب العالمية الثانية اضطرت الأسرة إلى الرحيل إلى القاهرة هربا من قنابل الألمان، وذلك فى مطلع الأربعينيات، وفى منتصف الأربعينيات عرض عليه أحد المصورين شراء الاستديو الخاص به بتسهيلات فكان وافتتح جارو الاستديو الشهير الخاص به عام 1946 فى 40 شارع قصر النيل، وبدأ يكتسب شهرة واسعة بعد قيامه بتصوير بعض أفراد الأسرة المالكة والباشوات، كما أنه صور معظم فنانى الزمن الجميل يوسف وهبي، فاتن حمامة، شادية، النابلسي، محمد فوزى، كاميليا . ومن رجال الأعمال الذين صورهم موصيرى بك أحد أهم أثرياء اليهود. كان والدى يعشق التصوير ويلعب بالأضواء وتخصص فى فن البورتريه وأبدع فيه. وزادت شهرته بعد أن أقام معرضا كبيرا عام 1949 وأضحى ستديو جارو فى شارع قصر النيل الذى كان قطعة من أوروبا فى ذلك الوقت، قبلة الباشاوات وكبار القوم الذين يأتون بسياراتهم الفارهة إلى الاستديو للتصوير . يقول فاهى: كان والدى يحكى لى كيف كانت الحياة فى القاهرة شديدة الروعة، وكم كانت منطقة وسط البلد بحق قطعة من أوروبا، ويتذكر كيف كان الجنود الإنجليز يأتون إلى الاستديو لالتقاط صور، وكان منهم من لا يأتى لاستلامها فأكثرهم كانوا سكارى، وكانت للمحل فاترينة صغيرة على الشارع وكل فترة تمر المظاهرات المنددة بالاحتلال وتحدث مواجهة مع الجنود فتتحطم الفاترينة. بعد الثورة أصبح والدى يلتقط الصور لأعضاء مجلس قيادة الثورة خصوصا أنور السادات الذى تعرف عليه قبل الثورة بحوالى ثلاثة سنوات، وأتذكر جيدا أننى ذهبت معه ذات مرة عام 1966 إلى منزل السادات فى الهرم لتصوير الأسرة، وكان والدى يساعده فى اختيار البدلة والكرافت اللازمة للتصوير، فإذا بى أسمع جلبة فى الحجرة المجاورة، وعندما فتحت الباب فوجئت أمامى بالرئيس عبد الناصر يلعب الشطرنج مع حسين الشافعي، وكانت مفاجأة رهيبة أن أرى عبد الناصر وجها لوجه، وبعد وفاة عبد الناصر وتولى السادات الحكم 1971، فوجئ والدى بالسادات يحدثه هاتفيا ويطلب أن يقوم بتصوير الصورة الرسمية الأولى وصحبته إلى استراحة القناطر والتقط له صور فنيه للغاية وأضحى المصور الخاص للعائلة، ففى كل عام كنا نذهب لالتقاط صور للأسرة. وكانت الرئاسة تطلبه لتصوير ضيوف مصر ومنهم الإمبراطور هيلا سيلاسي، مكاريوس رئيس قبرص، سوكارنو، الأمير فيصل. فى 1977 صور أول صورة رسمية للرئيس حسنى مبارك عند تعيينه كنائب رئيس باللبس العسكرى واللبس المدني، وعندما تولى الرئاسة ذهبنا لتصويره الصورة الرسمية كرئيس. أما أنا فصورت مبارك بضع مرات، وكان شخصية فى غاية البساطة، كما صورت رؤساء الوزراء بدءاً من فؤاد محيى الدين وحتى عاطف عبيد، وصورت عددا من الفنانين خصوصا الفنانة وردة وقد التقطت لها عدة صور مع بليغ حمدى. كان السادات «فوتوجنيك» ويتخذ الوضع الملائم للصورة، فهو شخصية لطيفة جدا وكان يروى النكات لوالدى ولأن اللغة العربية لديه لم تكن جيدة كان فى بعض الحالات لا يفهم النكتة لكنه يضحك. كان والدى فنانا وعندما يأتيه أحدهم راغبا فى التصوير، كان يطلب أن يجلس معه قبل التصوير حتى يتحاورا فى موضوعات عامة لتحدث نوعاً من الألفة، وبالتالى تطلع الصورة حلوة يوم التصوير. فى الثمانينيات تغيرت الحياة فى مصر ومع كثرة الزحام لم يعد زبائن ستديو جارو يستطيعون المجىء للمحل، فى 1984 توفى والدى إثر إصابته بجلطة، استكملت المشوار، وأصبحت مصوراً لمبارك وعائلته، وظللت حتى 2005 وكل رؤساء الوزراء من أيام خالد محيى الدين حتى عاطف عبيد، وشوارع قصر النيل أصبحت مثل أى حى شعبي، والباعة الجائلون انتهكوا جمال الحى، أما تراث والدى فقد ضاع معظمه للأسف فى حريق بالمخزن.