رحل شيخ المصورين المصريين والعرب رشاد القوصي يوم الجمعة الماضي عن88 عاما قضي منها75 عاما في صحبة الكاميرا و65 عاما في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة, ويحتفظ أرشيفه الخاص بصورة قام بالتقاطها لإخوته الصغار, كان عمره وقتها12 عاما, أما الكاميرا فكانت لوالده الخطاط والرسام بهيئة المساحة الذي سمح له بإقامة معمل صغير في حمام البيت, وكان الأب بالأصل يحب التصوير ويمارسه ويرسل لصوره إلي جريدة البلاغ كي تنشرها في بابا خصصته لهواة التصوير الفوتوغرافي في صفحتها الأخيرة. عاصر رشاد القوصي ملكين اثنين فؤاد وفاروق وأربعة رؤساء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك لكن أول صورة أدخلته إلي عالم الإحتراف في الصحافة نشرتها له الأهرام عام1946 لوزير المعارف وقتها محمد العشماوي باشا يضع مع نظيره الإيراني الزائر إكليلا من الزهور علي قبر الملك فؤاد بالمقابر الملكية علي مقربة من منزل الأسرة في حي الحلمية الجديدة حيث عاش صباه وسنوات شبابه الأولي. وعندما زرته في شقته ب دير الملاك شرقي القاهرة في ديسمبر عام2006 حيث أطلعني علي أرشيفه الخاص, تحدث باستفاضة عن ارتباطه بمكان صباه الذي يضم مسجدي الرفاعي والسلطان حسن والمقابر الملكية, كان قد تقدم في السن وبلغ عامه الثالث والثمانين, وبدا أضعف وأوهن مما كان عليه في مطلع عقد الثمانينيات حين عرفته في حديقة نقابة الصحفيين عضوا دائما في جلسات دردشة ليلية دافئة, يتصدرها المرحوم الأستاذ إبراهيم يونس ويتردد عليها فطاحل المهنة وفرسانها الحقيقيون البعيدون عن المناصب والسلطة كالأستاذ سمير تادرس اطال الله عمره. صورته الأولي في بلاط صاحبة الجلالة ومثلما ضاعت من الذاكرة أصداء ذكريات سنواته الخمس الأولي في أسيوط مسقط رأسه قبل أن ينتقل إلي منزل جده ب الحلمية الجديدة الشيخ محمود القوصي رئيس المحكمة الشرعية, فقد الأرشيف الخاص لشيخ المصورين الصحفيين صورته الأولي في الأهرام والصحافة لكنه أطلعني علي صورة الملك فاروق وهو يزور قبر والده فؤاد بأول كاميرا اشتراها من ماله الخاص بايولت سكس ووقتها كان مازال يعمل مدرسا للتربية الفنية. وعن صورته الأهرامية قال لي: اتذكر قصتها جيدا... إنها داخل المقبرة الملكية بجوار المسجد الرفاعي وبدون فلاش كانت هناك زيارة رسمية لكن من دون مصورين, ولمحت العشماوي باشا وزير المعارف آنذاك ومعه ضيف نظيره الإيراني, والتقطت الصورة, وأسرعت إلي معمل التحميض الخاص بي بمنزل الأسرة علي بعد ثلاث دقائق, ولما الصورة, فكرت في البداية أن أبعث بها إلي البلاغ كما كان يفعل أبي, لكني قادتني قدماي إلي الأهرام في مبناها آنذاك بشارع مظلوم وقابلت سكرتير تحريرها والمسئول عن الصور بها الأستاذ نجيب كنعان وأنا أسلمه الصورة بيدي لاحظت مساحة بيضاء خالية أسفلها, فكتبت: تصوير القوصي, وفي صباح اليوم التالي كم كانت سعادتي عندما وجدت الصورة واسمي في الصفحة الأولي ب الأهرام وتلقيت علي هذه الصورة عشرين قرشا دفعة واحدة, وأظن أن المبلغ يساوي في أيامنا هذه ألفين من الجنيهات. قبل إندلاع الحرب العالمية الثانية في عام1939 لم يكن هناك مصور يعمل بشكل ثابت داخل الصحف المصرية, بل كان المصورون الصحفيون الذين يتعاونون مع هذه الصحف أغلبهم وأشهرهم من غير المصريين, وكما قال القوصي: ابتدع الأرمن( كارلو بابجيان) و(ميشيل نظريان) العمل بنظام( الأبونية) أي من خلال مكتب تصوير خاص يتلقي تكليفات من الصحف, ومع الحرب العالمية الثانية استحدثت مجلتا( اللطائف المصورة) و(المصور) اقسام التصوير بمعاملها في صحفنا, وكان من أوائل من عمل بها المرحومان( محمد يوسف) و(عبده خليل) كأول مصريين يعملان كمصورين داخل الصحف, كما كان في داخل الأهرام مكتب للعراقي الأصل يوسف حيالي وأضاف: فيما بعد عملت أنا داخل الصحف في( الجورنال دي لجيبت) بتوصية من أستاذي المصور الملكي الأرمني( أرشاك) وبعدما تركت التدريس تماما( في مدرسة الزفاف الملكي) للايتام بالعباسية ف الدرب الأحمر الابتدائية وتفرغت للتصوير منذ عام.1948 والعام الأخير بالغ الأهمية في سيرة شيخ المصورين الصحفيين المصريين وتاريخ التصوير الصحفي في مصر, فقبل حرب1948 مباشرة, أصدر إدوارد جلاد المقرب للملك فاروق وصاحب الجورنال دي لجيبت الصادرة بالفرنسية صحيفة مسائية بالعربية هي الزمان رأس تحريرها الأستاذ جلال الحمامصي مقابل مرتب شهري25 جنيها ظل يتقاضاه حتي مارس1952, ومع حرب1948 وجد القوصي نفسه مصورا صحفيا وحيدا علي الجبهة مع الجيش المصري. وقال لي: كلفني وزير الحربية اللواء محمد حيدر باشا بمهمة مرافقة الجيش بعدما بحثت الحكومة عن مصريين بدلا من المصورين الأرمن والأجانب الذين كانوا قد تقدموا بالفعل للمهمة, ووافق عليهم رئيس الوزراء النقراشي وواقع الحال أن القوصي كان بمثابة الدفعة الأولي من المصورين الصحفيين إلي الجبهة, قبل أن يعود منها وتذهب الدفعة الثانية, والتي لم تكن إلا محمد يوسف وبمفرده هو الآخر, وللمفارقة أن الأرشيف الرسمي لم يحفظ أيا من صور حرب1948 وهنا قال القوصي: بعد سنوات من الحرب جاءني صحفي بريطاني يعد كتابا عن حرب48 واتضح لنا أن الجهات الرسمية بعد الثورة حرقت الأرشيفات من أفلام وصور مطبوعة, ولعله كان موقفا من زيارة فاروق للجيش في فلسطين, لكن كم كانت دهشتي عندما لم نعثر في كافة ارشيفات دور الصحف المصرية إلا علي خمس صور فقط, وفيما بعد أخبرني الصحفي البريطاني أنه عثر علي أرشيف كامل به صورنا التي كانت تتناقلها وكالات الأنباء حينها في إسرائيل, لكن المصور رشاد إحتفظ في أرشيفه المنزلي بصور للاجئين الفلسطينيين من الفلاحين الفقراء الذين كانوا قد تدافعوا علي محطة السكك الحديدية بالقاهرة باب الحديد قادمين من قطاع غزة. صور المجتمع المخملي قبل ثورة يوليو عندما عاد شيخ المصورين الصحفيين من الجبهة عاش مع آلة تصويره عالما من المتناقضات إلي جانب صحيفتي الزمان والجورنال دي لجيبت إحتفظ بعلاقة عمل لحساب صحف جماعة الإخوان المسلمين حتي إغتيال مؤسسها حسن البنا في عام1949, وقد روي لي أنه اضطر لإخفاء كل الأفلام والصور التي تتعلق بالبنا وجماعة الإخوان عند أحد أقاربه, ولم يستردها إلا بعد نحو ست سنوات, وإنخرط في السنوات السابقة مباشرة علي ثورة يوليو1952 في تصوير حياة الليل ل المجتمعات المخملية في أماكن اللهو والترفيه بالقاهرة لطبقة آخذة في التفسخ والتحلل, وقال أنه في هذه الأيام تعرف علي الصحفية سعاد منسي لكن في سياق مختلف تماما, فقد قام بتصوير لقطة لسيدة عجوز تعيش داخل جذع شجرة( مجوف) بالقاهرة لأنها بلا مأوي, ونشرت اللقطة مجلة مسامرات الجيب مع موضوع أجرته الأستاذة سعاد وتشاء الأقدار أن ترحل كاتبة الموضوع هذا الشهر قبل أسبوع واحد من مصوره. لم يعمل شيخ المصورين الصحفيين في جريدة الأهرام مع أنها اكتشفته وقدمته لعالم الصحافة كما ذكرنا لكنه عمل لنحو ثماني سنوات متواصلة في أخبار اليوم إعتبارا من مارس1952 بعدما استغنت عنه جريدة الزمان دون أن تبدي له أي أسباب فقد أعطتيه خطاب شكر ومكافأة خمسمائة جنيه, وإن كان بالإمكان تفسير هذا الاستغناء الآن بأن المصور المحترف إقترب بآلة تصويره من عوالم تغضب أصحاب الجريدة المقربين من القصر الملكي, وبدأ يسجل تناقضات إجتماعية وسياسية تغضب رجال القصر, وطبقة أصحاب الليالي المخملية, وفي أخبار اليوم استقبله ورحب به مدير تحريرها آنذاك الشاعر كامل الشناوي بعدما استأذن مصور المؤسسة الأول والوحيد المعين محمد يوسف. وفي تلك السنوات عمل عن قرب مع الأستاذ محمد حسنين هيكل, وإنتهت علاقة العمل مع أخبار اليوم في عام1960 عام تنظيم الصحافة وإنهاء الملكية الفردية والعائلية لكبري مؤسساتها, وقال القوصي: خيرني مصطفي أمين بين الرحيل أو التفرغ مع زيادة راتبي عشرة جنيهات فوق الخمسين جنيها التي كنت أتقاضاها كراتب شهري, وأضاف: كان يريد أن أترك التعاون مع التصوير التليفزيوني والصحافة الأجنبية التي بدأت في مراسلتها... لكننني رفضت إلا أن ارشيف القوصي الخاص يحتفظ بما يعتقد أنه أول صورة التقطها للرئيس الراحل عبد الناصر مع أعضاء مجلس قيادة الثورة ظهيرة يوم23 يوليو1952, حين خرجوا إلي شرفة متسعة بمبني قيادة الجيش بكوبري القبة, وهنا علق القوصي علي الصورة قائلا: وقتها كان التصوير أقل قيودا مما بات عليه لاحقا مع رؤساء مصر. ولما سألته لماذا؟ أجاب: علي الأقل أصبح للرئيس لاحقا مصوره الخاص واعتبارا من عام1957 ثم أضاف: لعلها الاعتبارات الأمنية المبالغ فيها. مع عبد الناصر و السادات وحادث المنصة لكن شيخ المصورين الصحفيين مع التحاقه بالتليفزيون المصري منذ بداية ارساله عام1960 وحتي عام1981 قد أصبح مصور الرئيسين عبد الناصر وأنور السادات, وله في ذلك ذكريات رواها في جلستنا بمنزله, ولعل من أهمها قوله إنه كان يخشي النظر إلي الأول في عينيه مباشرة فقد كان شخصا بالغ القوة والمهابة وفق تعبير القوصي, أما السادات فقد كان في رأيه يحب التصوير بجنون, ويهتم بأن يري نفسه محاطا بالكاميرات بما يفوق عبد الناصر بمراحل إلا أن السادات كان موضوعا لما يراه مؤرخو التصوير الصحفي أهم صورة في سيرة شيخ المصورين الصحفيين المصريين والعرب, فقد التقطت آلة تصويره لحظة اغتياله خلال العرض العسكري ظهيرة السادس من أكتوبر1981 وهنا قال لي: لما حدث ضرب النار كنت في شبه غيبوبة, رغم انني لم أسقط علي الأرض, وما جري بعدها, أنني ذهبت إلي منزلي بعدما اعطيت الوكالة الأجنبية التي أعمل لها سيجما فيلمي وابلغتهم أنني لم أصور إلا مشاهد ما قبل حادث الإغتيال, وعندما عدت إلي مكتب الوكالة بالقاهرة, وكانوا قد ارسلوا الفيلم إلي مركزها الرئيسي في الخارج فوجئنا ب آلات التيكرز في المكتب تدق: مبروك... صورتان بالألوان للقوصي لحادث المنصة, والحقيقة انني إلي هذه اللحظة مندهش... كيف التقطتهما.. كيف تحرك أصبعي... بالفعل كنت في شبه إغماءة, ورغم أن الصورة لا يظهر فيها السادات بوضوح.. إلا أنها كانت نادرة خصوصا أن المفاجأة والخوف داهما عشرات المصورين وبينهم أجانب محترفون, وقد تناقلت كبريات الصحف العالمية صورتي القوصي بوصفهما الوحيدتين بفوتوغرافيا الألوان, وأفردت مجلة نيوزويك الأمريكية واسعة الانتشار لواحدة منهما صفحتين كاملتين. حين كنت أتعرف علي الأستاذ رشاد القوصي للمرة الأولي في حديقة نقابة الصحفيين في مطلع الثمانينيات كان في قمة مجده وشهرته شديد التواضع قليل الكلام, وحين التقيته في منزله قبل رحيله عن عالمنا بنحو خمس سنوات وأطلعني في حوار طويل علي أرشيفه الخاص كان مازال يعمل في تصوير معارض الفن التشكيلي للصحافة, ويرعي معارض ومسابقات لفن التصوير الفوتوغرافي, وعندما هاتفت أسرته للعزاء بعد رحيله, سألت ما إذا كان شيخ مصورينا الصحفيين قد تمكن من النزول إلي ميدان التحرير لتسجيل وقائع الثورة تلقيت الإجابة, بالنفي, فقد منعته ظروفه الصحية, وما لحق بالبصر من ضعف من أن يشارك في التأريخ بالصورة الصحفية لآخر ثورات شعبه, لكنه يظل حيا في ذاكرة المهنة والوطن.