أحمد أمين عرفات من يقرأ أشعار الحب لدي المصريين القدماء يكتشف قيمة الحب الحقيقي، وكيف كان المحب يمتلك أحاسيس جياشة، ويعاني من لوعته ويعيش بهجته واشتياقه، وكيف أن المرأة كانت هي أيضا تبوح بحبها لحبيبها، وأشياء أخرى كثيرة تتعلق بهدايا المحبين، وطقوس الحب. هذه الأشعار جمعها د. فكري حسن، أستاذ ومدير برنامج إدارة التراث الحضارى فى الجامعة الفرنسية بمصر، فى تجربة فريدة من نوعها، وهو ما جعلنا نلتقي به برغم مرور عدة سنوات على كتابه، ونحن نحتفل بعيد الحب، فكان هذا الحوار: ما الذي دفعك لعمل كتاب عن أشعار الحب لدي المصريين القدماء؟ ما دفعني هو رغبتي فى تغيير الصورة التي أعتدنا تقديم مصر بها، وإظهار حقيقة الحضارة المصرية التي ارتبطت فى أذهان العالم بالموت والآثار فقط، بينما الحب الذي هو جوهر الحضارة المصرية يتم إغفاله، برغم أنه لم ينقطع وظل مستمرا ولصيقا بالمصريين فأخذ فكرة " المحبة" فى المسيحية و" الرحمة " فى الإسلام، ومن يتأمل المواويل والأغاني الشعبية يكتشف أن هناك تطابقا كبيرا بينها وبين أشعار وأغاني الفراعنة، فالحب هو أساس الحضارة المصرية وجوهرها وليس ما نعرفه عنها من قشور، وهذا ما كشفته الأشعار والصور المرسومة على المعابد، من أنه ليس الفراعنة كانوا يعيشون فى مجتمع حي تسوده المشاعر، كما أيقنت من خلالها أنها المدخل الحقيقي إلى جوهر المصريين وحضارتهم. ما علاقتك بالحضارة المصرية القديمة؟ لقد تخرجت فى كلية العلوم قسم جيولوجيا بجامعة عين شمس، ولأن الجيولوجيا تبحث فى الأصول فقد استهواني البحث فى أصل الإنسان المصري القديم، فالحضارة المصرية لا أحبها كآثار فقط، ولكن كحياة إنسانية، ومن أجل ذلك بحثت عن كل ما يتعلق بهذا الأمر طوال إقامتي فى أمريكا على مدار 25 عاما، وفي فرنسا طوال 15 عاما أخرى، أثناء عملى أستاذا فى جامعاتها، وانتهي بي المطاف لعمل أول برنامج لإدارة التراث الحضارى فى الجامعة الفرنسية. أشرت فى كتابك أن أقدم هذه الأشعار تعود للأسرة الثامنة عشرة وهو العهد الذي كانت مصر فى قمتها وعز سطوتها، فهل يعنى ذلك أن الحب مرتبط بالتقدم والازدهار؟ بالفعل مصر كانت فى هذا الوقت منفتحة على العالم وفي أوج ازدهارها، وشهدت طفرة فنية كبيرة ليست فقط فى الشعر، ولكن فى الصور المرسومة على المعابد، بل كانت هناك صالونات تقام ليلقي فيها الشعراء قصائدهم ومنها قصائد الحب وسط الحدائق وفي مصاحبة الموسيقى. ما الذي تميزت به أشعار الحب لدى الفراعنة؟ جمع بين الروحانية والحسية فى نفس الوقت، بعيدا عن أي ابتذال، فلا هو الروحاني الأفلاطوني الخالص ولا هو بالحسي فقط، فالشخصية الفرعونية كانت تمتع نفسها وفي نفس الوقت لا تنسى حياتها الروحية، فهذه الأشعار أراها كنزا لم نكن نعرف عنه شيئا. هل استغرق جمع هذه الأشعار وقتا طويلا؟ أنا لم أقم على هذا المشروع مرة واحدة، فقد كنت أبحث عن هذه الأشعار كنوع من الاستمتاع بها، لذلك عشت فى هذه التجربة نحو 10 سنوات، ولم أقتصر بترجمتها إلى العربية فقط، بل قمت بترجمتها إلى الإنجليزية وأيضا صغتها بالعامية حتى تنتشر بصورة أكبر بين الناس. ما الذي راعيته فى هذه الترجمة؟ حاولت بقدر الإمكان أن أبتعد عن الترجمة الأكاديمية، لأنها موجودة بالفعل، ولكنها تشعرك بالملل عندما تقرأها، كما تحوي عيبا وهو التضارب فيما بينها فى بعض الكلمات، لذلك اعتمدت فى ترجمتى على روح القصيدة، مستعينا بكوني شاعر، وهو ما ساعدني فى الحفاظ على أكبر قدر من المعانى، ومشيرا فى الوقت نفسه إلى كل المراجع والترجمات والمصطلحات الأكاديمية، حتى لا أحرم القارئ من الرجوع إليها إذا أراد، وقد سعدت جدا بما كتبه الشاعر فاروق شوشه عني عندما قال: بأن ترجمتي يسكنها الحس المرهف واللغة الأدبية الطيعة. كيف توصلت للترجمات السابقة لهذه الأشعار؟ لقد طفت بجميع المتاحف المصرية والأجنبية وعثرت على النسخ الأصلية، واطلعت عليها برغم سوء حالتها. يتبادل المحبون الهدايا فى عيد الحب، فهل كان يتم ذلك قديما؟ بالطبع، فالحبيب يهمه أن يهدي لحبيبته ما يثبت حبه لها وحرارة العلاقة التي تجمعه بها، وخصوصاً الهدايا التي تثير الحواس كالعطور والزهور والأكلات المحببة، ويضاف إليها الهدايا النفيسة التي تقتصر على الطبقات الميسورة، فالمصريون هم أول من اخترعوا طرق التعبير الفني عن الحب، وأول من روجوا لفكرة الحب كأساس للتسامح والتعايش والخير والمساواة. من الأشعار التي قالها العاشق المصرى القديم: «حبيبتى على ضفة النيل الأخري، وبينى وبينها النهر والتماسيح، ولكنى سأخوض الماء وأتحدى التماسيح، فحبك يمنحنى القوة والشجاعة». هل بلغ الحب لدي الفراعنة بأن يجعل العاشق يخاطر بحياته من أجل معشوقته؟ هذا أيضا من اكتشافات المصريين فى الحب، فهو يضحي بكل شيء لجل عيون حبيبته، فكان حبهم هو المادة الخام التي تعلمنا منها ومعنا العالم كله، فالحب موجود منذ أن خلقنا الله، لكن فنه وممارساته ابتكرها المصريون، وهذا ما زاد من بهاء وقيمة حضارتهم. ولكن للأسف لقد تحولنا الآن إلى تابعين للغرب فى آرائه وفلسفاته ومذاهبه، برغم أننا الأصل، وكان من الأجدي أن نختار يوما فرعونيا وشخصيات فرعونية رمزا للحب لكي نحتفل بعيد الحب. هل هناك شخصيات محددة ارتبطت قصص الحب بها، مثل ما عرفناه فيما بعد من قصص كروميو وجوليت وقيس وليلي؟ هناك ما يروي عن الحب بين الملكة حتشبسوت والمهندس سنموت، الذي بني لها معبدها فى الدير البحري، وكان مهندسا من البنائين العظام، وما يروى أن حتشبسوت ومنذ وقع بصرها عليه اتحدت روحها بروحه وأن قصة حب نشأت بينهما وقيل إن ممرا سفليا كان يربط حجرة دفن سنموت، بحجرة دفن حتشبسوت، بغية أن تلتقى"روحاهما" فى العالم الآخر، ولكنه حب كما قيل عنها كان يسمو بالعواطف ويرتفع فوق الشهوات. أي يوم تقترحه ليكون عيدا للحب؟ يمكن إتخاذ عيد إيزيس إلهة الحب وإلهة الرقص والغناء فى نفس الوقت، أو عيد حتحور إلهة الحب والجمال، ويمكن أن نختار يومين للاحتفال بهم، أحدهما فى الربيع، والآخر فى الخريف، فهذا سيكون له مردود إيجابي كبير على مصر، يتمثل فى تعريف الناس بأننا أصل هذا العيد، والثاني الترويج سياحيا لمصر فى العالم كله. لجأ الشاعر المصري القديم إلى تشبيه حبيبته بالنجمة فى السماء، وهو ما لجأ إليه الشعراء فيما بعد؟ نحن جميعا بشر وهناك ما يجمع بيننا وخصوصاً فيما يتعلق بالإحساس، أما وصف الحبيبة بالقمر والنجوم فهذا نتيجة الحياة والظروف التي نعيش فى ظلها، فالقمر والنجوم كان أجمل ما يراه المصري القديم ليشبه به المحبوبة، ولكن اختفي هذا الوصف مع بناء الأبراج الشاهقة التي أخفت السماء عنا واكتشاف الكهرباء لتحل محله تشبيهات أخرى مثل " يا نجف بنور " وغيرها. على مر العصور هناك قصائد حب استخدم فيها الشاعر ألفاظا إباحية وهناك من تحدث عن الجنس فيها، فماذا عن الفراعنة؟ لم أعثر على مثل هذه القصائد لدي المصريين القدماء، فلم تعرف أشعارهم الإباحية، ولذلك عندما تقرأ أشعارهم تشعر أنها قريبا من نفوسنا وما تحويه من شفافية تقربنا أكثر من عالمهم، فهم ليسوا بالمثالية والروحانية المفرطة ولا بالحسية التي تصل إلى حد الإباحة، ولم يحدث الفصل بين الحسي والروحاني إلا فى عهد اليونانيين عندما فصلوا بينهما فأصبح هنا أفلاطون وأرسطو. أشعار الحب لم تخلو من قصائد جاءت على لسان المرأة مثل: «كما يذوب الملح فى الماء، كما يختلط الماء باللبن، حبك يتخلل كياني، يسرى فى وجداني، فلتسرع إلى كصقر ينقض من السماء كجواد يركض، أو كثور هائج، لتسرع إلى فمحبوبتك فى انتظارك»، فهل كانت المرأة من حقها أن تبوح بالحب؟ هذا ما كان يحدث وأعتقد أنها رسالة لنا لنعرف كيف كانت المرأة، فهي فى الحضارة المصرية المراة كرجل تماما، وبنظرة واحدة للصور على المعابد سنجدها دوما بجانب الفرعون الذي كان يستمد شرعيته منها، لأنها تعتبر مصدر الحياة، وكان على رأس إيزيس علامات كرسى الملك،، ومن كان يحمي الملك ثلاث إلهات وليس حراس ذكور، وبالتالي قيمة المرأة فكرة أصيلة لدينا، ولكن عملية التغريب التي مر بها مجتمعنا شوهت فكرة الحب، وصورة المرأة، وليتنا نعود لنكتشف المجتمع المصري على حقيقته. هل هناك كتاب تعد له حاليا؟ أجهز حاليا كتاب عن أشعار الحكمة فى مصر القديمة، فقد عثرت على نصوص مهمة جدا عن طريقة الحياة وتنظيم الدولة وعلاقة الناس ببعضها والصداقة والصدق، والأخلاق عبر العصور، حتى فكرة المواطنة والعدالة والكرامة الإنسانية التي نادت بها الثورة ولا نزال ننادي بها، اكتشفت أن المصريين القدماء هم أول من تحدثوا عنها، فالفرعون نفسه لم يكن يستطيع قطع رأس إنسان لأنه عبد، فالكرامة الإنسانية كانت أساس حكمه.