بمرتبات مجزية .. توفير فرص عمل في القليوبية    أحمد موسى: توريد القمح إلى وزارة التموين يوفر الدولار للبلد.. فيديو    الإسكان: إصدار 4 آلاف قرار وزاري لتخصيص قطع أراضي في المدن الجديدة    طائرات الاحتلال تقصف عدة مدن جنوبي لبنان    منافس الأهلي.. سقوط جديد للترجي قبل نهائي أفريقيا على يد الملعب التونسي (فيديو)    إصابة 10 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص على طريق شبرا بنها الحر    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    والده مات بسببها منذ 10 سنوات.. خلافات على أرض زراعية تنهي حياة شاب في المنوفية    حكم الاحتفال بشم النسيم.. أمين الفتوى: عادة شكر لله عند القدماء المصريين    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    عضو الجمعية المصرية للحساسية: يمكن تناول السمك المملح والرنجة في تلك الحالة    العالمي للسياحة: 270 مليار يورو أرباح متوقعة لإيطاليا في 2024    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    الهلال يطلب التتويج بالدوري السعودي في ملعب المملكة أرينا    سيد علي مهاجما يوسف زيدان بسبب طه حسين: "مجهول الاسم والهوية"    السلطات الإسرائيلية تداهم مقرا لقناة الجزيرة فى القدس المحتلة بعد قرار وقف عملها    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان وتلقيه العلاج في باريس    أصالة تهنئ الأقباط بعيد القيامة    الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات على موقع صوت أوروبا لبثه دعاية مؤيدة لروسيا    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    طريقة عمل الميني بيتزا في المنزل بعجينة هشة وطرية    التحية لأهالى سيناء    الخارجية الفلسطينية تطالب بتفعيل نظام الحماية الدولية للشعب الفلسطيني    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    كل سنه وانتم طيبين.. عمرو سعد يهنئ متابعيه بمناسبة شم النسيم    يوسف زيدان يرد على اتهامه بالتقليل من قيمة عميد الأدب العربي    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    "صحة المنوفية" تتابع انتظام العمل وانتشار الفرق الطبية لتأمين الكنائس    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    انتشال أشلاء شهداء من تحت أنقاض منزل دمّره الاحتلال في دير الغصون بطولكرم    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    وزارة العمل تنظم ندوة لنشر تقافة الصحة المهنية بين العاملين ب"إسكان المنيا الجديدة"    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    لتجنب التسمم.. نصائح مهمة عند تناول الرنجة والفسيخ    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    خوفا من الإغراءات الخارجية .. الأهلي يسعي لتمديد عقد مصطفى شوبير بعد نهائي دوري أبطال أفريقيا    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صافى ناز كاظم: ذبحت خروفين عندما غادرت بغداد
نشر في الأهرام العربي يوم 10 - 02 - 2015


سهير عبد الحميد
99 اسما ابتكرها حملة المباخر وزبانية السلطان للرئيس العراقى الراحل صدام، تشبها بأسماء الله الحسنى.. هكذا غابت الضمائر إلى حد الشرك وباع هؤلاء أنفسهم فى سوق نخاسة السعر الأعلى فيه لمن يجيد النفاق أكثر ولمن لديه الاستعداد للتنازل بصورة أكبر ..انضم هذا المشهد إلى مشهد اغتيال الإمام الصدر لتتخذ الكاتبة الصحفية صافى ناز كاظم قرارها بالفرار من جحيم صدام إلى نار اعتقالها من جانب المدعى الاشتراكى فى مصر .. قرار اتخذته وهى تشم رائحة الدم فى كل ركن من أركان بغداد، وعادت لتروى شهادتها عن صدام وقيامه بحرق قلوب ملايين العراقيين.
صافى ناز كاظم، امرأة تصف نفسها بأنها «على صراط الله المستقيم»، لا تعرف الخوف ولا التردد، وهى كالوتد فى إيمانها بأفكارها لا يزعزها عنها سيف المعز ولا ذهبه.. سألتها فأجابت بالشفافية ذاتها المعهودة عنها.
كيف كانت العراق قبل صدام؟
عندما وصلت بغداد فى سبتمبر 1975 لأتسلم عملى بالجامعة كانت الأمور مستقرة مقارنة بالمجازر التى عاشها العراقيون فى ظل الصراع بين الحزب الشيوعى فى ظل حكم قاسم وبين حزب البعث، وكان أحمد حسن البكر الذى حكم باسم البعث قد وعد العراقيين بالأمن والأمان إلى جانب قيادة الأمة العربية لتحرير فلسطين. كانت النفوس تضمر الضجر لكنها لم تكن تملك إلا الصمت. وكانت تصرفات النظام فى العراق آنذاك استنساخا لمثيلتها فى الحكم الناصرى باستثناء أن التمجيد فى العراق كان لحزب البعث بينما كان فى مصر لاسم عبد الناصر .
وقد ظلت الأمور هادئة حتى فوجئ الشعب العراقى بأحمد حسن البكر يعلن عن تنازله عن الحكم لنائبه صدام حسين بحجة أنه صار مريضا، لكن ما يدور فى الأروقة أن صدام وزبانيته قاموا بتهديده بعد أن اغتالوا ابنه وأصبح الرجل متيما بزيارة العتبات المقدسة .
أنت شاهد عيان على ما اقترفه صدام حسين بحق البعثيين الذين حكم باسمهم ثم انقلب عليهم؟
لم يقف صدام ضد البعثيين وحدهم بل وقف ضد الشعب العراقى بأكمله واستعان بكوادره فى حزب البعث ليتخلص من رموز التيار الإسلامى وبالذات الجعفرى "الشيعى" والبعث فى ظل حكم صدام انتهج أسلوب عبد الناصر نفسه، فلا يستطيع أحد أن يعمل أو يرتقى إلا إذا كان منضما لحزب البعث تماما كما كانت حال المصريين مع الاتحاد الاشتراكى، لذا كما ضم الاتحاد الاشتراكى القوميين والإسلاميين، انضم الجميع إلى حزب البعث من منطق الضرورة ولكن كل الأعضاء كانوا يلعبون المراقب للآخرين؛ وكان كل منهم يكتب تقريرا عن الآخر، الأب على الابن والزوجة على الزوج . وإن كان عبدالناصر كان يكتفى بسجن خصومه، فإن حزب البعث كان يتمادى فى جبروته فيقضى على خصومه بالقتل أو دس السم حتى لو كان فى القطب الشمالى لابد من تتبعه والتخلص منه تماما كما يفتش الصهاينة عن النازيين .
وخير شاهد على إجرام البعث ما حدث مع عفلق الذى كان أشبه بالأسير فى بغداد، ورفيقة المؤسس لحزب البعث، صلاح البيطار وقد التقيته فى مؤتمر ببغداد عقب زيارة السادات لإسرائيل، وكنت ضمن الجالية المصرية الموجودة وهو شخصية ظريفة ودود وعقب المؤتمر عاد إلى باريس وهى منفاه فتم قتله بالرصاص.
وماذا عن رفقاء صدام البعثيين الذين ارتكب بحقهم مجزرة لا يضاهيها سوى مذبحة المماليك التى نفذها محمد على ؟
كان معروفا قبل تولى صدام حسين رئاسة الجمهورية أن هناك أكثر من شخصية قوية ذات نفوذ فى الحزب والقصر الجمهورى منهم: غانم عبد الجليل، عدنان حسين، محجوب، محمد عايش، وبعض من هذه الأسماء كان مقرباً للبكر تنعم برضاه وتدليله، وكانت تشعر أنها مساوية فى القامة مع صدام. ولا ندرى نحن هل صدر منهم شىء أخاف صدام وألقى التوجس فى صدره منهم، أم أنه بأمر من أمريكا كان قد افترض احتمال معارضتهم له فى أمور مستقبلية نوى القيام بها، المهم أنه شرع فى تنفيذ الخطة بإلغاء القيادة الجماعية حتى ولو كان هناك احتمال بأنها ستوافقه أو تهادنه. ومع تباشير شهر أغسطس1979 ران الصمت الرهيب على الشعب العراقى وعلى قاعدة الحزب الجماهيرية وهم يستمعون إلى تفاصيل تقرأ عليهم من التليفزيون ثم تعرض عليهم سينمائيا عن خيانة مروعة تم اكتشافها فى صفوف، من كانوا يسمونهم "المتصوفة والزهاد"، من كبار قيادة الحزب القطرية والقومية والحكومة. ووقف صدام فى الفيلم السينمائى يبكى حزنا على انتهاك العذرية الحزبية، لكنه سرعان ما جفف دموعه بالمناديل الورقية وهو يجمع شتات عزيمته ليقول للشعب العراقى وللجماهير الحزبية: «الذى يخون قومه ليس له منا إلا السيف»! وفى 1979/8/8 تساقط 21 رأسا تضمنت كل الرؤوس اللامعة فى الحكم والحزب. وكان المفروض أن يكون من بين القتلى منيف الرزاز، نائب الأمين العام للقيادة القومية للحزب، وهو أردني، لولا تدخل الملك حسين فاكتفى صدام بتحديد إقامته ثم سجنه مع إعدام كل مؤلفاته البعثية وتنظيراته الحزبية، وأنزل صدام بديلا عنها، مؤلفاته الشخصية وكتيباته تمهيدا لاستئثاره بلقب مفكر الحزب وفيلسوفه ومنظره الوحيد!
واستتبت الأمور لصدام بعدها، وأصبح لا صوت يعلو على صوته داخل حزب البعث؟
لقد كانت هذه المجزرة كافية لإرهاب المنتمين للحزب كافة وإلزامهم الأدب والطاعة الكاملة للمعلم الكبير صدام حسين الذى أثبت عمليا للجميع أن قلبه أشد قسوة من الحجارة وأنه إذا كان قد هان عليه قتل أصدقائه ورفاقه المقربين فإنه بهذا يرفع شعار حكمه الجديد: «من يقف فى طريقى ليس له سوى الإبادة!» وأطبق الشعب العراقى وأفراد الحزب وجماهيره الفم، لا أحد يقول ما فى قلبه وعقله حتى ولو فى غرفة نومه همسا فى أذن زوجته.
وكيف شاهدت ما حدث من عملية فرز عنصرى للعراقيين ونفى كل من يثبت أن له أصولا إيرانية ؟
لقد تفرغ صدام بعد تخلصه من منافسيه، لإسقاط الحكومة الإسلامية فى إيران أو على الأقل حرق العتاد العسكرى الذى ورثته عن الشاه، مخافة أن يستخدم ضد إسرائيل، ووصلت المذابح ذروتها اللامعقولة فى 8 من أبريل 1980 حين تم إعدام الإمام محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى آمنة الصدر.
كنت أسمع عن الإعدامات الجماعية التى كان يساق إليها الشباب المسلم: 300، 400 شاب يوميا حتى قيل إن الحانوتى المكلف بدفن الجثث قد تذمر من كثرة العمل المطلوب منه ومن مساعديه إنجازه فى الليلة الواحدة! وكنت أسير فى بغداد أكاد أشم الدم وأحس مذاقه حقيقة فى حلقى وأنا أبلع ريقي، وعندما كلت الأجهزة المكلفة بالإعدام والدفن وجدوا طريقة أوفر لهم فى الجهد وهى دس نوع من سم الفئران فى مشروب مصنوع من اللبن الزبادى يرغم من يتم اعتقاله على شربه ثم يطلق سراحه ويعود إلى داره ليموت وتقع مسئولية دفنه على أهله. وكان الشعب العراقى يعرف أن الإعدامات الجماعية هذه صارت شيئا اعتياديا وروتينا يوميا، حتى إن الأسرة التى يتم اعتقال شاب من أبنائها تندهش لو عاد سليما لأنها تحتسبه عند الله تعالى لحظة ذهابه مع رجال الأمن. هذه الحرب الغادرة التى استحلها صدام وعبيده ضد الشعب العراقى جاءت بنتيجة عكسية لما أراد تحقيقه من خضوع كامل لطغيانه، إذ أنها، على غير ما توقع، أزكت التأجج الثورى فى صدور الشباب، وجاءته ضربة من حيث لم يتوقع عندما قامت مجموعة من الشباب البعثى من حى الثورة الفقير، والذى كان يقوم بحراسة مقر الحزب بالحي، بإعلان التمرد على صدام وقيادة مظاهرة تهتف بسقوطه وبحياة الثورة الإسلامية. وجن جنون صدام وهرعت قوات الردع فى بغداد كافة وأخمدت المظاهرة بإطلاق الرصاص على الجميع، ثم بدأت عملية صارمة فى تمشيط صفوف الحزب، وابتدأ النشاط الإعدامى يمتد من إعدام الشباب المسلم المنتمى إلى حزب الدعوة حقيقة أو اتهاما إلى الشباب البعثى الذى دخل الحزب كاتما لإسلامه مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان.وخرجت فيالق العبيد تنفذ للغازى صدام أغرب عملية تنقية عرقية، قال عنها أحدهم ساخراً: «نحن ننفض البلاد مثل الزولية!»، أى مثل السجادة، وصار على كل عراقى أن يثبت أن «الجنسية العراقية» التى لم يكن لها وجود قبل اصدار قانون الجنسية العراقى عام 1932 على ما أذكر جاءت لتحل محل ما كان يسمى «رعية عثمانية» وليس «تبعية إيرانية». أما ما هو الفرق بين الذى كان «رعية عثمانية» والذى كان «تبعية إيرانية»، فلا شيء فى حقيقته الموضوعية الخاصة بعراقية العراقي: كل ما فى الأمر أن الشعب العراقى فى غياب قانون الجنسية الخاص به أخذت غالبيته سمة «الرعية العثمانية» مندرجة تحت دولة الخلافة العثمانية، واختار البعض الاندراج تحت «التبعية الإيرانية» مع حقيقتهم العربية العراقية التامة، وكان بعضهم يجدها مهرباً من تجنيد أبنائه، إلى أن جاء قانون الجنسية العراقى فدخل تحته الجميع «الرعية» و"التبعية".وبعد أن ولد أكثر من جيل لا يحمل ولا يعرف إلا الجنسية العراقية، يجيء صدام وقد تفتق ذهنه بإعلان حرب لا هوادة فيها على الشعب العراقي، يتم بها طرد كل فرد يثبت أنه عراقى الجنسية من أصل «تبعية إيرانية»: يخرجونه من داره بالقوة بالركل والضرب والإهانة هو وعائلته من الجد حتى الحفيد، ويتم شحنهم فى سيارات مكشوفة فى ظلمة الليالى الباردة ثم يرمى بهم خارج الحدود فى العراء، الخلاء بلا غطاء أو طعام أو نقود. وتألفت دوريات فى الشوارع توقف المارة تسألهم عن هوياتهم، يعتقل من يثبت أنه من أصل «تبعية»، تمهيداً لشحنه وطرده.
وصرت لا أسمع من العراقيين سوى الهمهمات المرتبكة تتساءل فى قلق: «رعية» أنت أم «تبعية»؟
كانت الحكايات تجوب بغداد تلسع القلب:
هذا البيت أخذت منه الأم لأنه ظهر أنها عراقية من أصل تبعية إيرانية، أما أولادها فقد ظلوا مع الأب الذى ثبت أنه من أصل رعية عثمانية، ولم يشفع للأم المطرودة وليدها الذى لا يزال يرضع منها.
هذا البيت، كانوا جيرانى فى حى جميلة، به ثلاث شقيقات ليس لهن أحد، كبراهن تقارب التسعين وصغراهن تقارب الثمانين، سمعت صراخهن عندما داهمهن رجال الأمن فى جوف الليل يصرخن: «وين نروح... وين نروح» والرجال، عبيد صدام يلطمنهن: «اخرس كلاب أولاد كلاب.. جواسيس المجوس»!
وهذه الدار ثبت فيه أن الأب من أصل تبعية إيرانية فطرد هو وابنه الكبير، أما أبناؤه ما بين 18 و28 سنة فقد تم اعتقالهم بتهمة كونهم من أصل إيرانى ولم يتم طردهم لأن الذهن الصدامى المريض تفتق عن وباء إضافى وهو: عدم طرد الشباب ما بين 18 و28 سنة خشية أن يتطوعوا فى الجيش الإسلامى لمقاومته، وبناء عليه يطرد جزء من العائلة ويسجن جزء آخر يتم دس السم له أثناء الحبس وتبقى الأم وحدها بالعراق أو تترك الدار خالية تنعى من بناها تمهيداً لاحتلالها واغتصابها من قبل عبيد صدام وزمرته.
غالبية المسنين يموتون خلال الطريق إلى الحدود وعديد من النساء أجهضن من العناء والحزن.
صرخات «وين نروح.. وين نروح» تتردد على لسان الجميع، فالغالبية لا تعرف أحداً بإيران المرحلين إليها ولا تعرف حرفاً من اللغة الفارسية.
أحد الرجال من المسئولين عن عملية الطرد والترحيل تراه زوجته وهو يلطم جاره ويشده للترحيل فتصرخ به أمام الجميع: «الله يشل يدك»! وتنفجر مع الباكين واللاطمين!
بعض المسئولين عن عملية الطرد والترحيل يعللون استعمالهم العنف والقسوة لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك سوف يتهمون بالتواطؤ! (بالتواطؤ مع الإنسانية، ومع الشعب العراقي)!
واحد من حواة الكلام والرطانة الحزبية ينفى القول بأن الطرد والترحيل يشملان جميع «التبعية الإيرانية» ويقول: هذا غير صحيح، لقد تم استثناء المسيحى الذى من أصل تبعية إيرانية. وتسأله: ولماذا انصب الإجراء على المسلمين فقط؟ فيقول: بالطبع لأن المسيحى مضمون عدم تأييده للثورة الإسلامية، ولأنه لا يمكن أن يكون مشاركاً فى حزب الدعوة الإسلامى أو أى نشاط إسلامى آخر (هذا الكلام ليس خرافة، لقد سمعته بلحم أذني، وقائله كان يحضر للماجستير فى القومية العربية!) وهذا يعنى أن كل تلك العقوبات، من إعدام وسجن وطرد وتشريد، لم تكن توقع على أناس ارتكبوا أفعالاً تستحق العقوبة، ولكنها توقع على مئات الآلاف من الشعب العراقى المسلم بالذات لأن هناك احتمالاً بأن «بعضهم» قد يرتكب فى المستقبل هذه الأفعال التى تستحق العقوبة!
لم يتساءل أحد كيف يطرد المسلمون هكذا من ديارهم والدعوة كانت لاتزال مفتوحة ومعلنة فى الجرائد لعودة يهود العراق الذين هربوا بإرادتهم إلى الكيان الصهيونى ليشاركوا فى ذبح العرب!
فيعلن صدام أمام الملأ العالمى فى 28 سبتمبر 1980 عن «قادسيته» الآثمة لينقض على إيران بحجة تحرير الأرض العربية والدفاع عن عرب إقليم «عربستان» الذين ذبح وطرد وشرد بقية عائلاتهم المقيمة بالعراق بدعوى أنهم من أصل إيراني. ويستمر فى تنفيذ الخطوة السادسة التى أرادتها أمريكا واسرائيل لسحب العتاد العسكرى من إيران الذى كان قد تم تجهيز الحكم الشاهنشاهى به لضرب العرب وتمكين الكيان الصهيونى فوق رقابهم. ويتحول، بعد أن أنهك الشعب العراقي، إلى بقية العرب المقيمين بالعراق قابلين ضيافته رغم كل شيء، ويطالبهم بثمن استضافته لهم وحمايتهم من بغض الشعب العراقى فيجبرهم على الاشتراك فى الحرب وإعلان تأييدهم لقادسيته، وإلا فلهم الطرد بعد التعذيب والإذلال، وتأتيني، بعد وصولى للقاهرة، رسالة من طالب مصرى استطاع النجاة والرحيل إلى أوروبا يقول: «.... أخباري: حاولوا جرّى مع معظم أو كل الطلبة العرب إلى الاشتراك فى الحرب ولكنى رفضت ومعى طالب واحد أن نشترك، فأخذونا يوم أول يناير ويوم 3 يناير 1981، واستمرينا عندهم حتى يوم 25 يناير وخلال تلك الفترة: نأكل ضربا ونشرب ضربا ونتعلم أن هتلر ما كانش الأستاذ.. لأ.. كان التلميذ لسابق عصره وأوانه قراقوش العراقي. واستمروا فى كينا وتعذيبنا ثم رمونا رمية الكلاب على الحدود الأردنية، فوقعنا مرة أخرى فى أيدى المخابرات الأردنية، وأيضاً قامت بالواجب إلى أن رمتنا خارج حدودها من حيث أكتب لك الآن. لقد رفضت المشاركة فى الحرب لأننى أعرف أنها حرب لذبح المسلمين فى إيران.. وقراقوش العراقى لا يقبل سوى من يلعب معه فى الماتش ضد إيران وإذا رفضت تحدث الطامة الكبرى وتجد نفسك فى أقبية ومخابئ نسمع عنها فى قصص العفاريت".
أعلم أنك التقيت ميشيل عفلق فى بغداد ..فكيف كانت كواليس اللقاء؟
تعرفت إلى ميشيل عفلق من خلال صديقتى إحسان الدروبى، وهى سورية جاءت إلى بغداد لطباعة ترجمات زوجها الدكتور سامى الدروبى، فلما علمت أنها ذاهبة للقاء ميشيل عفلق طلبت الذهاب معها، وجدته إنسانا راقيا ودمث الخلق وابن نكتة وعندما أردت أن أمتدحه مداعبة فقلت له " لأن منهم قسيسين ورهبانا وميشيل عفلق " فابتسم وقال: "لالالا مافيش حد مسيحى فى البيت عندى إلا الكبيبة وزوجتى"! كان عفلق متفلسفا ولذا كان الحوار بينه وبين عبد الناصر يخلو من اللغة المشتركة، فعفلق يتحدث بالحس الفكرى الثقافى وناصر بالحس العسكرى .
هل مات عفلق أم قتلوه ؟
الله أعلم!
علاقة صدام بالمثقفين المصريين .. مسألة يشوبها الجدل، فكيف تنظرين إليها ؟
هناك الكثيرون ممن انتفعوا منه فقد كان صدام ينتهج سياسة الشراء بالمال ليجد من يدافع عنه على منابر الإعلام وكان من الطبيعى أن يحاول جذب بعضهم ليكونوا خير مدافع عنه. وكان صدام يعزف على نغمة حبه للمصريين وأحمد الله أننى عندما ذهبت للعراق ذهبت كأستاذة جامعية وليس كصحفية.
هل تعرضت لأى ضغوط من أى نوع للانضمام لحزب البعث؟
على الإطلاق.. لكن كانت اللعبة تبدأ بسؤال "ليش ما تصيرى عراقية"؟ وكنت أندهش من السؤال؛ كيف لمصرية أن تتنازل عن مصريتها لتكون أى شىء آخر. كان العراقيون يقولون إن صدام يجلب المصريين للعراق ليزيد من أعداد السنة على حساب الشيعة. ولم أسلم بالطبع من الشائعات أننى شيوعية ومرة أننى أعمل لحساب إيران وذات مرة على مقهى الجامعة سألنى أحمد عباس صالح "يا صافى ناز إنت إيرانية من الأب ولا الأم" فقلت له: بطل هذا الابتزاز الذى تعلمته من عبد الناصر! حتى أخبرتنى إحدى الصديقات بأن هناك مؤامرة لقتلى، فقررت العودة لمصر على الفور؛ "من شاف الموت يفرح بالسخونة"! وشعرت بالحنين لحدائق سجن القناطر للنساء، فعندما كنت هناك كنت أشعر أن كل لقمة متغمسة بدم الناس، ونذرت أن أذبح خروفا إذا خرجت سالمة وخروفا آخر إذا عدت إلى مصر سالمة وقد حدث وقمت بذبح الخروفين!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.