رشا عامر لم يكن لمهاجمى مجلة شارلى إبدو أية علاقة بالله الذى صرخوا باسمه وهم يقتلون. فجريمة القتل التى ارتكبت باسمه ودفاعا عنه وعن النبى محمد صلى الله عليه وسلم، لم تكن سوى مدعاة للهجوم على المسلمين ومساجدهم فى فرنسا. ليدفع هؤلاء الأبرياء ثمن جهل القتلة الذين هم بعيدون كل البعد عن الله وأخلاقيات الإسلام. بهذه الكلمات بدأ الصحفى الفرنسى "هنرى تنك" مقاله فى مجلة سلات الفرنسية، مؤكدا أن ما فعله قتلة رسامى شارلى إبدو لم يفعل شيئا سوى تشويه وانتهاك وسحق صورة هذا الدين الحنيف بدلا من الانتقام له كما زعموا. فالمساجد الفرنسية اليوم أصبحت فى مرمى النيران بعد تعاظم ظاهرة الإسلاموفوبيا. وتساءل الكاتب عن أى إسلام تكلم هؤلاء القتلة؟ وباسم أى قرآن أعطوا لأنفسهم الحق فى القتل؟ وأى إسلام هذا الذى ورثوا عنه كل ذلك؟ هنرى تنك هو صحفى فرنسى وأحد أعضاء الفاتيكان الفرنسيين، وهو متخصص فى الشئون الدينية، وهو الذى وضع موسوعة لاروس فى الأديان، وصف الرسوم المسيئة للرسول بأنها تنم عن الجهل. له العديد من المؤلفات منها يحيا الإسلام، والنجمة والصليب الكاثوليكية وعودة التعصب، وعباقرة المسيحية. يقول تنك أن قتلة شارلى إبدو لا ينتمون قطعاً إلى الإسلام المستنير الذى أضاء العصور الوسطى والذى شكل الحضارات وصنع التاريخ على مدار أربعة عشر قرنا من الزمان. بالتأكيد لا يقصدون هذا الإسلام الذى اعتبر بمثابة العصر الذهبى للإمبراطورية العباسية حينما وصلت الحياة الفكرية والفنية إلى ذروة مجدها. عندما ازدهرت الأكاديميات والمكتبات والجامعات. عندما تمت ترجمة المخطوطات اليونانية والفارسية. عندما احتك علماء المسلمين بالكتابات اليونانية الكلاسيكية وملوك بلاد فارس والرهبان المسيحيين والحاخامات اليهود. ويستطرد الكاتب قائلا: إن هؤلاء الجهلاء الذين تصوروا أنهم يدافعون عن الإسلام من خلال سفك الدماء لا يفقهون شيئا عن هذه النزعة الإسلامية الإنسانية. فلقد أعطى الإسلام مئات الشعراء والعلماء الذين ملأوا العالم، بالإضافة إلى النساء اللاتى كن يدرن الصالونات الأدبية، فضلا عن أعظم الأطباء الذين جاءوا من بغداد لتعليم الغرب بعدما أصبحوا قدوة له كانوا مسلمين. وهل يمكن لأحد أن ينسى أن كبار علماء الفلك والفيزياء والرياضيات والذين تم الاعتراف بهم قبل العالم أجمع هم من المسلمين، بل إنهم هم الذين اكتشفوا الرقم "صفر". وعليه فإن هذه البربرية الحديثة لا علاقة لها من قريب او من بعيد بهذا الإسلام الذى يرادف معنى الذكاء والثقافة والفلسفة والفن. فهذا الإسلام هو الذى أضاء مدينة القاهرة الفاطمية بجامعتها الأزهرية. الأزهر الذى يعد منارة الإسلام السنى. هذا الإسلام الذى أضاء هيبة الخلفاء الأمويين فى قرطبة التى سميت ب"جوهرة العالم" والذى جاء منه الفيلسوف العظيم ابن رشد فى القرن الثانى عشر، والذى ترجم أرسطو وتأثر بالأفكار المسيحية واليهودية. وكذلك العلامة ابن سينا فى القرن الذى قبله والذى أحدث ثورة فى عالم الطب ونشر له قانون باسمه. ويؤكد الكاتب الفرنسى مقولة «لا إكراه فى الدين»، مشيرا إلى أن هؤلاء القتلة رسموا صورة خاصة بهم لله سبحانه وتعالى واستخدموها كذريعة لتبرير العنف والهمجية والتعصب، والدليل على ذلك هو صرختهم لحظة القتل "الله أكبر". إنها الصرخة التى يطلقها الإرهابيون لحظة قتلهم لأحد، ولكنها فى الأساس نداء الصلاة الذى يقال بورع شديد يوميا للمسلمين الأتقياء. إنها الكلمة التى تقال فى معظم المناسبات وأهمها للتعبير عن عظمة الخالق. هذا الخالق هو الله الذى يردد المسلمون اسمه وأسماءه ال 99 يوميا أكثر من مرة. فهو بسم الله الرحمن الرحيم الذى يغفر جميع الذنوب. ويقول الكاتب إن الطريف فى المسألة إنه لدى مهاجمتهم لجريدة شارلى إبدو التقوا ب "سيجولين فيزون" وهى امرأة فإذا بهم يقولون لها "لن نقتلك لأننا لا نقتل النساء - برغم أن إحدى الضحايا ال12 كانت امرأة- ولكن هل ستقرئين القرآن". فأى قرآن هذا الذى يقرأونه؟ وإلى أى قرآن يطلبون الرجوع إليه؟ هل يتكلمون عن القرآن الذى يقول بكل وضوح فى سورة البقرة آية 256 «لا إكراه فى الدين» أم الذى يقول فى سورة الأنعام الآية 151: «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. َلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ. نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ . وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون». أم الذى يدين قتل قابيل لأخيه هابيل فى الآية ال30 من سورة المائدة «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ». أم الذى يقول: «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا». صحيح أن القرآن يدعو لقتال المشركين حتى لو كانوا من اليهود أو المسيحيين مثلما جاء فى الآية 29 من سورة التوبة: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ."لكن كل المسلمين يعرفون جيدا الظروف والملابسات التى أحاطت بهذه الآية، وكيف أنها نزلت إبان غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنها كانت موجهة له فقط وقت الصراع الذى ساد بينه هو وصحابته وبين أهل مكة . ويقول "تنك" إن هناك قراءتين لفهم القرآن والسنة .. القراءة الأولى تدعو إلى التسامح وتستعين بالآيات التى تدعو لذلك، وقراءة أخرى تدعو إلى الصراع . وهاتان القراءتان سواء المتسامحة أم العنيفة مقبولتان فى الإسلام، ولعل هذا ما يفسره الكاتب عبدالوهاب المؤدب، الذى توفى فى باريس منذ شهرين عندما قال إن التفسير العنيف للآيات والأحاديث هو الذى يؤدى إلى أسوأ التجاوزات والكوارث. وربما يدعونا ذلك إلى إلقاء اللوم على عدم قدرة المجتمعات المسلمة فى فرنسا أو غيرها على الرد بصوت قوى وفريد وواضح لإقامة نخبة جدية ولظهور جيل من المثقفين قادر على تصحيح مثل هذه الانتهاكات، وللظهور بشكل أقوى من هؤلاء الذين يرتكبون الجرائم باسم الدين، مما يؤدى إلى تشويهه على يد هؤلاء الهمج الذين لم يهدفوا بلا شك سوى لعزل مسلمى فرنسا عن المجتمع الوطنى هناك. ويتساءل "تنك": هل يعنى ذلك مهاجمة المساجد؟ كيف التعامل إذن مع واقعة قتل تجرأ فاعلوها على ذكر اسم الله، وكأنما جاء القتل باسمه فى حين أنهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الحقيقى ؟ الحل الوحيد هو رفع هذا الالتباس بين الجهاد والقتل. بين الإسلام والإسلاموية الإرهابية . ويجب الانتهاء إلى أنه يجب على مسلمى فرنسا التعبير عن أنفسهم وإدانة كل هذه الأفعال الإرهابية التى من شأنها أن تقض مضاجعهم. فأغلب هؤلاء المسلمين الموجودين فى فرنسا هم فى غاية التواضع والاحترام والاحتشام برغم أنهم يطبقون قيم الجمهورية وقواعد العلمانية التى لم يعرفوها قبل وصولهم. ففى عام 1905 اقتتل الكاثوليك هم أيضا قبل أن يهنأوا اليوم بحرية التعبير والحركة. وفى النهاية فإن " تنك" يختتم مقاله بأن قتلة شارلى إبدو هم على الأرجح مشروع لعزل مسلمى فرنسا عن المجتمع الوطنى وتقسيمهم ومنعهم من العيش فى دولة علمانية فى إطار جمهورى. والمشكلة أن صوت مسلمى فرنسا سيقف عاجزا أمام هذا الصراخ الإجرامى المجنون. لكن مع كل مبادرة جديدة تقدم لإطلاق بديل متسامح وسلمى لتوضيح صورة الإسلام التى شوهها هؤلاء القتلة، فإنها تعد خطوة إلى الأمام على المسار المطلوب من النضج والمصداقية وإعادة الاعتبار لهذا الدين.