ماهر زهدي لم يكن اسم «فاتن» منتشرا فى تلك الفترة من مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، لكنه كان موجودا فى بيت أحمد أفندى حمامة، موجه اللغة العربية بوزارة المعارف، غير أنه لم يكن يطلق على ابنة له، فلم يكن لديه سوى ولد وحيد يدعى «منير»، الذى احتفظ بدمية أهداها له والده، وأطلق عليها اسم «فاتن» فاتخذ منها شريكة له تؤنس وحدته، يتحدث إليها ويلعب معها، حتى جاء اليوم الذى انتظره تسعة أشهر، منذ أن زف إليه والداه أنه سيكون له قريبا شريك فى البيت. وفى الليلة السابعة والعشرين من مايو 1931، وقف منير إلى جوار والده أمام باب حجرة والدته، فى انتظار قدوم الضيف الجديد، وما إن سمع صوت بكائه حتى هرع إليه، ليجدها أنثى، فاقترب منها ليقبلها، وسط فرحة الوالدين، ثم أسرع إلى غرفته وأحضر دميته ليضعها بين أحضان الضيفة الجديدة، ونظر الوالدان إليه بدهشة، وبادرته والدته: فرحان يا منير علشان جاتلك أخت. آه.. فرحان لدرجة إنك تديها عروستك. أنا مش عايز العروسة دى تاني.. أوام كدا استغنيت عن "فاتن" . - علشان مش بتتكلم.. لكن أختى بتتكلم. بتتكلم كدا مرة واحدة.. دى يادوب تقدر تعيط بالعافية. أنا عايز أبوسها. بوسها بس بشويش.. دى ما تستحملش مش زى "فاتن" بتاعتك. لا.. هى دى "فاتن" بتاعتى. بتاعتك لوحدك.. دى بتاعتنا كلنا.. على رأى المثل: خدوا بفالكم من عيالكم.. طب إيه رأيك ياسى منير هانسميها "فاتن" علشان خاطرك. خلاص.. خدى إنت فاتن دي.. وآخد أنا فاتن أختى. كانت الأم زينب هانم توفيق، والأب أحمد أفندى حمامة، المدرسة الأولى التى تلقت فيها الطفلة "فاتن" دروسها الأولى، فما إن خطت خطواتها الأولى، حتى حرصت زينب هانم أن تغرس بداخلها حب كل شيء جميل، وتعلمها فن الحياة فى البيوتات العريقة، كيف تجلس؟ كيف تأكل؟ كيف ترحب بالضيوف؟ ما جعلها تصبح موضع إعجاب الأب الذى رأى فيها ابنة مختلفة، وربما ينتظرها مستقبل مختلف، ولم يكن يخفى هذا الإحساس عن كل من حوله، وسط دهشة الجميع من إحساسه هذا، بمن فيهم زينب هانم نفسها. حرص الأب على أن يتعامل مع طفلته التى لم تتجاوز عامها الرابع، كأنها شابة يافعة، يتحدث إليها، يطلعها على الجديد فى الحياة، يشرح لها كل ما يقع عليه بصرها، حرص على أن يعلمها كيف تتعامل مع الآخرين؟ كيف تلتزم وتصدق؟ كيف تعتد برأيها إذا ما كان صوابا؟ كيف تتمسك بالقيم والأصول والعادات والتقاليد؟ كيف تحترم الآخرين، ليبادلوها الاحترام؟ كيف تفى بالعهد؟ حفر وصاياه بداخلها. لم يكتف الأب بأن يلقنها الدروس الأولى فى التعليم، قبل أن تلتحق بمرحلة التعليم الإلزامي، بل حرص على أن يخصص لها وقتا يوميا ليسمعها آيات من الذكر الحكيم بصوت "الشيخ محمد رفعت"، مرورا بتلقيها فنون الثقافات الرفيعة، وتحفيظها بعض أبيات من الشعر، وتدريبها على فن إلقاء الأناشيد، وليس انتهاء باصطحابها إلى السينما، كلما زار المنصورة. كان الفيلم هذه المرة لرائدة من رائدات السينما المصرية، الفنانة آسيا، التى حرصت على أن تتواجد فى سينما "عدن" بالمنصورة فى ليلة افتتاح فيلمها الجديد "البنكنوت" بطولة وتأليف وإخراج أحمد جلال، ومعهما مارى كوين وفؤاد الرشيدي، فاصطحب أحمد حمامة الابنة فاتن إلى السينما، حيث جلست تتابع الفيلم باهتمام شديد، وما إن انتهى العرض وأضيئت الأنوار، حتى أطلت النجمة آسيا على جمهورها من "بنوار" جانبي، تصادف أن وقف أحمد حمامة أسفله، وقد حمل فاتن بين يديه، فيما تحولت أنظار كل الحضور تجاه البنوار الذى تقف فيه آسيا، وراحوا يصفقون تصفيقا حاداً لها، فنظرت فاتن إلى والدها: الناس بتصفق لى أنا.. شايف يا بابا كلهم بيبصوا عليّ ويصقفولى. طبعا يا حبيبتى بيصقفولك.. أمال ما هم أكيد عرفوا إنك شاطرة وبتحفظى قرآن وأناشيد. وكمان أعرف أعمل زى الست آسيا فى الفيلم.. اللى واقفة فوق دي منذ ذلك اليوم بدأ ولعها بهذا العالم الساحر، الذى يختبئ كل أبطاله داخل تلك المساحة البيضاء المسماة "شاشة"، تقف أمام المرآة تقلد من شاهدتهم يتحركون بداخلها، تقف فوق "ترابيزة" الطعام لترتفع قامتها وتلقى على ضيوف أسرتها بعضا مما تحفظ من أناشيد، فتلقى التصفيق ونظرات الإعجاب وكلمات الإطراء، يشجعها والداها لإحساسهما بأن لديها شيئا مختلفا. كانت فاتن فى بداية عهدها بالتعليم، فى "مدرسة المنصورة الابتدائية للبنات"، عندما نظمت مجلة "المصور"، مسابقة لاختيار ملكة جمال الأطفال، وما إن علم الأب بأمر المسابقة حتى سارعت زينب هانم بإعداد "فاتن" للمشاركة فى هذه المسابقة، وتم تصويرها وإرسال الصورة إلى المجلة، غير أن ترتيبها جاء الوصيفة الثانية، فغضبت الأم بشدة، وشعرت بأن هناك معايير أخرى تحكمت فى المسابقة، غير أن ذلك لم يحبطها، فلم تمر ستة أشهر بعدها، حتى أعلنت مجلة "الاثنين" عن مسابقة أخرى "للزي" ورصدت للفائزين والفائزات بعض الجوائز المالية والهدايا، فسارعت الأم بمشاركة فاتن فيها، وبعد تفكير ومشاورات، أحضرت لها ملابس "ممرضة" لالتقاط صورة لها بها، وقبل أن يضغط المصور على "زر" الكاميرا، اقتربت الأم منها وهمست: إنت عارفه اللبس دا مين اللى بيلبسه؟ أيوا طبعا فاهمه.. الممرضات اللى بيعالجوا العيانين. برافوا عليك.. حيث كدا بقى عايزاك تتخيلى إنك ممرضة.. وفيه عيان قدامك هاتعالجيه. ما إن سمعت فاتن أن هناك مريضا أمامها وستعمل على علاجه، حتى لمعت "دمعة" فى عينيها، وهنا كانت براعة المصور، الذى التقط لها هذه اللحظة النادرة المفعمة بهذا الإحساس الطفولي، وما إن وصلت الصورة إلى إدارة المجلة حتى لاقت إعجاب اللجنة المشرفة على المسابقة، واستقر الرأى على أن تنشر الصورة على غلاف المجلة، ليكون هذا التمييز اعترافاً مسبقا بأنها الفائزة الأولى.