ماهر زهدى فى واحدة من المرات التى احتفلت فيها الصحافة بيوم مولدها، وفى ظل منحها المزيد من الألقاب وكلمات الإطراء والتمجيد، علقت قائلة: «ما فائدة اللقب إذا كان العمل الذى قدمته رديئا أو دون المستوى، الألقاب لا تبقى فى الذاكرة، لكن الأعمال هى التى تخلد اسم الفنان وتحفظه». هى فاتن حمامة.. التى عندما فكرت فى الكتابة عنها، رحت أولا أبحث عن لقب جديد يمكن أن أطلقه عليها، خصوصاً أن لقب «سيدة الشاشة العربية» لم يعد كافيا لها بعد كل هذه الرحلة، حيث ظل ملازما لها ما يزيد على 60 عاما، منذ أن نالته عام 1953، مع فيلم "موعد مع الحياة" الذى لاقى نجاحا جماهيريا كبيرا، كتب وقتها الصحفى "فوميل لبيب" مقالا أشاد فيه بالفيلم بوجه عام، وبأداء فاتن حمامة على وجه الخصوص، واصفاً إياها بأنها "سيدة الشاشة العربية" على الرغم من أنها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها آنذاك، فإن إعجاب الجماهير والنقاد بها كنموذج اقترب كثيرا من قلوبهم، وجعلهم يتمسكون باللقب الذى رأوه مناسباً لها وتستحقه. هى معادلة نجاح مركبة وغير مفهومة.. فنانة قادرة على الدخول إلى كل القلوب، كما استطاعت أن تدخل إلى كل أدوارها ببراعة، طفلة أو فتاة أو سيدة، ثرية أو فقيرة، باكية كثيرا، ضاحكة أحيانا، راضية مستكينة بعض الوقت، ثائرة متمردة أغلب الوقت، لديها قدرة على العطاء لا مثيل لها، فما قدمته للفن لم يقدمه أحد مثلها. لذا كان السؤال الأهم الذى ألح على رأسى كثيرا، وأنا أعيد مشاهدة بعض أعمالها، استعدادا للكتابة عنها، هو: كيف تسنى لهذه الفنانة أن تحيا إلى الآن فى أذهان الجماهير بنفس التوقد الذى كانت عليه فى بدايتها، التى مر عليها ما يقرب من 70 عاما؟ الإجابة أتت على لسان فاتن نفسها، عندما قالت فى إحدى المرات: "هناك كابوس يراودنى كلما اقترب عرض فيلم جديد لي، حيث أرى نفسى وقد دخلت إلى السينما فوجدتها خالية تماماً من الجمهور، لهذا لم أكن أطمئن حتى أشاهد ردود أفعال الجمهور فى قاعة العرض". هذه التركيبة كان خوفها من الفشل، يدفعها دائما إلى التجويد، والتفكير فى الجديد الذى ستقدمه إلى جمهورها دائما، ما جعلها تجيد فن الإجادة نفسه. شخصية ثرية، رقيقة المشاعر، شديدة الحساسية، تحب الكلمة الناعمة، وتعشق الأصول التى تربت عليها، تجيد فنى "الإتيكيت والبروتوكول"، لكن على الرغم من ذلك كله، فإنها فى لحظة يمكن أن تتحول إلى الحاكمة بأمرها فى البلاتوه، بالحق، دون أن تجور على حقوق الآخرين أو تجرح مشاعرهم، لكنها لا تسمح بالتهاون أو الاستسهال، مثلما فعلت عندما كانت تصور فيلم "حبيبتي" عام 1974، مع المخرج هنرى بركات، وكان يشاركها البطولة الفنان محمود ياسين، ومعهما مجموعة من الفنانين العرب، لينا باتع، آمال عفيش، هانى الروماني، سمير أبو سعيد، ولم يعجبها أداء بعض من كانوا أمامها فى المشهد، فاستأذنت بأدب شديد، من المخرج بركات وزملائها فى المشهد، أن تستريح قليلا لأنها مجهدة، وظن الجميع أنها مجهدة بالفعل، فانزوت خلف الكاميرا فى أحد أركان البلاتوه، وهى تهدف ألا تستنفد إحساسها وطاقتها فى التكرار، فيما راح المخرج بركات يواصل تكرار أداء المشهد مع الفنانين الذين يؤدونه لمدة ساعتين متواصلتين، دون كلل أو ملل من الانتظار، وعندما رضيت تماما عن الأداء طلبت من المخرج العودة لتصوير المشهد. إذا كانت فاتن حمامة قد نالت لقب "سيدة الشاشة العربية" ولم تكن قدمت بعد ربع أعمالها للسينما المصرية، إذن ما اللقب الذى يستحق أن يلازمها بعد كل هذا التاريخ وهذا العطاء؟! سؤال طرحته على عدد من الصحفيين والنقاد والفنانين والمهتمين بالسينما، فانهالت اقتراحات بألقاب وكلمات مديح، لكنى وجدتها جميعا يمكن أن تطلق على الغالبية العظمى من الفنانين الذين عاصروها، بل اكتشفت أن هناك من فنانى الجيل التالى لها، واللاحق عليهم، قد "منحوا أنفسهم" العديد من الألقاب وكلمات التفخيم والتضخيم، التى يصعب معها أن تضع فاتن حمامة فى نفس "الكفة" لتتساوى الرءوس. والألقاب. لذا لم نجد هناك أفضل من أن يكون اسمها هو لقب التكريم الذى تستحق أن يطلق عليها، وذكره مجردا يكفى أن يتساوى مع أهم الألقاب فى تاريخ السينما العالمية، وأرفع الأوسمة الفنية.. "فاتن حمامة".. وجه القمر. ملكة جمال الأطفال.. والداها أطلقا عليها اسم «فاتن» بسبب «دمية» شقيقها منير لم يكن اسم «فاتن» منتشرا فى تلك الفترة من مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، لكنه كان موجودا فى بيت أحمد أفندى حمامة، موجه اللغة العربية بوزارة المعارف، غير أنه لم يكن يطلق على ابنة له، فلم يكن لديه سوى ولد وحيد يدعى «منير»، الذى احتفظ بدمية أهداها له والده، وأطلق عليها اسم «فاتن» فاتخذ منها شريكة له تؤنس وحدته، يتحدث إليها ويلعب معها، حتى جاء اليوم الذى انتظره تسعة أشهر، منذ أن زف إليه والداه أنه سيكون له قريبا شريك فى البيت. وفى الليلة السابعة والعشرين من مايو 1931، وقف منير إلى جوار والده أمام باب حجرة والدته، فى انتظار قدوم الضيف الجديد، وما إن سمع صوت بكائه حتى هرع إليه، ليجدها أنثى، فاقترب منها ليقبلها، وسط فرحة الوالدين، ثم أسرع إلى غرفته وأحضر دميته ليضعها بين أحضان الضيفة الجديدة، ونظر الوالدان إليه بدهشة، وبادرته والدته: فرحان يا منير علشان جاتلك أخت. آه.. فرحان لدرجة إنك تديها عروستك. أنا مش عايز العروسة دى تاني.. أوام كدا استغنيت عن "فاتن" . علشان مش بتتكلم.. لكن أختى بتتكلم. بتتكلم كدا مرة واحدة.. دى يادوب تقدر تعيط بالعافية. أنا عايز أبوسها. بوسها بس بشويش.. دى ما تستحملش مش زى "فاتن" بتاعتك. لا.. هى دى "فاتن" بتاعتى. بتاعتك لوحدك.. دى بتاعتنا كلنا.. على رأى المثل: خدوا بفالكم من عيالكم.. طب إيه رأيك ياسى منير هانسميها "فاتن" علشان خاطرك. خلاص.. خدى إنت فاتن دي.. وآخد أنا فاتن أختى. كانت الأم زينب هانم توفيق، والأب أحمد أفندى حمامة، المدرسة الأولى التى تلقت فيها الطفلة "فاتن" دروسها الأولى، فما إن خطت خطواتها الأولى، حتى حرصت زينب هانم أن تغرس بداخلها حب كل شيء جميل، وتعلمها فن الحياة فى البيوتات العريقة، كيف تجلس؟ كيف تأكل؟ كيف ترحب بالضيوف؟ ما جعلها تصبح موضع إعجاب الأب الذى رأى فيها ابنة مختلفة، وربما ينتظرها مستقبل مختلف، ولم يكن يخفى هذا الإحساس عن كل من حوله، وسط دهشة الجميع من إحساسه هذا، بمن فيهم زينب هانم نفسها. حرص الأب على أن يتعامل مع طفلته التى لم تتجاوز عامها الرابع، كأنها شابة يافعة، يتحدث إليها، يطلعها على الجديد فى الحياة، يشرح لها كل ما يقع عليه بصرها، حرص على أن يعلمها كيف تتعامل مع الآخرين؟ كيف تلتزم وتصدق؟ كيف تعتد برأيها إذا ما كان صوابا؟ كيف تتمسك بالقيم والأصول والعادات والتقاليد؟ كيف تحترم الآخرين، ليبادلوها الاحترام؟ كيف تفى بالعهد؟ حفر وصاياه بداخلها. لم يكتف الأب بأن يلقنها الدروس الأولى فى التعليم، قبل أن تلتحق بمرحلة التعليم الإلزامي، بل حرص على أن يخصص لها وقتا يوميا ليسمعها آيات من الذكر الحكيم بصوت "الشيخ محمد رفعت"، مرورا بتلقيها فنون الثقافات الرفيعة، وتحفيظها بعض أبيات من الشعر، وتدريبها على فن إلقاء الأناشيد، وليس انتهاء باصطحابها إلى السينما، كلما زار المنصورة. كان الفيلم هذه المرة لرائدة من رائدات السينما المصرية، الفنانة آسيا، التى حرصت على أن تتواجد فى سينما "عدن" بالمنصورة فى ليلة افتتاح فيلمها الجديد "البنكنوت" بطولة وتأليف وإخراج أحمد جلال، ومعهما مارى كوين وفؤاد الرشيدي، فاصطحب أحمد حمامة الابنة فاتن إلى السينما، حيث جلست تتابع الفيلم باهتمام شديد، وما إن انتهى العرض وأضيئت الأنوار، حتى أطلت النجمة آسيا على جمهورها من "بنوار" جانبي، تصادف أن وقف أحمد حمامة أسفله، وقد حمل فاتن بين يديه، فيما تحولت أنظار كل الحضور تجاه البنوار الذى تقف فيه آسيا، وراحوا يصفقون تصفيقا حاداً لها، فنظرت فاتن إلى والدها: الناس بتصفق لى أنا.. شايف يا بابا كلهم بيبصوا عليّ ويصقفولى. طبعا يا حبيبتى بيصقفولك.. أمال ما هم أكيد عرفوا إنك شاطرة وبتحفظى قرآن وأناشيد. وكمان أعرف أعمل زى الست آسيا فى الفيلم.. اللى واقفة فوق دي منذ ذلك اليوم بدأ ولعها بهذا العالم الساحر، الذى يختبئ كل أبطاله داخل تلك المساحة البيضاء المسماة "شاشة"، تقف أمام المرآة تقلد من شاهدتهم يتحركون بداخلها، تقف فوق "ترابيزة" الطعام لترتفع قامتها وتلقى على ضيوف أسرتها بعضا مما تحفظ من أناشيد، فتلقى التصفيق ونظرات الإعجاب وكلمات الإطراء، يشجعها والداها لإحساسهما بأن لديها شيئا مختلفا. كانت فاتن فى بداية عهدها بالتعليم، فى "مدرسة المنصورة الابتدائية للبنات"، عندما نظمت مجلة "المصور"، مسابقة لاختيار ملكة جمال الأطفال، وما إن علم الأب بأمر المسابقة حتى سارعت زينب هانم بإعداد "فاتن" للمشاركة فى هذه المسابقة، وتم تصويرها وإرسال الصورة إلى المجلة، غير أن ترتيبها جاء الوصيفة الثانية، فغضبت الأم بشدة، وشعرت بأن هناك معايير أخرى تحكمت فى المسابقة، غير أن ذلك لم يحبطها، فلم تمر ستة أشهر بعدها، حتى أعلنت مجلة "الاثنين" عن مسابقة أخرى "للزي" ورصدت للفائزين والفائزات بعض الجوائز المالية والهدايا، فسارعت الأم بمشاركة فاتن فيها، وبعد تفكير ومشاورات، أحضرت لها ملابس "ممرضة" لالتقاط صورة لها بها، وقبل أن يضغط المصور على "زر" الكاميرا، اقتربت الأم منها وهمست: إنت عارفه اللبس دا مين اللى بيلبسه؟ أيوا طبعا فاهمه.. الممرضات اللى بيعالجوا العيانين. برافوا عليك.. حيث كدا بقى عايزاك تتخيلى إنك ممرضة.. وفيه عيان قدامك هاتعالجيه. ما إن سمعت فاتن أن هناك مريضا أمامها وستعمل على علاجه، حتى لمعت "دمعة" فى عينيها، وهنا كانت براعة المصور، الذى التقط لها هذه اللحظة النادرة المفعمة بهذا الإحساس الطفولي، وما إن وصلت الصورة إلى إدارة المجلة حتى لاقت إعجاب اللجنة المشرفة على المسابقة، واستقر الرأى على أن تنشر الصورة على غلاف المجلة، ليكون هذا التمييز اعترافاً مسبقا بأنها الفائزة الأولى. المراهقة الصغيرة.. رفضت أول حب فى حياتها.. حفاظا على التقاليد لم تكن فاتن حمامة لترضى أن تظل الطفلة، حتى لو كانت معجزة، ولم تكن لتظهر على شاشة السينما، دون أن يلاحظ ذلك «صانع النجوم» المخرج والفنان يوسف وهبي، الذى شاهدها فى فيلم «رصاصة فى القلب»، فطلبها على الفور للعمل معه فى فيلم «ملاك الرحمة» من تأليفه وإخراجه، والذى شاركته بطولته راقية إبراهيم أيضا، ومعهم نجمة إبراهيم، بشارة واكيم، زوزو شكيب، سراج منير، وفريد شوقي، لتقوم فيه بدور ابنة يوسف وهبى وراقية إبراهيم، ليشركها يوسف وهبى أيضا فى فيلمه التالى «القناع الأحمر» عام 1947، ومعهما كاميليا، زوزو نبيل، بشارة واكيم، عبد السلام النابلسي، لتكتب عنها الصحف مؤكدة أن هناك ممثلة موهوبة، تنبئ بمشروع نجمة على الطريق. بعد الفيلم الثالث، كان لابد أن تترك العائلة المنصورة وتنتقل إلى القاهرة، حيث قام والدها باستئجار مسكن للأسرة فى شارع "إسماعيل أبو جبل" بحى الناصرية، وعندما زاد دخل الأسرة، التى أصبحت تضم إلى جانب منير وفاتن، شقيقين آخرين هما "ليلى ومظهر"، انتقلوا للإقامة بحى الدقى، وتلتحق بمدرسة "الأميرة فوقية الثانوية" بالجيزة، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها، الممتلئة بالكثير من "الشقاوة والبراءة"، وسط زميلاتها المراهقات، تلك المرحلة التى ربما منعتها شهرتها من أن تعيشها كبقية أقرانها، غير أن ذلك لم يمنعها من أن تعيشها فى حكايات زميلاتها، حتى إنها أحبت كلمة "الحب" قبل أن تعرف معناها، من كثرة ما سمعت عنها من زميلاتها فى المدرسة، ومن كثرة ما قرأت من قصص وروايات وأفلام عاطفية، فقد عاشت معنى اللفظ قبل أن تشعر بأحاسيسه فى قلبها، فأحبت "الحب" كمعنى مجرد، بل وراحت تفتى فى مشاكلها لزميلات دراستها حتى حملت لقب "أستاذة فى الحب"، إلى أن ظهر أول محب فى محطة الأتوبيس عند عودتها من المدرسة، عندما لاحظت أن أحد الضباط الشبان يتعقب خطواتها، فحرصت على تجاهله، لكنها لم تستطع منع قلبها من الخفقان له من كثرة مطاردته لها ونظراته وحركاته وسيره خلفها ومحاولته الحديث معها، وانتظارها على باب المدرسة.. حتى استوقفها ذات يوم بأدب شديد، وادعى أنه صديق لشقيقها منير، وناولها رسالة، فأخذتها منه بيد مرتجفة وما إن فتحتها حتى وجدتها رسالة غرام تكاد تلتهب من حرارة كلماتها مكتوبة بأسلوب جميل، وعبارات مهذبة. قرأت الرسالة أكثر من مرة وشعرت بأشياء جميلة تتسرب إلى داخلها، لم تشعر بها من قبل، لكنها تذكرت على الفور ثقة والديها فيها، وما يمكن أن يسببه لهما هذا التصرف، فما كان منها إلا أن أعطت الرسالة لوالدتها فور عودتها إلى المنزل، وحكت لها ما جرى من هذا الشاب، قرأتها الأم بهدوء ثم مزقتها، وجلست تلقنها الدرس الأول فى ألاعيب الشباب مع الفتيات فى مثل عمرها، وكيف يمكن للفتاة أن تحمى نفسها لتكسب ثقة أسرتها وكل من حولها، فكان بالفعل درساً بليغاً دفعها لتجاهل هذا الشاب رغم تعدد زياراته للمدرسة وانتظاره لها كثيراً، وبرغم أنها كانت ترغب فى التحدث معه، ولم تستطع أن تمنع قلبها من أن يخفق، لكن كلام والدتها كان يرن فى أذنيها، فتشعر بالخوف والتراجع، ليخنق الخوف حبها الأول. كانت مشاورة يوسف وهبى على أى من الوجوه الجديدة، تعنى إشارة واضحة بنبوءة لصاحبها بأن لديه موهبة كبيرة، فما إن شاركت فاتن فى فيلم "ملاك الرحمة"، حتى طلبها المخرجون فى أربعة أفلام جديدة فى العام نفسه، فعملت مع حسن الإمام فى فيلم "ملائكة فى جهنم"، ثم مع المخرج إبراهيم عمارة فى "الملاك الأبيض"، ثم تتحقق أمنيتها وتقف أمام أول بطلة التقت بها فى طفولتها، وتشارك الفنانة آسيا داغر بطولة فيلم "الهانم" للمخرج هنرى بركات، لتعود من جديد إلى مكتشفها الأول المخرج محمد كريم من خلال فيلم "دنيا". وجدت فاتن أن العروض السينمائية تنهال عليها، وبدأت تتضح فى الأفق ملامح المستقبل، فإذا ما كانت ستتخذ من التمثيل مهنة لها، فلابد أن تصقل هذه الموهبة بالدراسة، الأمر الذى شجعها على الالتحاق بمعهد التمثيل الذى افتتحه زكى طليمات آنذاك فى شارع "نوبار"، خصوصاً أن الدراسة فيه ليلية، ولن تتعارض مع دراستها فى المدرسة الثانوية، فكانت ضمن أفراد الدفعة الأولى التى ضمت معها، نعيمة وصفي، فريد شوقي، حمدى غيث، شكرى سرحان، وعبد الرحيم الزرقاني، غير أن فاتن كانت أصغرهم سناً، ما جعل مدير المعهد الفنان والمخرج زكى طليمات، يوليها اهتماما خاصا، حتى إنه راح يدربها بعيدا عن بقية الزملاء على نطق حرف "الراء" حيث كانت تعانى من لدغة فى نطقه زاد منها إتقانها اللغة الفرنسية. لم يستمر بقاء فاتن فى معهد التمثيل طويلا، فقبل أن ينتصف العام الثانى لها فى المعهد، قررت ترك الدراسة فيه، لأسباب ربما لم تعلنها فاتن فى وقتها، فكيف تتجرأ على ترك الدراسة، فيما كان يستعد أقرانها للتخرج، والتباهى بأنهم الدفعة الأولى، فى أول معهد لتدريس التمثيل فى الشرق الأوسط وإفريقيا؟ كان معهد التمثيل الذى أنشأه زكى طليمات، معنيا فى المقام الأول بتدريس التمثيل وفن الإلقاء والحركة، ليعد ممثلين مسرحيين فى المقام الأول، ولأسباب خاصة بها، لم تقع فاتن حمامة فى غرام شيئين التزم بهما إلى حد كبير، أغلب زملائها السابقين واللاحقين، وهما حب الوقوف على خشبة المسرح، والالتزام بالأداء الكلاسيكى فى التمثيل، خصوصاً فوق خشبة المسرح، وما يتم تقديمه عليها من أعمال كلاسيكية من روايات المسرح العالمي، والمسرح المصري، وهو مالم تقتنع به فاتن حمامة، كما لم تلجأ إليه فى أدائها، فوجدت أن بقاءها فى المعهد لن يضيف لها الكثير بعد الذى حصلته منه فى العام الأول، فكان قرارها الجريء بترك الدراسة فيه، قبل ستة أشهر فقط من التخرج، لتتفرغ لدراستها الثانوية التى لم تكملها بعد. بعد عرض الأفلام الخمسة لها فى العام 1946 "ملاك الرحمة، ملائكة فى جهنم، الملاك الأبيض، الهانم، ودنيا" تلقت فاتن حمامة أول رسالة من معجب، وكان سورى الأصل، غير أنه أسهب كثيراً فى وصف نفسه، وتحدث عن ثروته، ثم أنهى الخطاب بطلب الزواج منها، فأسرعت إلى والدها وهى خائفة جداً وأعطته الخطاب، فقرأه بهدوء ثم ابتسم قائلا: لازم تتوقعى من دلوقت وجاى أن يكون لك معجبون، ويبعتولك جوابات.. ومش لازم تهتمى أوى بكل اللى هايكتبوه فى جواباتهم، المهم إنك لازم تردى عليهم بكل أدب واحترام.. مهما كان المكتوب.. ودا حقهم عليك.. المعجب بيحس إن الفنان ملكه لوحده. فى نفس اليوم اصطحبها والدها إلى مصور شهير، وطلب منه التقاط عدة صور بأوضاع مختلفة، وطبع خمسمائة صورة من كل وضع. إيه الصور دى كلها يا بابا.. دى كتير أوي. - شوفى يا فاتن.. إنت بقيت ممثلة معروفة.. والناس بتشاور عليك دلوقت.. ومعجبين بيك.. وكمان لسه هايوصلك جوابات كتيرة من معجبين ومعجبات.. وفيه منهم اللى هايطلب صورة لك.. وكمان لازم توزعى صورك على المعجبين يوم افتتاح أى فيلم. بالفعل صدقت توقعات والدها بعد مشاركتها خمسة أفلام فى العام 1946، عرض عليها فيلمين آخرين فى العام التالى 1947، هما "نور من السماء، القناع الأحمر"، لتصبح فاتن فنانة مشهورة، تكتب عنها الصحف والمجلات، وتنشر صورها وأخبارها، ويصبح لها جمهور عريض، تتلقى منه كل يوم عشرات الرسائل، غير أن أغلب الخطابات التى تصلها من المعجبين تحمل عروضاً للزواج حتى وصل عدد العرسان فى عام 1947 ما يزيد على ثلاثة آلاف "عريس".. ثلاثة آلاف شخص فى عام واحد أبدوا رغبتهم فى الارتباط بالفنانة الشابة فاتن حمامة، غير أنها لم تكن تدرى أن القدر يخبئ لها نصيبها، والذى حمله لها فيلمها الأخير هذا العام. لم يكن والد فاتن يتركها بمفردها، سواء عند توقيع عقد فيلم جديد، أم أغلب أيام التصوير، حتى عندما كانت تتردد على "بيت الفن" ذلك النادى الذى أنشأه بعض الفنانين ليكون مكانا يلتقون فيه فى أوقت فراغهم، ويعقدون فيه اتفاقاتهم، بل ويلجأ إليه أحيانا بعض المخرجين ليشاهدوا فيه بعض الممثلين أو الوجوه الجديدة لاختيارهم فى أعمالهم. كان من بين المترددين على النادى فى ذلك الوقت المخرج عز الدين ذو الفقار، الذى لاحظ تردد فاتن بصحبة والدها على النادى يوميا، فلفتت نظره، فلم يتردد وقدم نفسه لوالدها، مبديا إعجابه بفاتن كممثلة منذ أن شاهدها فى فيلم "القناع الأحمر"، ولم تمض أيام قليلة حتى أصبح عز الدين ذو الفقار صديقا لوالدها. كان عز الدين ذو الفقار يستعد لإخراج فيلمه الجديد "أبو زيد الهلالي" من إنتاج المطرب محمد أمين، واتفق المنتج والمخرج على أن تقوم الفنانة "إلهام حسين" بدور البطولة أمام الفنان سراج منير، غير أن الشركة فشلت فى الاتفاق معها، فبدأت تبحث عن بطلة جديدة تصلح للقيام بدور البطولة، ففوجئت فاتن بعز الدين ذو الفقار يسند إليها الدور، ليكون أول بطولة مطلقة لها كفنانة شابة، فلم تتردد، لينجح الفيلم بشكل لم يتوقعه عز الدين ذو الفقار نفسه، ويصبح نقلة مهمة فى رحلتها الفنية، ما شجعه على أن يتقدم إلى والدها ليطلب يدها للزواج. وافق أحمد حمامة على طلب عز الدين ذو الفقار، بشرط أن يؤجل كل الإجراءات إلى ما بعد انتهائها من الدراسة الثانوية، غير أنه راح يتردد على بيتها بشكل دائم، واستطاع خلال هذه الفترة أن يقنع والدها بتكوين شركة سينمائية كبيرة مع المصور مصطفى حسن، لتكون باكورة إنتاجها فيلم "خلود" الذى كتبه وأخرجه عز الدين ذو الفقار، الذى قرر أيضا أن يقوم أمامها فيه بدور البطولة، وشاركهما كمال الشناوى وإسماعيل ياسين. خلال تصوير الفيلم اقتربت فاتن من عز الدين أكثر، فاتفقا معا أثناء التصوير على اختصار الطريق بالزواج فوراً، وكانت مفاجأة للأسرة عندما عادا للبيت فى هذا اليوم، وقد تزوجا بالفعل، فلم يكن أمام الأسرة سوى مباركة الزواج، لينتقل الزوجان إلى فندق" الكونتننتال" لقضاء شهر العسل، لحين الانتهاء من "عش الزوجية". «شيرلى تمبل» الشرق محمد كريم صرخ: وجدتها.. ووصفها ب «شيرلى تمبل» الشرق فى الوقت الذى كانت فيه فاتن حمامة تتلقى أصول التنشئة والتربية على أيدى والديها ومعلميها فى المدرسة، كان الموسيقار محمد عبد الوهاب قد أتم اختبار موهبته كممثل فى ثلاثة أفلام: «الوردة البيضاء» 1933، «دموع الحب» 1936، و»يحيا الحب» 1938، وما إن اطمأن على نجاح الأخير، حتى بدأ على الفور الاستعداد للفيلم الرابع مع مخرجه المفضل محمد كريم، الذى أخرج له الأفلام الثلاثة السابقة، وكتب قصة جديدة بالاشتراك مع الفنان عبد الوارث عسر، لكى يقدماها فى الفيلم الرابع، واختارا لها مبدئيا عنوان «غرام»، لكن لأن محمد عبد الوهاب اشتهر «بالوسوسة»، وباعتباره المنتج، وميزانية كل فيلم لا تقل عن خمسة وعشرين ألف جنيه وهو أضخم إنتاج يقدم فى ذلك الوقت أراد أن يستطلع آراء عدد من أصدقائه الكتاب والصحفيين فى القصة، قبل التعاقد عليها والشروع فى تنفيذ الفيلم. اجتمع فى مكتبه أكثر من عشرة أفراد، ما بين كتاب وصحافيين ونقاد، راحوا يستمعون إلى محمد كريم وهو يحكى ملخص أحداث الفيلم، وما إن انتهى حتى اجمعوا على أنها قصة جيدة، تصلح لأن تكون فيلما جديدا ومختلفا.. غير أنهم اقترحوا أن يكون اسمه "يوم سعيد" بدلا من "غرام". بدأ الاستعداد للفيلم، فيما راحت الطامحات للشهرة يتسابقن فى التردد على مكتب عبد الوهاب، حيث اعتاد ومحمد كريم أن يقدما فى كل فيلم وجها جديدا، أو أكثر، فبعد أن قدم للسينما المصرية ثلاث فنانات جديدات، هن بالترتيب، سميرة خلوصي، نجاة علي، وليلى مراد، راح يبحث عن وجه جديد يقدمه فى فيلمه الرابع، فتسابقت هاويات التمثيل والسينما، من أجل الفوز بهذه الفرصة الكبيرة، أمام الموسيقار الأشهر فى الشرق. لم يستغرق محمد كريم وقتا طويلا هذه المرة، فى البحث عن البطلة التى ستقف أمام محمد عبد الوهاب فى الفيلم، بل ربما كانت فى باله، ومقررا أن يسند لها دور البطولة، حيث وقع اختياره على فتاة من المنصورة أيضا، غير أنها من أصل يوناني، اسمها "سميحة سميح" التقى بها محمد كريم مصادفة، أثناء عرض فيلم "يحيا الحب" فى المنصورة، وأبدت شغفا كبيرا بالسينما وصل إلى درجة الجنون، وأمنيتها فى العمل بها، فأراد محمد كريم أن يغامر ويمنحها هذه الفرصة، بعد أن أقنع عبد الوهاب بها، والذى لم يكن يهمه اسم البطلة التى ستقف أمامه، مغمورة أو مشهورة، فيكفى اسم محمد عبد الوهاب على الفيلم. غير أن ما أرهق محمد كريم فى البحث هو تلك الطفلة التى كتب لها دورا صغيرا ضمن أحداث الفيلم، ولابد من العثور عليها، ولم تكن الصعوبة فى شكل الطفلة أو مدى إجادتها للدور، بل فى أن يجد الأسرة التى تحب الفن، وتقدره ولا تمانع من ظهور ابنتها على شاشة السينما، فى وقت كانت الأسر لاتزال تنظر للفن نظرة ازدراء. وصرخ محمد كريم، على طريقة "نيوتن": وجدتها. فما إن وقعت عيناه على غلاف مجلة "الاثنين" الذى يحمل صورة الطفلة فاتن أحمد حمامة، فى "زى الممرضة"، حتى سارع على الفور بالاتصال بالمجلة لمعرفة عنوانها، وطلب من أحد مساعديه أن يسافر فورا إلى المنصورة، للتفاوض مع ولى أمرها. دهش كريم عندما علم أن والد الطفلة أحمد أفندى حمامة رحب بالفكرة، فقد كان يتوقع رفضه، ومن هنا احتاط للأمر ونشر إعلانا فى جريدة "الأهرام" يطلب فيه طفلة تمثل دورا فى فيلمه الجديد، ليكون هناك إعلان يستند إليه إذا ما أثيرت مشكلة جراء ذلك. جاءت الطفلة فاتن مع والدها من المنصورة، واستقبلهما محمد كريم فى مكتب أفلام محمد عبد الوهاب فى شارع توفيق بالقاهرة: إنت اسمك إيه؟ هو حضرتك مش عارف اسمى وعايزنى أشتغل معاك؟ كدا.. يعنى أنت عارفة انك هاتشتغلى معايا. بابا قاللى كدا. طب دا شيء رائع.. قوليلى بقى يا ست فاتن ما حضرتك عارف اسمى أهو! خلاص ياستى ما تحرجنيش.. قوليلى بقى ممكن تسمعينى نشيد أو أى حاجة إنت حفظاها... لم تمهله استكمال كلامه، وعلى الفور قفزت فاتن على مكتب مجاور لها، وراحت تلقى عليه، فى حضور محمد عبد الوهاب وبعض العاملين والفنيين، عشرة أناشيد بدلا من واحد، لم ترهب الموقف، ولم تخش المكان ولا الأشخاص، فصفق الجميع، وصرخ محمد عبد الوهاب: - إنت هايلة.. دى معجزة.. دى لقطة ياكريم جرى محمد كريم واحتضنها: برافو.. برافو.. إنت فعلا معجزة.. قوليلى إنت تعرفى شيرلى تمبل؟ لا. دى كانت طفلة أمريكية زيك كدا بتمثل بس فى أمريكا.. لكن أنا واثق إنك هاتبقى أحسن منها. ميرسي. بس شوفى بقى.. إحنا عايزين نتفق على شوية حاجات كدا.. لازم تعرفيها كويس. اتفضل. أولا الهدوم الجميلة الشيك اللى إنت لابساها دى ممكن تبوظ وتتبهدل من التصوير.. علشان كدا إحنا هانلبسك هدوم تانية بسيطة كدا تتصورى بيها.. وأول ما تخلصى تصوير تلبسى هدومك الجميلة تاني. داكور. فرنساوى كمان.. هايل.. وفيه حاجة كمان عايزك تعرفيها. اتفضل. دى اسمها كاميرا سينما.. هى اللى هانصورك بيها وإنت بتمثلي.. لكن اللى يبص ناحيتها وهو بيمثل يطلع وشه أسود أوي. بربري. بالظبط "بربري".. علشان كدا مش عاوزك تبصى ناحيتها خالص وإنت بتمثلي. داكور.. فيه حاجة تاني. لا خلاص.. إنت هاتمشى دلوقت مع بابا.. وإحنا أول ما نجهز ونبدأ التصوير هانبعتلك فورا. أيوا.. بس إوعوا تتأخروا. أتم المخرج تدريب بطلته الصغيرة، ودارت الكاميرا.. وتحولت فاتن ابنة أحمد أفندى حمامة إلى "أنيسة" ابنة "الشيخ مصطفى المحلاوي"، وبلغ إعجاب المخرج محمد كريم بأداء الطفلة الموهوبة، أنه أعاد كتابة دورها بالكامل، وأضاف إليه مشاهد عديدة، كان أولها لقاء يجمع بين فاتن ومحمد عبد الوهاب، حيث تنزل هى الدرج، فيما يصعد عبد الوهاب، وفجأة لاحظت فاتن أن عبد الوهاب ينظر إلى الكاميرا بينما يتحدث إليها، فخرجت عن الحوار المقرر أن تقوله، ونظرت إليه قائلة: إيه دا.. إنت بتبص للكاميرا.. شكلك ها يبقى بربري. ضج الجميع بالضحك، وحرص المخرج محمد كريم أن يلفت نظر عبد الوهاب أمام فاتن، بألا ينظر إلى الكاميرا، حتى لا تتخلى عن النصيحة التى قالها لها. فى اليوم التالى كان هناك مشهد يجمع بينها ومحمد عبد الوهاب وفؤاد شفيق وفردوس محمد، ويتطلب المشهد أن تقول "أنيسة" عبارة طويلة بشكل طفولى عفوي، وما كادت فاتن تبدأ بالكلام حتى أغرق محمد عبد الوهاب فى الضحك، وصاح محمد كريم: ستوب.. ها نعيد تاني أعيد تصوير المشهد مرة واثنتين وخمسا، حتى بلغ تسع مرات، وفى كل مرة كان محمد عبد الوهاب يغرق فى الضحك، فنظرت إليه فاتن نظرة غاضبة، وصاحت بضيق: إنت هاتشتغل كويس والا نجيب واحد غيرك بقى؟ لم يكن محمد عبد الوهاب وحده الذى ضحك هذه المرة، بل ضج الجميع بالضحك فى كل أرجاء البلاتوه، لكنها كانت جادة وحاسمة، فرغم طفولتها، فإنها تعاملت مع هذا العالم، الذى قد يظن من هم فى مثل عمرها أنه مجرد "لهو" بكل تقديس واهتمام، وإحساس بالمسئولية بأنه عمل، ولا يجب أن يتهاون فيه أى من الموجودين، وهو ما استشعرته منذ اليوم الأول من كلام وأسلوب المخرج محمد كريم، الذى يحرص على أن يكون البلاتوه الذى يعمل فيه بمثابة "ثكنة عسكرية" لا مجال للتهاون أو التفريط، أو إضاعة الوقت، الأمر الذى استوعبته فاتن جيدا، بل وراحت تطالب به من تضبطه يفعل ذلك، إلا سيدة حسناء، وجدتها تحضر كل يوم التصوير، وتحرص على أن تغدق عليها بالهدايا واللعب وكل أنواع "الشكولاتة" وعندما يصدر منها تجاوز، كأن تبدى إعجابها بفاتن فى مشهد أدته، لا يثور المخرج محمد كريم، ولا يطلب الهدوء كعادته، ويكتفى بإعادة المشهد، حتى جاء المشهد الذى تحمل فيه "أنيسة" "صينية" كبيرة ممتلئة بالطعام، لتقدمها إلى "محمد" وهنا تحدثت السيدة الحسناء بصوت مسموع: - حرام.. الصينية كبيرة وتقيلة عليها. فصاح محمد كريم مجددا: ستوب! فما كان من فاتن إلا أن وضعت الصينية على طاولة قريبة، وجرت لتحضر الهدية التى أهدتها لها الحسناء قائلة: اتفضلى هديتك آهى.. وبلاش تعطلينا. تأثرت السيدة الحسناء لرد فعل الطفلة بهذه الإهانة، فبكت بشدة وغادرت المكان، وشعرت فاتن بأنها أخطأت فلحقت بالسيدة وبصحبتها محمد عبد الوهاب وقالت لها ما سمعته مرارا وتكرارا من المخرج محمد كريم: أنا آسفة.. أصل شغلنا صعب أوى.. وبيتعب الأعصاب فما كان من السيدة التى تبكي، إلا أن ضجت بالضحك، ومسحت دموعها واحتضنت فاتن. كانت هذه السيدة هى "زينب الحكيم" شقيقة "زبيدة الحكيم" زوجة محمد عبد الوهاب، وفى الوقت نفسه منتجة الفيلم بالمشاركة مع محمد عبد الوهاب، وكان من جراء هذا الموقف، أن ارتفع أجر فاتن حمامة من "جنيه" وهو أجرها فى الفيلم، إلى عشرة جنيهات، دفعة واحدة، بخلاف اللعب والشكولاتة والهدايا. بعد انتهاء الفيلم تم عرضه على الفور، وحققت الطفلة فاتن حمامة نجاحا لم يسبقها إليه غيرها سوى المعجزة الأمريكية "شيرلى تمبل"، لتعود بعده إلى حياتها ومدرستها، غير أن العودة كانت مختلفة، حيث وجدت أنها أصبحت طفلة مشهورة جداً، المدرسين والمدرسات وكذلك زميلاتها الأطفال يعاملونها معاملة خاصة، ورغم صغر سنها، تعمق فى نفسها الشعور بأنها فقدت الإحساس بأنها طفلة عادية فأينما ذهبت أو ظهرت يلتف الناس حولها، ما جعل والدها يشعر بقلق شديد، ويحرص على اهتمامها بالمدرسة وبدروسها، ما جعله يرفض عروضا سينمائية كثيرة فى ذلك الوقت، وبعد نحو 8 سنوات انتقلت الأسرة من المنصورة للقاهرة، لتواصل فاتن دراستها كفتاة عادية، حتى أصبحت على أبواب سن المراهقة، لتغيب عن السينما لمدة أربع سنوات ولم تعد لها إلا فى عام 1944 عندما طلبها المخرج محمد كريم للمرة الثانية، للعمل فى فيلم "رصاصة فى القلب" أمام محمد عبد الوهاب أيضا، لتجسد فيه هذه المرة دور فتاة من أسرة ارستقراطية، والشقيقة الصغرى للفنانة راقية إبراهيم، ورغم أن الدور كان صغيراً فإنه وضعها على الخريطة الفنية من جديد، وارتفع أجرها من عشرة جنيهات، إلى خمسين جنيها. القلب له واحد واجهت نفسها بسؤال: هل أنا سعيدة؟ ثم طلبت الطلاق من عز الدين ذو الفقار فجأة أصبحت الفتاة التى لم تغادر مرحلة المراهقة بعد، مسئولة عن مملكة صغيرة تدير شئونها وتدبر أمورها، فراحت تعكف على قراءة كل ما كتبه الكتاب والأدباء عن السعادة الزوجية، بل وقررت التضحية بدراستها الثانوية لتتفرغ للفن والحياة الزوجية، وأشرفت بنفسها على تأثيث «عش الزوجية» بمنطقة مصر الجديدة، لتكتمل سعادتها باستقبالها ثمرة هذا الحب مولودتها «نادية» وتمضى سفينة الحياة بالزوجين السعيدين، ويرزقان بابنتهما نادية، لتنضج الفتاة المراهقة إنسانيا، وفى الوقت نفسه فنياً، حتى أنها تقرر أن تؤسس شركة إنتاج، ولم يعارضها عز الدين، بل شجعها وأخرج لها أول فيلم تنتجه لحسابها «موعد مع الحياة» ليحقق نجاحاً فنياً وماديا فارقا فى وقته، كما يعتبره النقاد من الأحداث الفنية المهمة فى تاريخ السينما المصرية، لتصل من خلاله إلى قمة المجد ويطلق عليها النقاد لقب «سيدة الشاشة العربية». رغم حب عز الدين ذو الفقار لفاتن، فإنه كان عاشقاً للفن، يقضى معظم ساعات يومه فى الاستديو، فى تصوير بعض مشاهد من عمل له، وفى البيت كان يقضى جل وقته فى التفكير فى كيفية إخراج مشهد ما، أو كتابة بعض الجمل الحوارية، أو جزء من سيناريو، ما أشعر فاتن بأن لها "ضرة" لن تستطيع منافستها فى حب عز الدين ذو الفقار، فكان لابد أن تواجه نفسها بسؤال مهم: * هل أنا سعيدة؟ كانت هذه هى المرة الأولى التى تضع فاتن نفسها فى مواجهة سؤال من الصعوبة أن تحدد له إجابة واضحة، لكن كان لابد من إيجاد إجابة له، لتكتشف فاتن أن علاقتها بعز الدين علاقة تلميذة مبهورة بحب الفن، انجذبت لأستاذ كبير يكبرها بأعوام عديدة، تزوجت التلميذة من الأستاذ مدفوعة بدوافع أخرى ربما ليس من بينها الحب، وضاعف من إحساسها بالحرمان من الحب، الفراغ الذى كانت تعانيه فى ظل غياب عز الدين، فبدأت حياتهما تعرف طريق الملل والخلاف والصدام المستمر، ولم يكن هناك بديل عن الطلاق بعد أن دب الفتور فى حياتهما، فى الوقت الذى كان فيه عز الدين عنيداً معتزاً بنفسه إلى درجة مثيرة، أدت إلى فشل استمرار حياتهما الزوجية. بعد فشل "بابا أمين" 1951 أول فيلم جمع بين فاتن حمامة ويوسف شاهين، حيث لم يحقق نجاحا جماهيريا وقت عرضه، رغم أهميته، وجدت يوسف شاهين يتصل بها بعد ثلاث سنوات، ليعرض عليها العمل معه مجددا، فبادرته على الفور: قبل أى حاجة.. مين اللى هايشتغل معايا فى الفيلم. زكى رستم وفريد شوقي.. لكن البطل ولد جديد. مين دا؟ آآآ.. ولد ما مثلش قبل كدا.. بس كويس أوي. ماشى بس مين هو؟ ما إنت أكيد هاتشوفيه بنفسك. إنت بتهرب ليه من السؤال.. اسمه إيه؟ اسمه يا ستى مشيل شلهوب. هاهاهاهاها.. علشان كدا مش عايز تقول.. هو أجنبى ولا إيه يا جو؟! لا لا دا إسكندراني.. بس أنا غيرت اسمه بقى "عمر الشريف. انتهت المحادثة.. ومرت فترة حتى كان اللقاء الأول بين فاتن وعمر الشريف فى بيتها، كان مترددا خائفا، كأنه سيخوض أهم امتحان فى حياته، سيقابل "سيدة الشاشة العربية" وأهم ممثلة موجودة على الساحة السينمائية، ماذا ستقول له وعن أى شيء ستسأله؟ وبماذا سيرد؟ أسئلة كثيرة، وارتباك وخوف وتردد، وتحضير لكلمات عديدة، لكن ما إن التقيا حتى ضاع كل شيء من رأسه، نظرت له فاتن ولم تنطق بكلمة واحدة، ظل عمر صامتا ينظر للأرض، ثم رفع رأسه فجأة فوقعت عيناه على "بورتريه" رسمه الفنان الكبير صلاح طاهر لفاتن، فتحدث عمر الشريف همسا: الله.. بورتريه رائع رسمه فنان مبدع.. بس فعلا ما يساويش حاجة جنب الإبداع اللى عمله ربنا.. رسم وصور أجمل ملامح.. بأعظم ريشة فى الكون.. وجسد الإبداع كله فى أرق مخلوقة ممكن الإنسان يقابلها فى حياته. وقفت فاتن وقد تسمرت قدماها.. شعرت بأنها تلميذة صغيرة تستمع إلى أول عبارة إعجاب فى حياتها، أحست بأنه نفذ إلى قلبها.. ولن يخرج. فى كواليس تصوير فيلم "صراع فى الوادى" 1954، ولد الحب بين الوجه الجديد عمر الشريف، و"سيدة الشاشة العربية" وأكد ذلك أول قبلة تسمح بها لممثل أمام كاميرات السينما، ليتم الزواج بينهما فى العام التالى 1955، بعد أن أشهر إسلامه، وبعد عامين من الزواج رزقا بابنهما الوحيد "طارق" واشتركا معاً فى بطولة عدد كبير من الأفلام مثل "أيامنا الحلوة"، و"صراع فى الميناء"، و"لا أنام"، و"سيدة القصر" وغيرها، لتمضى الحياة بهما زوجين سعيدين، حتى إن فاتن باتت تشعر بأنها فى حلم جميل، لا تريده أن ينتهي، وكذلك عمر، لا يفترقان لحظة واحدة، غير الشائعات التى بدأت تطاردهما منذ انتهاء شهر العسل، زادت بشكل كبير، خاصة الفتيات اللاتى وقعن فى غرام الفتى الجديد، حتى إن بعض الشباب والشابات أنشأوا جمعية أطلقوا عليها "جمعية مقاطعة أفلام فاتن حمامة" وكلما زادت الشائعات زادت غيرة فاتن عليه، فضلا عن انتقال عمر الشريف للعمل فى هوليوود، فيما يشبه الهجرة، كل ذلك ساعد فى اتساع الهوة بينهما، حتى اكتشفت فاتن استحالة استمرار الحياة بينهما، فحدث الانفصال، لتستقر رحلتها مع الزواج عند محطتها الأخيرة، ليكون الاختيار هذه المرة قائما على الحسنيين، القلب والعقل، بزواجها من الدكتور محمد عبد الوهاب محمود، أحد أشهر أطباء مصر وأكثرهم نجاحاً وتميزاً، صاحب الإنجازات الطبية التى يشهد لها الجميع.. المحب للفن والموسيقى، العاشق للمسرح، رغم مشاغله العديدة، فجذبها بإنسانيته الشديدة، وأدبه الجم، واحترامة الزائد على الحد لها كإنسانة وفنانة، فوقع التفاهم بينهما منذ اليوم الأول، وهو اليوم نفسه الذى وضعا فيه دستور حياتهما معا، ليكون البند الأول فيه: "أن تكون حياتهما الخاصة ملكا لهما فقط". فنانة الأجيال قدمت أفلاما لأغلب أدباء عصرها.. باستثناء نجيب محفوظ! توالت أعمال فاتن حمامة فى حقبة الخمسينيات إلى الحد الذى قدمت فيه فى تلك الحقبة نحو 25 فيلما، حرصت من خلالها على تقديم العديد من الأعمال التى تعتمد على أصل أدبى، بل وظل اعتمادها حتى فيلمها قبل الأخير على الأعمال الأدبية لكبار الأدباء المصريين، بترتيب التعامل: عزيز أباظة، يوسف السباعى، يوسف جوهر، إحسان عبد القدوس، طه حسين، يوسف إدريس، لطيفة الزيات، حسن شاه، كاتيا ثابت، توفيق الحكيم، وسكينة فؤاد. ربما الوحيد من بين أشهر أدباء عصرها الذى لم تختر عملا أدبيا له لتقدمه على الشاشة، كان الأديب الكبير نجيب محفوظ، الذى التقت معه من خلال عملين فقط، لم يكونا نقلا عن رواياته، عندما كتب السيناريو والحوار بالمشاركة مع المخرج صلاح أبو سيف لفيلم "لك يوم يا ظالم" 1951، عن قصة وفية أبو جبل، والعمل الثانى «إمبراطورية ميم» 1972، الذى قام نجيب محفوظ بإعداد المعالجة السينمائية له، عن قصة وحوار إحسان عبد القدوس، سيناريو محمد مصطفى سامى، وإخراج حسين كمال. ربما لم تقع فاتن حمامة فى هوى ذلك النموذج من النساء الذى قدمه الكاتب العالمى نجيب محفوظ، فى العديد من رواياته مثل «زقاق المدق، اللص والكلاب، السراب، بداية ونهاية، القاهرة الجديدة، أو "القاهرة 30"، السمان والخريف، الطريق، ميرامار، الكرنك» وأغلب الشخصيات النسائية فى الثلاثية «قصر الشوق، بين القصرين، السكرية» وغيرها العديد من النماذج التى ابتعد بها محفوظ عن الأطر الرومانسية، حيث خرجت أغلبها من الواقع المرير، الممتلئ بالميلودراما، وما فيه من نماذج أقرب إلى شخصية "المرأة اللعوب"، وهو النموذج الذى أبت فاتن أن تقدمه عبر كل تاريخها السينمائى، حتى إنها لم تدع المشاهد يخمن ولو للحظة واحدة أن نموذج "آمنة" فى "دعاء الكروان" يمكن أن يقترب من هذا النموذج. فإذا كانت فاتن حمامة كما قال عنها الناقد السينمائى أحمد يوسف متناولا شخصيتها كإنسانة وفنانة قد بدأت بالأدوار الثانية فى أفلام أغلبها يدور فى عالم ميلودرامى قاتم، فإنها سرعان ما انتبهت إلى ذلك وسعت إلى تطوير نفسها، لتعكس جانبا مهما من تطور السينما المصرية، من خلال معالجات مختلفة مع عز الدين ذو الفقار، بدءا من فيلم "خلود" مرورا بأفلام "أنا الماضي، موعد مع الحياة، موعد مع السعادة"، وانتهاء بفيلمى "بين الأطلال، و"نهر الحب" حيث تقف البطلة دائما فى مواجهة الزمن الذى لا يرحم، والذى يقودها دائما إلى حيث لا ترضى، يطاردها الماضى المظلم تارة، ويهددها المستقبل تارة أخرى، لتبقى حائرة فى مفترق الطرق، غير قادرة على اختيار القرار أو تحديد المصير، غير أن هذا الضعف الإنسانى يكتسب صبغة ميلودرامية ساخنة، ورغبة دفينة فى إثارة تعاطف الجماهير مع المخرج حسن الإمام فى "اليتيمتين" 1948، و"ظلمونى الناس" 1950، و"أنا بنت ناس" 1951، و"الملاك الظالم" 1954، لكن يظل هذا الإحساس مسيطرا على أدوارها، حتى عندما تُقدم على تجارب أخرى مختلفة تماما، سواء مع يوسف شاهين، بداية من "بابا أمين" 1950، وحتى "صراع فى المينا" 1956، أو مع صلاح أبو سيف فى "لك يوم يا ظالم" 1951، وحتى الأفلام الغنائية مع فريد الأطرش فى "لحن الخلود" 1952، لبركات، ومع محمد فوزى فى "دايما معاك" 1954 لبركات، ومع عبد الحليم حافظ فى "أيامنا الحلوة" 1955 لحلمى حليم، و"موعد غرام" 1956 لبركات، غير أن النجمة الرقيقة تقترب من النضج بجهد كبير خلال مرحلة الانتشار، وتضيف إلى موهبتها قدرا أكبر من الذكاء، وقدرة أدق على الاختيار فى مراحلها اللاحقة. مع بداية الستينيات كانت السينما تنحو نحواً جديداً بوجوه مبدعة عرفت كيف تسرق الكاميرا، ربما أهمهم سعاد حسني، ونادية لطفي، هنا أدركت فاتن أن عليها تغيير جلدها لتخرج من ملامح الفتاة الملائكية التى قدمتها فيما سبق من أفلام لتدخل فى مرحلة المرأة الناضجة، لتمثل أفلام الستينيات فى تاريخ فاتن حمامة علامات مضيئة لا تنساها لها السينما المصرية، ربما أهمها فيلم "نهر الحب" 1960 مع المخرج عز الدين ذو الفقار، المأخوذ عن رواية الأديب الروسى "ليو تولستوى" الشهيرة "أنا كارنينا"، كذلك فيلم "لا وقت للحب" مع صلاح أبو سيف عام 1963، الذى نالت عنه جائزة أفضل ممثلة عن فيلم سياسي، وفيلم "الباب المفتوح"، وفيلم "الليلة الأخيرة" مع نفس المخرج، وشاركها فى بطولته اثنان من عباقرة التمثيل هما محمود مرسى وأحمد مظهر، كما لا تنسى لها السينما المصرية فيلمها الخالد "الحرام" عن رائعة الكاتب يوسف إدريس. ومع مجيء عام 1966 كان قرار فاتن بالخروج من مصر، حيث ظلت تتنقل بين بيروت ولندن حتى عام 1971، لإحساسها بالخوف والقلق من النظام السياسى آنذاك، حتى بلغ ذلك الرئيس جمال عبد الناصر فانفعل بغضب قائلا: - فاتن حمامة ثروة قومية.. إزاى يعملوا معاها كدا.. ابعتولها فورا.. لازم ترجع مصر. قبل أن تفكر فاتن فى مراجعة قرارها بالعودة إلى مصر، كانت الأحداث أسبق منها، حيث وقعت نكسة 1967، وبدلا من عودتها إلى مصر، راح عدد كبير من الفنانين يتجهون إلى لبنان لتقديم أعمالهم الفنية هناك، خاصة أن الأجواء فى مصر لم تعد مهيأة لذلك، فى ظل الأحداث السياسية والاقتصادية، لتنتهى هذه الفترة برحيل جمال عبد الناصر، إلا أن فاتن لم تعد إلى مصر إلا فى العام 1971. فإذا كانت الستينيات مثلت مرحلة جادة فى أفلام فاتن حمامة، فقد جاءت السبعينيات بملامح جديدة لتلك الفنانة المبدعة التى كانت تقف بين كل حين وآخر لا لالتقاط الأنفاس وحسب، لكن لتحديد المسار الجديد، فخلال حقبتى السبعينيات والثمانينيات، قررت فاتن الاقتراب من الواقع الحى، والتفاعل معه، لتصنع صورة مناقضة لما بدأت بها حياتها، لتثبت أنها نجمة غير عادية، وفنانة قادرة على العطاء والتجدد. فى تلك الحقبة قدمت فاتن مجموعة من الأفلام التى أكدت بها أن رحيلها عن مصر لم يفقدها بريق النجومية، حيث بدأتها فور عودتها فى العام 1971 بفيلم "الخيط الرفيع" مع الفنان محمود ياسين، الذى أجادت فى أداء دورها فيه إلى حد إبهار النقاد عندما قدمت شخصية المرأة متعددة العلاقات دون أن تخدش حياء المشاهد للفيلم ولو بلفظ واحد، وفى العام 1972 تقدم فيلمها "إمبراطورية ميم" الذى يعد رغم تفاصيله الأسرية، واحداً من الأفلام المهمة، الذى اعتبره بعض النقاد فيلما سياسيا، وفى عام 1975 قدمت فاتن فيلم "أريد حلاً" الذى صدر به قانون بعد عرضه بنحو 30 عاماً، حيث ناقش مبدأ الخلع فى الشريعة وحق المرأة فيه، وفى العام التالى ومع بداية الإحساس بالانفجار السكاني، تقدم فيلم "أفواه وأرانب" ليحقق نجاحا مختلفا، فى ظل وجود تراجع ملحوظ للسينما، وأعقبته بفيلم "لا عزاء للسيدات" عام 1979، الذى ناقشت من خلاله قضية المرأة المطلقة ونظرة المجتمع لها، لتأتى ثمانينيات القرن العشرين، بإشارة عن غياب فاتن حمامة عن السينما، حيث بدأت سيطرة أفلام المقاولات، ففضلت الانسحاب بهدوء، بيقين من لا مكان له وسط هذا العالم المختلف، لتظل خمس سنوات بعيدة عن شاشة السينما حتى العام 1985، عندما قدمت "ليلة القبض على فاطمة"، لتعود بعده إلى الانزواء، حتى تكتشف السينما المصرية خطأها الفادح فى حق نفسها، ويخرج جيل جديد من المخرجين يحاولون إصلاح ما أفسدته السبعينات، فيتمكن المخرج خيرى بشارة من إعادة فاتن حمامة لشاشة السينما من جديد فى فيلم "يوم حلو يوم مر" عام 1988، الذى جسدت فيه شخصية "عائشة" الأم التى تنتمى إلى الطبقة الكادحة، وحلم هذه الطبقة، مجرد البحث لها عن مكان وسط هذا العالم الذى أصبح يعيش بقانون "الانفتاح" المتوحش، لكن رغم محاولات هذه الجيل السينمائى إعادة السينما المصرية إلى مسارها الطبيعي، فإن شروط السوق الجديدة كانت أقوى، فكانوا كمن يحفر فى الصخر، وما أن ينجح أحدهم فى تقديم فيلم جديد له، حتى يشعر بأنه حقق انتصارا غير مسبوق، وهو ما فعله داود عبد السيد عندما نجح فى أن يعيد فاتن حمامة للسينما من جديد بفيلم "أرض الأحلام" عام 1993، أمام الفنان يحيى الفخراني، ورغم أهمية الفيلم فى تاريخ داود عبد السيد، بل وفى تاريخ السينما، فإن فاتن لم تخجل من أن تعلن أنها لم تحب هذا الفيلم! وتبرهن فاتن على أنها فنانة الأجيال، فتقدم "ضمير أبلة حكمت" أول مسلسل تليفزيونى لها مع السيناريست أسامة أنور عكاشة والمخرجة أنعام محمد على فى العام 1991، ليحدث انقلابا جديدا فى الدراما التليفزيونية، ورغم نجاح التجربة نجاحا لافتا للنظر، فإنها لم تخضع لإغراء الشاشة الصغيرة، وتظل بعيدا عن كل الأضواء والكاميرات والشاشات الكبيرة والصغيرة، ما يقرب من عشر سنوات أخرى، عندما نجح المخرج عادل الأعصر فى اختراق الشاشة الصغيرة، ليخوض تجربته الأولى مع الدراما التليفزيونية، ويستطيع إقناع فاتن حمامة بتكرار التجربة للتليفزيون، لتشترك مع رفيق العمر الفنان أحمد رمزي، الذى عاد أيضا بعد غياب طويل، فى مسلسل "وجه القمر" للكاتبة الصحفية ماجدة خير الله، ليكون آخر ما تطل به فاتن على جمهورها فى كل المنافذ الفنية، رغم أن جمهورها لايزال ينتظر مترقبا أن تطل عليه بين لحظة وأخرى، لكنها اختارت الذكريات، وكلما جرفها الحنين لهذا العالم الساحر، الذى غادرته طواعية، تدخل إلى غرفتها الخاصة لتبقى بعض الوقت، بين الجوائز والتكريمات، التى لم تكن مقصورة فقط على المهرجانات السينمائية، بل من بينها العديد من الأوسمة والنياشين التى منحها لها الملوك والرؤساء، من المشرق إلى المغرب، ليغادر وجه القمر شاشات السينما والتليفزيون، ويستقر بعيدا فى الأفق، ليذكرنا نوره بأنه لايزال هناك.. لكنه بعيد المنال، وغير مسموح لأحد الاقتراب منه سوى الأحفاد الخمسة فقط، وتحديدا "مارين وفاتن" الأحب إلى قلبها.