زينب هاشم الهروب من الفقر والفشل والإحباط بات ظاهرة يستسلم لها كل من ضاق صدره بالعيش على أرض الكنانة، وكل من تعقدت وتفاقمت عثراته، ليكون البديل هو البحث عن حياة أخرى صابت أو خابت ستنقله حتما وبالتأكيد إلى حياة جديدة فى ليبيا، وسواء من سافر عن اقتناع أو سلم نفسه لسماسرة تنقل المصريين عبر الحدود وتعدهم بخمسة آلاف دينار شهريا مقابل السفر والعمل أو حتى بحثا عن الاستشهاد وطمعا فى الخلافة الإسلامية. فى السطور المقبلة، تكشف مجلة «الأهرام العربى» مآسى المصريين فى ليبيا من خلال تجارب حقيقية لبعض المصريين العائدين من ليبيا، مصابين أو محطمى الآمال والأحلام. «فهد».. ضحية الفقر فى البداية يقول فهد المحمدى (40 سنة)، وهو من عمال اليومية، الذين يجلسون بجوار "مدقاتهم" فى أماكن تجمعات العمال بانتظار الراغبين فى الأعمال اليومية، كالنجارة أو أعمال البناء، فيستعينون به وبمجموعة من المماثلين له، ممن يجلسون متفرقين فى الطرقات بانتظار الرزق.. ولكن كان فهد يذهب كل يوم إلى المكان نفسه ولا يجد من يطلبه فيعود إلى بيته مكتئبا حزينا، ولا يقوى على مواجهة زوجته ولا يعرف ماذا يفعل. ويستكمل فهد الحديث قائلا: جربت قبل فترة العمل فى محل سباكة أو عند ميكانيكي، لكنى لم أجد.. وبناتى وزوجتى كدن يبعن أنفسهن للحرام من أجل المال، لكن الحمد لله لم نسقط فى هذا المستنقع، ولذلك كنا نعيش حياة صعبة، فكنا نأكل وجبة واحدة فى اليوم إن وجدت. ويواصل فهد الحديث واصفا صعوبة الحياة قائلا: "ضاق صدرى ولا أعرف ماذا أفعل؟ الحياة غالية وطلبات الأولاد وأمهم لا تنتهى؛ مدارس وطعام ومسكن، وحتى بعدما خرجت الأولاد الخمسة من المدرسة وجلسوا فى البيت بدون تعليم لم تنحل الأزمة، ولا أجد وظيفة لا لي، ولا لأى من أبنائي، وزوجتى تعايرنى كل يوم بقلة الأكل وقلة الفلوس وميراثها الذى أنفقته كله فى الإنفاق علينا إلى أن قررت السفر إلى ليبيا". وعندما سألته ولماذا أختار السفر إلى ليبيا رد قائلا: "الحدود مفتوحة ومنذ فترة حضر إلينا شيخ قال إن هناك سماسرة على الحدود بين مصر وليبيا للعمل مع جماعة أنصار الشريعة، وقلت لنفسى على الأقل أجد لنفسى لقمة تسد رمقى بدلا من الجوع الذى كاد يقتلنى، وقام هذا الشيخ بالذهاب معنا أنا وثلاثة ممن يجلسون معنا للشيخ المجذوب وهو من تعرفنا إليه ورافقنا حتى الوصول للمكان الذى عشنا فيه قرابة 6 أشهر كان كل يوم منها بمثابة دهر، فلم نر سوى السلاح الموجود فى كل الأماكن حولنا، وكل المشتبه به يتم قتله حتى قبل التأكد أو التعرف على هويته، ومنذ اليوم الأول الذى سافرنا فيه قالوا إنه لا تراجع من هذا الطريق، وأى تغيير فى الرأى قد يودى بحياتنا وحياة أسرنا فى مصر، فوجدناهم يعرفون جيدا من نحن، وماذا كنا نفعل فى مصر قبل السفر، وحتى أولادى يعرفونهم بالاسم". ويمضى فهد يكشف ويلات الجحيم الذى عاش فيه فى ليبيا قائلا: "أثناء الفترة التى قضيتها هناك لم أتقاض منهم مليما واحدا.. بل كنت أعيش وسط الرصاص والضرب والقتل والأحزمة الناسفة، وكل واحد منا ليس لديه حتى حرية الاختيار، فمن يتم إسناد حزام ناسف له لا يمكن له الإعتذار أو حتى الإستفسار عن أسباب هذه العملية الانتحارية". وبالفعل توفى صديق لى من الاثنين اللذين سافرت معهما، أما أنا فنجوت بأعجوبة، وذلك أثناء هجمة من الهجمات عليهم فهربت منهم واختبأت بين الجبال حتى تمكنت من العودة إلى مصر، ولم أصدق نفسى أنه قد كتب لى الله عمرا جديدا بعدما كنت أعيش بين القنابل والمولوتوف.. ولم أتقاض دينارا واحدا بل اكتفوا بأنهم كانوا يقدمون لنا الأكل والشرب وأقنعونا بأن جزاء عملنا فى الجنة، ولابد أن نكتفى فقط بالأكل والشرب إن وجد، لأنه فى كثير من الأحيان كانوا يقولون إن الشيخ لم يأمر بغذاء اليوم". ويمضى فهد يقول: "خسرت كل شىء لدرجة أننى كدت أخسر نفسى وأنا لا أعرف شيئا عن هذه الجماعات.. أنا رجل "أرزقي" أبحث عن لقمة العيش.. لم أجده فى مصر، وجلست طويلا على الرصيف بانتظار الرزق مع طوابير الباحثين عن العمل.. وما زلت. محمد جمال.. وجحيم الحرب حتى الإصابة محمد جمال قصته لا تختلف كثيرا عن مأساة فهد، حيث تقول والدة محمد الذى لم يتجاوز الثلاثين عاما "كان يعمل فى جمع المسامير والخشب كعامل يتنقل من العمارات والبيوت تحت الإنشاء إلى أن وجدت تغيرا ملحوظا فى سلوك ابنى، حيث كان ابنى من أفضل وأخير الشباب فهو وسيم ويتمتع بجسم قوى كان دائم الخلاف مع شقيقتيه بسبب اعتراضاته على ملابسهما، لدرجة أن واحدة منهما تمت خطبتها وأرغمها على الانفصال عن خطيبها لمجرد أنه رآه يقف معها خارج البيت". وتمضى والدة محمد جمال تحكى قصة نجلها قائلة: "قررنا تغيير منزلنا والذهاب إلى منزل آخر، وقتها تمسك محمد بالبقاء فى المسكن بمفرده فى شقتنا القديمة، وبعد شهور فوجئت به ينزوى ويبتعد عن أصدقائه وأقاربه ويجلس بالأيام لا يتحمم ولا يأكل ولا يشرب إلا ما يبقيه على قيد الحياة". وعن دور والده مضت فى الحديث وقد ملأت عينيها الدموع قائلة: "والده كان بعيدا تماما عنه هو وأشقائه، فكان لفترات طويلة يسافر للعمل فى سيناء، ويأتى إلينا لقضاء العطلة كل شهرين أو ثلاثة ولمدة قصيرة لا تزيد على أسبوع واحد، وبعد سنوات طويلة على هذه الحال أصبحت لا علاقة له بنا، فأنا من يتحمل كل المسئولية بداخل البيت، وهو عنيف يعاقب بالضرب ومنع المصروف لأتفه الأسباب، لدرجة أننى كنت أرفض الحديث أمامه فى أى تفاصيل قد تدفعه لحجب المال عن الأولاد أو الأسرة". وتمضى الأم تروى مشكلة نجلها قائلة: "تفاقمت مشكلة محمد وذهبت به لأكثر من شيخ للبحث عن حل لمشكلته، ولم أجد من يبرر ذلك سوى جلوسه بمفرده فى شقته فعشقته "جنية" كما قال لى أكثر من شيخ، وأنفقت أموالا طائلة واضطررت للاستدانة لتلبية طلبات المشايخ إلى أن فوجئت بابنى يختفى ولم أعرف له طريقا إلى أن حضر منذ أيام وقد ألقى به أصدقاء له أمام البيت، وفوجئت به مصابا فى فخذه بطلق نارى، وعرفت أن أولاد الحرام أقنعوه بالسفر للقتال ضد الجيش الليبى، وأوهموه أنه سيسافر لنصرة الحق ضد من يغتصب الفتيات وينتهك الأعراض، ولتطبيق العدالة فى الأرض، بحثا عن الخلافة الإسلامية.. وللأسف فهؤلاء كانوا رفقاء السوء، وصدقهم نجلى محمد وسافر معهم وعرض نفسه للموت أكثر من مرة لولا ستر الله الذى أنقذه". وعن اتجاهه لهذا الفكر قبل سفره، قالت والدة محمد: "لم يكن نجلى متصوفا أو حتى متدينا.. بل كان زاهدا فى الدنيا بدون هدف أو فكر، لكن أصدقاءه "خطفوه" مقابل خمسة آلاف دينار ليبى، كان راتبه الشهرى وهم كانوا يتقاضونه عنه". ويلتقط محمد أطراف الحديث ويحكى مأساته قائلا: "عندما سافرت وجدت الكثير من المصريين كنت أسمعهم يقولون إننا فى مصراتة، وأنا لم أطلب منهم أى أموال، بل كنت أكتفى بطعامى وشرابى وعملى فى حمل القنابل والبنادق وتوصيلها من جماعة لأخرى.. كنا نقابلهم وكنت عن نفسى لا أعرفهم، بل كنت أتوصل إليهم من خلال الرفاق الذين أخرج معهم فقط لهدف توصيل أمانة أو إحضار غيرها، وكنت فقط أخرج مع الشباب، لكننى لم أوكل بتوصيل شىء بمفردى.. وقد أصبت أكثر من مرة لأننى كثيرا ما كنت أجد نفسى بين القنابل وكنت مضطرا للتعامل معها أو الاختباء أثناء المعارك". ويحكى محمد ظروف إصابته الأخيرة قائلا: "فى آخر مرة عندما أصبت بطلق نارى فى رجلى كانوا ينوون تركى أنزف حتى الموت، إلى أن ساعدنى شاب مصرى آخر حتى أهرب منهم بعد أن قام هو ومجموعة من أصدقائه بإخراج الرصاص من رجلى، ولكنى عانيت من الألم كثيرا ولشهور دون أن أشفى.. وفى آخر مرة نصح أحد المعالجين صديقى بأن الجرح تلوث وقد يتطلب بتر الساق بالكامل، وبناء على ذلك هربونى والآن أعلم بأن السلطات تراقب كل المشتبه فيهم العائدين من ليبيا وقد شددوا على بأن أسرتى كلها معرضة للخطر وأمى وشقيقاتى معرضات للاغتصاب لو صرحت بأى تفاصيل أو أسماء من ساعدنى للسفر أو حتى الهروب منهم". إسماعيل.. رفض تنفيذ عملية انتحارية أما إسماعيل ممدوح، وهو الذى كان يعمل محفظا للقرآن الكريم فى أحد المساجد، تارة وفى البيوت تارة أخرى، فقد عاد من ليبيا بعد أن تعرض لبطش الجماعات الإرهابية أكثر من مرة عند رفضه تنفيذ عمليات انتحارية، ويحكى قصته قائلا: "كنت أعمل محفظا للقرآن الكريم، وأتقاضى عشرين جنيها فى الساعة، وكنت أعتمد على الذهاب للتدريس للطلبة فى بيوتهم أو فى المسجد، لكن أهالى الطلبة فجأة قلقوا من الأحداث التى قد تحيط بأطفالهم، ومنهم من كان لا يملك مكانا لتحفيظ أبنائه للقرآن، واشترط على أن يكون لدى مكان ثابت لتحفيظ القرآن للطلبة، وبالفعل قمت باستئجار شقة كنت أقوم بتحفيظ القرآن فيها، لكن كان الطلب يتراجع كثيرا على حفظ القرآن مع دخول المدارس، ووجدت نفسى لا أقوى على دفع الإيجار فتركت الشقة، وتزوجت أمى فى الشقة التى تركها والدى لى ولها، ولم تكن لى أخوات، وكنت لا أدرى ماذا أفعل؟" ويمضى إسماعيل قائلا: "وفى ذات يوم أتى لى صديق كان يعرف حجم معاناتى المادية، وسألنى إن كنت على استعداد للسفر خارج مصر فأبديت موافقتى برغم أنه كان قد عرض على الأمر نفسه من قبل لكنى رفضت فى السابق، حتى لا أتخلى عن أمى، لكن بعد زواجها لم أجد لى خيارا آخر غير السفر". ويصمت إسماعيل قليلا ملتقطا أنفاسه، ويعود قائلا: "وافقت على مبدأ السفر والعمل فى الغربة التى لا تختلف عن غربتى هنا فى بلدى بدون أهل، خصوصا عندما علمت أن هناك جماعة إسلامية توفر فرص العمل للشباب مقابل خمسة آلاف دينار شهريا، وهم جماعة أنصار الشريعة، فوافقت على الفور، وسافرت مع مجموعة من المصريين كانوا يقفون على الحدود ويتعاقدون مع مجموعة من الإخوة، وكل واحد منهم يأتى بمجموعة أخرى من الشباب". ويحكى إسماعيل ظروف السفر والحياة فى ليبيا قائلا: "سافرنا جماعة، وإذا بنا لا نرى غير مجموعة بنايات محطمة نحارب ونلقى بالقذائف فى المساجد وبالقرب من المساكن، وأنا لا أعرف من نحارب؟ ولماذا؟ ومضى شهر بعد الآخر حتى بلغنا عاما ونصف العام ولم نتقاض مليما واحدا، وكانوا لا يقدمون لنا إلا الأكل والشرب فى مواعيد يحددونها ونحن لا نملك حق الاعتراض.. إلى أن اتفقت مع صديق آخر كان أيضا لا يعرف شيئا عن هذه الجماعات، وضلل مثلى، للبحث عن وظيفة أخرى بعيدا عن هؤلاء الذين يحدثوننا عن الدين ويحثوننا على قتل الأبرياء والنساء بدون ذنب، ولكن لم نجد منفذا حتى للعمل". ويمضى إسماعيل قائلا: "كنا نتنقل من مكان لآخر.. ما بين صحراء وما بين جبال، وأماكن أخرى لا نعرف أين نحن أو أين سينتهى عملنا فى هذا المكان، وكل المحال التجارية حولنا مغلقة، ولا توجد متاجر أو مصانع، ولا حتى شىء سوى الضرب والقتل وأصوات النيران لأتفه الأسباب.. فهو مبدأ لديهم ولا يعرفون أو يجيدون سوى حمل السلاح برعونة". وعن المقابل المادى قال إسماعيل: "لم نتقاض شيئا ولا سبيل حتى للعمل بخلاف أنهم لا علاقة لهم بالدين، فقط القتل، والسلاح هو أبسط أدواتهم واكتشفت زيفهم بمجرد وصولى وعشرتى لهم من أول شهر، وهددونى بالموت عندما لمحوا مقتى ورفضى لأفعالهم الحقيرة". الحداد.. الهرب من الموت والإصابة أما جمال الحداد فلم تكن الغربة أو السفر ببعيد عنه، فمنذ سنوات طويلة كان يعيش فى ليبيا بعدما هجر زوجته وفتياته وترك مدينته سوهاج للعيش بمفرده هناك منذ فترة حكم القذافي، وبعد سفره ظلت أسرته تنتظره عاما تلو الآخر، ولكنه لم يحضر إلى مصر، بل استمر قرابة عشر سنوات كاملة لا يرسل لهم أى أموال، وتولى شقيقه الأكبر مسئولية الإنفاق على أسرته، خاصة بعدما تركت زوجته مدينة سوهاج وانتقلت إلى القاهرة، ونظرا لعادات وتقاليد الصعايدة عاشت الفتيات تحت مظلة عمهن، بينما تزوجت الأم بآخر، ومنذ شهرين وبعد غياب أكثر من خمسة وعشرون سنة كاملة لم يحضر، عاد وقد أصيب فى ذراعه. ويحكى جمال مأساته قائلا: كنت أعمل «أرزقى».. عتالا أحيانا وعاملا فى أحيان أخرى وكنت أتقاضى أجرا ماديا جيدا، ومنذ سفرى قررت الاستقرار، فكان الوضع أفضل بكثير مقارنة بمصر، وبعيدا عن الفقر الذى عانيت منه كثيرا ولم يكن له حل، وفى بلاد الغربة الفقر مستور، ولا أحد يعرف أحد، وكان لا يفيض معى ما يمكننى من إرسال نفقات زوجتى وفتياتى، واستمر الوضع كذلك حتى قامت الثورة، وأرشدونا إلى مجموعة من المقاتلين حتى نحصل على عمل بعدما أغلقت كل منافذ الرزق فى ليبيا، وكنت لا أقوى على العودة مرة أخرى إلى مصر. ويضيف جمال قائلا: "بعدها وافقت على العمل بأى شروط، وفى أى شىء، فكانوا يجندوننا مقابل المال، ووافقنا أنا ومجموعة من الرفاق، ولم نعترض، ولكن فى الفترة الأخيرة تحول الوضع إلى حالة مستمرة من الموت والاصابات، ووجدنا زملاءنا يقعون قتلى أو مصابين ويفقدون أجزاء من أجسادهم، ولم يكن لنا خيار إلا الهرب، وقد فقدت صديقى الذى توفى فى إحدى الهجمات، وصديقى الآخر فقد ذراعه".