خاص : الأهرام العربى فى الثمانينيات خرج البعض من المصريين مشدودا بفكرة الجهاد فى سبيل الله، ومساعدة الأفغان فى الجهاد ومقاومة الاحتلال السوفيتى، ومنذ ذلك الحين تراود فكر الجهاد العديد من الشباب، فمنهم من يظل يبحث عن طريق اللحاق بقطار الجهاد، لكن يظل السؤال هو: الجهاد ضد من؟ وأين؟ منذ سنوات بدأ البعض يدعو لانخراط الشباب فى صفوف المقاتلين ضد الجيش السورى ونظام بشار الأسد، وظهرت فئة جديدة من المجاهدين، على غرار المجاهدين العرب فى أفغانستان، وهم المجاهدون العرب فى سوريا. لكن كيف يتم تجنيد الشباب فكريا وإقناعهم بفكرة السفر والانخراط فى صفوف المقاتلين فى أتون حرب مستعرة؟ وكيف يسافرون إلى سوريا؟ أسئلة عديدة وألغاز غامضة فى ملف حكايات المقاتلين المصريين فى سوريا ضد الأسد، لكن تبقى الحقيقة المؤسفة، وهى أن وراء كل شاب ذهب إلى سوريا حكاية مؤسفة، وأسرا معذبة فريسة للحزن والدموع وألم وحسرة الفراق. «الأهرام العربى» تفتح مجددا ملف أسرار وحكايات الشباب المصرى المحارب فى سوريا. حسام فؤاد، شاب فى بكالوريوس الهندسة، ترك دراسته الجامعية ومستقبله، وسافر إلى سوريا، فكيف سافر؟ وكيف أقنع أسرته؟ وكيف كانت حياته هناك؟ «الأهرام العربى» التقت بعض أفراد أسرته، والذين وافقوا على البوح بأسرار نجلهم، كاشفين أسرار سفره الغامض.. وتقول الأسرة: إن سفره جاء بعدما أقنع والدته بأنه مسافر إلى تركيا لنيل تكريم لفوزه فى مسابقة حفظ القرآن الكريم، وسيمكث هناك لمدة أسبوع.. ومضى الأسبوع ولم يعد حسام، وبدأ القلق يتسلل إلى قلب الأم، وبعد مرور عشرة أيام من سفره فوجئت والدته باتصال على هاتفها المحمول من نجلها حسام، أخبرها بمفاجأة، وهى أنه كذب عليها، وأن سفره إلى تركيا ليس لنيل شهادة تكريم، وإنما السفر إلى تركيا جزء من رحلته الأساسية التى أخفى حقيقتها، وهى أنه يريد السفر إلى سوريا للانخراط فى صفوف من وصفهم بالمجاهدين والمقاتلين ضمن صفوف الجيش الحر، ضد قوات الرئيس السورى بشار الأسد، إيمانا منه بأنه بذلك يساعد فى نصرة الحق وإعلاء كلمة الإسلام.. ذهلت الأم، وعبثا حاولت إقناعه بخطأ ما يفعله، وأن عليه سرعة العودة إلى القاهرة ليعود إلى حضنها من جديد، وترك هذا الطريق المظلم من وجهة نظرها، جاءت محاولاتها بلا أى جدوى، ووجدته مصمما على المضى فى طريقه، وقال لها «ألا تتمنين أن يكون نجلك من الشهداء ليدخل الجنة ويشفع لك عند الله؟».. استمرت محاولاتها ولكن بلا أدنى استجابة من نجلها الوحيد وتفاجأت به ينهى المكالمة قائلا: «لقد اخترت الطريق.. والعودة الآن لا مجال لها، فقط عليك أن تسامحينى حتى يرضى الله عنى ويبارك خطواتى». أغلق الهاتف لتكتشف الأم أنها وقعت فى دوامة لا مخرج منها، تتنازعها مشاعر القلق على وحيدها، والخوف على مصير مجهول. لكن كيف وصل حسام إلى هذه الخطوة؟ وكيف كانت حياته قبلها؟ تقول والدته إن نجلها متدين بطبيعته، ونشأ تنشئة دينية فى البيت، وأنها سهرت على تربيته بمفردها بينما والده كان مسافرا معظم الوقت إلى السعودية للعمل هناك منذ سنوات طويلة، فلم يعش معه إلا فترات متقطعة على مدار السنوات، مضيفة أن نجلها يحافظ على أداء الصلوات فى وقتها فى المسجد المقابل للمنزل، وكان يفعل الخير دائما وله نشاط طويل مع جمعية «رسالة» للأعمال الخيرية، وكان كثيرا ما يذهب معهم فى زياراتهم لتقديم الهدايا إلى الأطفال الأيتام والمحتاجين، وكان بالفعل متبنيا لطفل صغير يتيم الأب، يقوم بالإنفاق عليه، وكان هذا الطفل متعلقا به بدرجة كبيرة، ويفرح عندما يزوره حسام، ويبكى عند فراقه. وتستكمل موضحة تفاصيل أصعب فترات حياتها عند سفر نجلها قائلة «منذ سفره كان يتصل بى على فترات متباعدة ليطمأننى عليه، من هاتف يظهر بدون رقم، أو تظهر كلمة «هاتف خاص» باللغة الإنجليزية، أو «اتصال»، وكانت المكالمات مدتها لا تتجاوز الثلاث دقائق بعدها يغلق الخط دون سابق إنذار. حاولت والدته بشتى السبل أن تستقى أخباره، فلجأت إلى متابعة صفحته على موقع «فيس بوك» للتواصل الاجتماعى، من آن لآخر كانت تجده يقوم بكتابه بعض التعليقات، أو يضع بعض الصور بصحبة بعض الشباب رافعين علامة النصر بأصابعهم. وتمضى الأم قائلة: «كانت اتصالاته غير منتظمة، بمعنى أنه كان من الممكن أن يظل لعدة شهور دون أى اتصال، وربما تتباعد المسافات إلى نحو خمسة أشهر كاملة، وعندما يتصل كنت أبكى وأنا أحادثه من لوعة الفراق والخوف عليه، فيجيب بأنه مشغول بالتدريبات على القتال، والتى يتلقاها على أيدى مدربين يعلمونه كيفية حمل السلاح وكيفية توجيه ضربات متلاحقة للعدو، وأيضا ماذا يفعل لتجنب تلقى الرصاصات والقذائف أثناء الغارات. وتمضى الأم قائلة «كانت كلماته تزيدنى قلقا فوق قلقى، وكنت أجمع معلوماتى بشكل متقطع مع كل مكالمة تلو الأخرى، وكنت دائما ما أشدد عليه أن يراعى أقصى درجات الحذر فى التعامل مع السلاح خوفا على حياته، وعندما أسأله عن المكان الذى يعيش فيه، كان يراوغ ولا يحدد مكانه ويكتفى بالقول إنه سلم نفسه وجواز سفره وهاتفه المحمول عندما وصل إلى تركيا لقائده، وأنه يتحدث إليها عبر هاتف غير معلن يمتلكه قائد آخر فى سوريا. ومضت الأيام والشهور ثقيلة ممزوجة بنار الفراق واللهفة، والقلق والخوف، وبعد عام ونصف العام تقريبا من سفره علمت الأم فى آخر مكالمة بينها وبين نجلها أنه أصيب فى إحدى الغارات، وبعدها انقطعت أخباره تماما لعدة أشهر، مضت عليها كل دقيقة منها كالدهر، فهى لا تعلم مدى إصابة وحيدها، ولا كيف يتلقى العلاج، ولا تفاصيل وضعه الصحى، ولا أى معلومات عنه، وفوجئت بوالده يتصل بها من السعودية، ليخبرها بالنبأ الحزين الذى طالما تسلل إلى قلبها منذ أن فارقها وحيدها، فأخبرها أن هناك شخصا من أصدقاء حسام، اتصل به وأخبره أن حسام توفى منذ عشرة أيام، وقام زملاؤه بدفنه، واكتفى ذلك الصديق بالقول: «احتسبوا حسام من الشهداء». كلمات بسيطة أنهت قصة حسام، ليسدل الستار على حياته بدون جثمان أو تفاصيل، ولم تستطع الأسرة حتى أن تعرف مقبرته أو تصلى عليه صلاة الجنازة. وبحسرة شديدة تقول الأم: «نعتقد أن هواتفنا تخضع لمراقبة الأجهزة الأمنية وهو ما كان يجعلنا نراعى توخى الحذر فى كل المكالمات تقريبا، وللأسف حتى خبر وفاته أعلنته بين أهلى وأسرتى فى سرية تامة خوفا من علم الجيران بحقيقة ما جرى لحسام، فكانوا يتربصون بى بنظراتهم للسؤال عنه، وكنت أحاول جاهدة إخفاء الحقيقة وأقول إنه سافر إلى والده فى السعودية، وكنت أعلم من داخلى أنهم غير مصدقين ما أقول، لكننى استمريت فى محاولة تغطية ما جرى، لذا شددت على أسرتى بعدم التحدث عما جرى عبر الهاتف». وتمضى الأم المكلومة تقول: «أسئلة الجيران ونظرات أعينهم تؤلمنى، ولوعة فراق نجلى تذبحنى، وكل ما أتمناه فقط هو أن يكون ابنى فى الجنة كما كان يحلم، فقد كان يحلم بالجنة والشهادة، وذهب لملاقاة ربه وهو فى عمر الزهور، وكنت دائما ما أسمع عن قصص وحكايات أصدقائه الذين سافروا بنفس الطريقة ولنفس الهدف، وكانوا يذهبون من حرب إلى أخرى، وعند انتهاء مهمتهم يتم التخلص منهم وتصفيتهم، لكننى لم أصدق تلك النهاية وكنت أحدث نفسى مؤكدة أن نجلى ووحيدى سيعود إلى أحضانى.. ولكن الأقدار أكدت عكس ذلك». قصة أخرى لا تقل حزنا عن قصة المهندس حسام، هى قصة عبد الرحمن إبراهيم، شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر، ومازال طالبا فى الصف الثانى الثانوى، يرويها لنا أخوه الأكبر محمد.. ويسرد محمد خيط القصة المؤلمة قائلا: «أخى كان دائم الاختلاط بأصدقائه فى المسجد والمدرسة ولا يعرف غيرهم، فهو مختلف كثيرا عن كل زملائه منذ أن كان صغيرا، هادئا لا يعرف سوى الحق وطريق الخير، كان يعتكف كل عام فى شهر رمضان فى المسجد، وكان دائما يهاجمنى عندما أفعل ما يغضب أبى وأمى ويقول لى إن رضاءهما من رضاء الله عز وجل، وكان أبى دائما يقارننى به ويقول إنه فخور به وأنه سعيد بتربيته، وكنا جميعا نراه شخصا لا يغالى أبدا حتى فى علاقته بالدين أو بالله، كنا نراه شخصا معتدلا يتقرب إلى الله بالصلاة وصلة الأرحام. ويمضى محمد قائلا: «فى الفترة الأخيرة، وقبل سفره بخمسة أو ستة شهور تقريبا كان يتحدث عن كراهيته ورفضه لما يحدث فى الدول العربية، سواء فى تونس أو فلسطين وأيضا سوريا، وما تلقاه الفتيات فى هذه البلاد من ذل وقهر واغتصاب – حسبما كان يقول- وبرغم أنه كان دائما عاف النفس عن النظر للفتيات أو ارتكاب المحرمات فإنه كان يتمنى أن يتزوج من أربع فتيات من هذه البلاد، لتخليصهن مما يعانينه من مشاكل". وتلمع عينا محمد قائلا: "فوجئنا به يعلن لنا أنه تلقى خطابا من إحدى الجمعيات الدينية التى يشاركها العمل الخيري، تدعوه لتكريمه فى مسابقة للقرآن الكريم فى تركيا، والحصول على جائزة بقيمة مادية تتجاوز خمسة آلاف جنيه.. وبعد أيام قليلة أخبرنا أنه انتهى من إجراءات استخراج جواز السفر، استعدادا للسفر لمدة أسبوع فقط، بصحبة أشخاص لا نعرفهم". وتبدأ ملامح المأساة تظهر على محمد قائلا: "بعد سفره انقطعت أخباره لمدة ثلاثة شهور كاملة، وذهبنا إلى المسجد الذى كان يصلى به لنستعلم عن أصدقائه ونتحسس أخباره، بعدما نهشتنا نار الخوف والقلق، فلم نجد من يدلنا على طريق له إلا أحد أصدقائه أجابنى بعد أن ألحت فى الاتصال به لأكثر من عشر مرات، وفى آخر مرة قلت له إن والدتنا مريضة لدرجة أنها تصارع الموت من قلقها على أخى الصغير، وأننى أشعر بأنه على علم بمكان أخى، فوجدته يقول لى سأحاول التوصل إلى الأصدقاء الذين سافروا معه ليتصل بكم، ولكن لا تتصل بى مرة أخرى، وطلب منى أن نلتقى فى المسجد عند صلاة المغرب فى اليوم التالى". ومضى محمد يقول: "بعدها جاءت المفاجأة، وإذا بى أجد أخى يتصل بأمى ويبكى. كانت كلماته عبر الهاتف بمثابة قنابل تنفجر على قلوبنا قبل آذاننا.. قال لنا إنه لا يعرف كيف يعود مرة أخرى إلى مصر، وأنهم كذبوا عليه". ويستطرد محمد قائلا: "كانت كلمات أخى تزلزلنا ولا نعرف ماذا نفعل. قال لنا إنه قد سمع نم يصفون أنفسهم بأنهم "المجاهدون" يتحدثون عن أن هذه الحياة لا فرار منها، ولا يعرف كيف يحصل على جواز سفره مرة أخرى.. وعندما صاح فيهم وبكى هددوه بالقتل". كلمات محمد جاءت كالصاعقة وهو يقول "كان هذا هو آخر اتصال لأخي.. ومنذ ذلك الوقت انقطعت أخباره تماما، ونحن متخوفون حتى من مجرد الحديث عنه حتى لا يؤذونه.. ولا نعرف ماذا نفعل ومن يمكن أن يساعدنا لإعادة أخى إلينا". تختلف الظروف والمسميات ولكن تبدو القصة متكررة مع شباب آخرين، ساقتهم الأقدار للوقوع فى براثن من استغلوهم وشحنوهم فى أتون حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، "الأهرام العربي" التقت أسرة عبدالله محمود، شاب فى العشرين من عمره، وطالب فى إحدى الجامعات الخاصة لا تختلف حكايته كثيرا عن الحكايات السابقة. تتحدث والدته قائلة: "سافر نجلى إلى تركيا بعدما أخبرنا أنه سيقضى بها فترة قصيرة بصحبة مجموعة من أصدقائه فى الشارع الذى نعيش فيه منذ أكثر من ستة أشهر، كان عبدالله معروفا بحسن الخلق وروعة الصوت فى تلاوة القرآن الكريم، وكان طويل الجسم عريض الكتفين، ويحرص على تقديم المساعدة للجيران، وكان هو نجلى الأكبر، وكان عطوفا ومحبا لشقيقيه علا وحمزة، وأكبر منهما بسبع سنوات، وكان حريصا على أن يحفظهما القرآن ويعلمهما مبادئ الصلاة، وحب الخير". وتمضى والدته تقول: "عندما جاءنى يستأذن للسفر لم أتردد.. فلم أشك فى سلوكه أبدا طوال عمره، وحتى لم أحاول التأكد من صدق سببه للسفر، ولكن للأسف كذب على هذه المرة فقال انه مسافر لفترة وسيعود بعد أسبوع، ولكن مضت الأيام والأسابيع والشهور، ونار الفراق تلتهمنى والخوف يقتلنى، واكتمل عام على غيابه ولم يرجع ولا نعرف عنه أى شىء، ولم تصلنى عنه أى أخبار.. وما يقتلنى أننى لا أعرف أصدقاءه الذين سافر معهم أو حتى من كان يصادقهم فى الشارع الذى نقطن فيه.. وباءت كل جهودى للوصول إلى طريق لتحسس أخباره بالفشل.. فكيف نصل إليه؟!" التجربة المريرة التى مرت بها والدة عبد الله لا تختلف إلا اختلافات بسيطة عن تجربة أخرى مرت بها السيدة أميمة محمد والتى تعانى أيضا غياب وحيدها، قائلة "لم أنجب غيره هو وأربع فتيات غيره، فهو سندى فى الحياة وكنت أعتمد عليه فى قضاء احتياجاتى وصرف معاشى، وكنا نعيش فقط فى المنزل بعد زواج إخوته الفتيات ووفاة والده". وتبدأ الأم سرد فصول رواية العذاب قائلة "منذ شهور جمع ابنى ملابسه وقال إنه سيسافر للبحث عن فرصة عمل فى البحرين، لكنه كان دائما يحكى لى عن أصدقاء له سافروا إلى سوريا لمشاركة السوريين حربهم حتى يحصلوا على حريتهم". وتمضى السيدة أميمة تقول: "فوجئت بعد سفره بشهرين بأنه يتصل بى ويقول لى: ادعيلى يا أمى.. وعندما عاتبته على عدم اتصاله بى منذ سفره قال إنه سافر ولن يعود مرة أخرى لأنه يبحث عن النصر لسوريا، وقال لى إن عودته لم تصبح بيده، وأنه لم يجد أى رفيق يشاركه البحث عن طريق للعودة إلى بلده". وتنهى الأم مأساتها قائلة "منذ عامين انقطعت أخباره واتصالاته.. ولا أعرف ماذا أفعل حتى يعود لى مرة أخرى، لكنى أحلم كل يوم بعودته رغم أن القلق والخوف على حياته يتزايدان يوما بعد يوم".