تقرير: إيمان عمر الفاروق أثار التقرير الأخير الذى أعلنته السلطات الفيدرالية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية عن نفقات وكالة الاستخبارات الأمريكية لعام 2014 والتى بلغت 68 مليار دولار، وهو تقريبا نفس المبلغ الذى أنفقته فى السنة السابقة، أثار لغطا كثيرا محليا وعالميا نظرا لكونه تقريرا مبتورا، أغفل –عمدا بالطبع- التفاصيل الخاصة بكيفية إنفاق هذه الأموال، وهو ما أعاد إلى سطح الأحداث الحديث عن الكشف المُدوى لتقرير العام الماضى والذى فضحه إدوارد سنودين ونشرت مقتطفات منه مختلف الجرائد العالمية، الأمر الذى دفع بأقطاب الساحة السياسية الأمريكية بمطالبة السلطات بمزيد من الشفافية والإعلان عن أوجه الإنفاق بمجال الاستخبارات فيما بات يُعرف إعلاميا «بالقائمة السوداء» دونما إخلال بمعايير الأمن القومى . وقد طالب كل من النائب الأمريكى بيتر ولش عن ولاية فيرمونت والنائبة سينيثا أر بمقال مطول بموقع "سى. إن. إن "ألإخبارى بمزيد من الشفافية فيما يخص ميزانية وكالة الاستخبارات الأمريكية، ومضى التقرير يشرح وجهه نظريهما كالتالي" تخيل للحظة أنه بدلا من وزارة الزراعة الأمريكية، كانت هناك16 وكالة اتحادية مسئولة عن إدارة برنامج الغذاء وتخيل أيضا أن كل من هذه الهيئات لديها موارد من دافعى الضرائب دون رادع ولا رقابة العامة. لا دافعى الضرائب ولا أى شخص فى الكونجرس له أن يقف على أوجه صرفها، هذا هو ما يحدث بالضبط مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وفى أغسطس من العام الماضي، تسربت الوثائق التى أعطت معظم دافعى الضرائب والمشرعين أول لمحة حقيقية عن كمية الأموال التى تنفق على أنشطة المخابرات الأمريكية ، ولعل من أهم الأمور التى عرفناها أنه علب مدى السنوات العشر الماضية تضخمت ميزانية وكالة الاستخبارات المركزية بنسبة56 % وقفزت ميزانية وكالة الأمن القومى بنسبة 54 % . وباستثناء ما كشفه سنودين تبقى تلك الأبواب سرية خلف الأبواب المغلقة، والأمر الآن بيد الكونغرس الذى يجب أن يتحرك باتجاه إقرار التشريعات التى من شأنها فرض الرقابة التى طالما طال انتظارها على بنود صرف موازنة وكالة الاستخبارات الأمريكية ولدينا بالفعل مشروع قانون يطالب بالشفافية فى هذا الصدد يطالب الرئيس بالكشف عن تلك البنود بميزانيته السنوية وذلك مع التأكيد على أننا لا نقترح الكشف عن تفاصيل برنامج المخابرات، أو المصادر والأساليب التى يعتمد عليها بالطبع، لأن ذلك من شأنه تهديد الأمن القومى الأمريكى وسلامة أفراد المخابرات ولكننا ببساطة نطالب بالإعلان عن إجمالى ميزانية المخابرات المركزية . وتُجدر الإشارة إلى أن لى هاملتون- نائب رئيس لجنة 11 سبتمبر والرئيس السابق للجنة الاستخبارات بمجلس النواب - والذى يحظى باحترام واسع النطاق بالدوائر السياسية الأمريكية، قد أوصى بذلك وصرح "للواشنطن بوست" قائلا"يجب أن يضطلع الكونجرس بدور أكثر فاعلية بممارسة الرقابة والمساءلة والمطالبة بالكشف العلنى لأرقام ميزانية جميع وكالات الاستخبارات لدينا فمن حق دافع الضرائب أن يعرف أين وكيف تنفق أمواله". وفى كلمة له أثناء إجراءات اعتماد موازنة عام 2014 قال مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية السيد جيمس كلابير "إن جهود مكافحة الإرهاب سوف تتركز بالأساس بعدة بؤر تتصدرها اليمن، الصومال، منطقة القرن الإفريقى وليبيا ". وأضاف قائلا: "إن الوكالة سوف تحصل إمدادات مالية إضافية ودعما ضخما لعملياتها الخارجية ". الإنفاق المتوحش وأشارت"النيويورك تايمز" فى تقرير خطير لها عن أن التقديرات المُعلنة لا تعكس حجم الإنفاق الفعلى الذى ربما يتجاوزه بمراحل، ونقلت الجريدة عن الكاتب الأمريكى المتخصص بشئون الأمن القومى السيد جيفرى ريتشليسون قوله: "إن التقرير الذى تم تسريبه والمكون من 178 صفحة عن إنفاق 16 وكالة بقوة عمل تضم 107، 000 موظف وخبير، فضلا عن نحو 21، 800 متعاقد . هذا التقرير لا يعكس حجم الإنفاق الحقيقى والعمالة الفعلية التابعة لوكالة المخابرات المركزية من المتعاقدين الذين يتجاوز عددهم عشرات الآلاف وربما يفوق حجم العمالة الرسمية بالوكالة ". والأخطر من وجهة نظر السيد ريشيلسون أن الخداع لا يقف عند حدود الهيكل الوظيفى لأجهزة المخابرات الأمريكية، لكنه يتعداه إلى الكشوف المالية التى تسقط بالطبع من بياناتها الرسمية الدعم الذى تتلقاه من شخصيات عسكرية تقوم بأعمال التجسس لحساب وكالة الاستخبارات الأمريكية تحت مسمى "العمل التطوعي". وتاريخيا حرصت الإدارات الأمريكية المتعاقبة من كلا الحزبين-الديمقراطى والجمهوري- على حد سواء على إبقاء البيانات الخاصة بالإنفاق فى مجال الاستخبارات طى الكتمان ، وذلك استنادا إلى أن الإعلان عنها من شأنه أن يُعرض أمن الولاياتالمتحدةالأمريكية لمخاطر جمة .ومثل عام 2007 نقطة تحول فارقة، حيث شهد السابقة الأولى من نوعها بإعلان مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية عن حجم الإنفاق السنوى لها، وتبين وقتها أن ثمة اعتمادا مالياً إضافياً يٌقدر بنحو 23 بليون دولار يتم إنفاقها سنويا للاستخبارات العسكرية. وطبقا لتقديرات الخبراء العسكريين أنفقت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 11 سبتمبر ما يوازى 500 مليار دولار فى مجال الأمن القومى . وبرغم الإنفاق "المتوحش"بمجال الاستخبارات - على حد تعبير ستيف أفتييرجوود، عضو إتحاد علماء أمريكا- فإنه عجز عن سد الثغرة بجدار المعلومات، فثمة فجوة معلوماتية هائلة تعانى منها الولاياتالمتحدةالأمريكية فحكومات الصين، روسيا وإيران من الصعب جدا اختراقها، وتظل كوريا الشمالية الأصعب على الإطلاق. وأشار إلى أنه من الأمور الجديرة بالاهتمام ما كشفه سنودين عن حجم الإنفاق على برنامج القاذفات الجوية والذى بلغ 2، 5مليار دولار عام 2013. شبح سنودين ومن المفارقات أن الإعلان عن التقرير الأخير من قِبل السلطات الفيدرالية تزامن مع ظهور شبح سنودين الذى يعتبره البعض بطلا وخائنا فى عيون وذلك من خلال فيلم بعنوان "سيتزين فور" تم عرضه بمهرجان نيويورك السينمائى الأسبوع الماضى، وكشف عن أن صديقته لينزى ليز تعيش معه بروسيا. وقد قامت الشرطة الأمريكية بمداهمة المنزل الذى كانت تقيم به لينز لعلها تجد ما يفيد فى معرفة ما إذا كان لهما شركاء آخرين من عدمه . وتجدر الإشارة غلى أنه فى يوم 21 يونيو 2013 وجه له القضاء الأمريكى رسميا تهمة التجسس وسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطنى دون إذن والنقل المتعمد لمعلومات مخابرات سرية لشخص غير مسموح له بالاطلاع عليها. يوم 23 يونيو 2013، قالت حكومة هونج كونج إن سنودين غادر "دون إكراه لبلد ثالث ملتزمًا بالطرق الشرعية والطبيعية"، وذلك بعد يوم واحد من تقديم الولاياتالمتحدة طلب إلى حكومة هونج كونج لتسليمه بسرعة. فى حديث لصحيفة الجارديان البريطانية قال سنودين إنه اختار هونج كونج وجهة أولى لأنها توفر "إطارًا ملائمًا ثقافيًا وقانونيًا للسماح لى بالعمل دون الخضوع لاعتقال فوري". وأعلنت أمريكا أنها ألغت جواز سفر سنودين. أكد سنودين أنه سلم كل الوثائق التى كانت بحوزته إلى صحفيين عندما كان فى هونج كونج، قبل أن يتوجه إلى روسيا. وأنه تمكن من حماية الوثائق من المخابرات الصينية بفضل خبرة اكتسبها عنهم أثناء عمله فى وكالة الأمن القومي. يعتبر سنودين هارباً من العدالة أمام السلطات الأمريكية التى تتهمه بالتجسس وسرقة ممتلكات حكومية. فى بداية عام 2014، دعت عدة كيانات إعلامية وسياسيين إلى التسامح مع سنودين فى صورة عفو عام، فى حين طالب آخرون إلى سجنه أو قتله. يعيش سنودين فى مكان غير معلوم بروسيا، وطبقاً للسياسى الألمانى هانز كريستيان ما زال يحاول الحصول على لجوء سياسى دائم فى دولة مثل ألمانيا أو فرنسا. التحق سنودين بالجيش الأميركى عام 2003 وخاض برنامجا تدريبيا للالتحاق بالقوات الخاصة، وقال إنه كان ينوى المشاركة فى القتال بالعراق، "لأننى شعرت بمسئوليتى الإنسانية التى حتمت على مساعدة تحرير الناس من العيش تحت الاضطهاد". وأضاف أن "معظم المدربين فى البرنامج كانوا متحمسين لقتل العرب وليس لتحرير أى منهم"، لكن تم تسريحه من البرنامج عندما كُسرت كلتا رجليه خلال التدريب. حصل سنودين على أول وظيفة له فى مكتب وكالة الأمن القومى، وعمل فى البداية حارس أمن لإحدى المنشآت التابعة للوكالة فى جامعة ماريلاند، ومن هذه الوظيفة انتقل للعمل فى وكالة الاستخبارات المركزية فى قسم الأمن الإلكترونى، وبمعرفته الموسعة بالإنترنت وببرمجة الكمبيوتر تمكن من التقدم بسرعة فى وظيفته بالنسبة لشخص لم يحصل على شهادة ثانوية. وانتقل سنودين بعدها للعمل مع بعثة دبلوماسية فى مدينة جنيف السويسرية، حيث تولى مسئولية الحفاظ على أمن شبكة الكمبيوتر، مما أتاح له الوصول إلى مجموعة كبيرة من الوثائق السرية. ومع الكم الهائل من المعلومات التى وصل إليها بدأ سنودين بالتفكير بعد ثلاثة أعوام بمدى صحة ما يقوم به وما رآه، وفكر فى الكشف عن أسرار الحكومة حينها. لكنه توقف لأمرين، أولهما أنه لم يرد أن يكشف معلومات عن أشخاص ممن كانت الاستخبارات تراقبهم، ولم يرد أن يورطهم بالموضوع، والثانى بأن فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية عام 2008 منحه الأمل فى تحقيق إصلاحات فى المستقبل. غادر سنودين وكالة الاستخبارات عام 2009، ليعمل كمتعاقد مع وكالة الأمن القومى فى قاعدة عسكرية باليابان، وخلال الأعوام الثلاثة التى تلتها أدرك سنودين بأنها كانت مسألة وقت قبل أن يعمد إلى كشف كل شيء. فى مايو 2013 تقدم سنودين بطلب إجازة من عمله بزعم أنه بحاجة لعلاج من مرض الصرع، وفى العشرين من الشهر نفسه هرب سنودين الذى يواجه اتهامات بالتجسس فى بلاده من أمريكا إلى هونج كونج بعدما سرب تفاصيل برامج المراقبة السرية لصحيفتى الجارديان البريطانية وواشنطن بوست الأمريكية، ثم سافر بعدها إلى موسكو. أشار الشاب إلى أنه كان يعمل براتب جيد يصل إلى مائتى ألف دولار سنوياً، وكان لديه منزله الخاص فى جزيرة هاواى الأمريكية، ولكنه مستعد للتضحية بكل ما يملك لأن هذا التجسس يشكل تهديداً حقيقياً للديمقراطية التى ينادى بها ، وعند سؤاله عما إذا كان خائفاً، قال "أنا لا أخاف من شيء لأن هذا كان قراري"، ولكنه يخاف "أن تتعرض عائلتى للأذى". غادر سنودين هاواى إلى هونج كونج فى 20 مايو 2013 وسافر منها إلى موسكو يوم الأحد فى 23 يونيو 2013 على إثر قيام سلطات هونج كونج بدراسة طلب تسليمه إلى أمريكا. وصل سنودين إلى روسيا فى 23 من يونيو وهبط فى مطار شيريمتيفو الدولى . فى 24 يونيو 2013 طلبت أمريكا من روسيا تسليم سنودين، وقالت الأخيرة إنها مجرد محطة ترانزيت فى رحلة هروبه.