⢴حوار – عزمى عبد الوهاب يظل الشاعر محمد عيد إبراهيم هو الأكثر إنجازا بين أبناء جيله (السبعينيات) فقد قدم للمكتبة العربية ما يزيد على 60 كتابا ما بين مجموعات شعرية وترجمات فى مختلف حقول الإبداع، وأغلبها لكتاب كبار، تسد ترجمته لهم فراغا فى المكتبة العربية، وكان عيد إبراهيم أحد أعضاء جماعة "أصوات" الشعرية التى تأسست ردا على تضييق المؤسسة الثقافية الرسمية، على أجيال الشباب أيام حكم الرئيس السادات..أصدر "عيد إبراهيم" حوالى 11 ديوانا منها "طور الوحشة - فحم التماثيل – على تراب المحنة – مخلب فى فراشة – خضراء الله – بكاء بكعب خشن" وترجم إلى العربية: "قصائد حب لآن سكستون – رسائل عيد الميلاد لتيد هيوز – جاز لتونى موريسون – فالس الوداع لكونديرا – جنوب الحدود غرب الشمس لهاروكى موراكامي"..هنا حوار مع "محمد عيد إبراهيم" فإلى التفاصيل. فى نهاية سبعينيات القرن الماضى قمت بتأسيس جماعة "أصوات" الشعرية مع آخرين كيف تنظر إلى هذه التجربة الآن؟ كان النشر فى أيام السادات صعبا، فقد أغلق كل المنافذ، فاجتمعت كل مجموعة فى مكان، وكان بينهم حد أدنى من التوافقات الجمالية، وبدأوا التفكير فى النشر معاً بوسائل تكافلية، وأظنها مسألة صحيحة دائماً أيام القهر السياسي، لكن مع انفراج الأزمة سار كل منا فى درب يخصه، يكتب ويحقق نفسه بالطريقة التى يريد، وأظن مسألة الاستشهاد بالجيل الآن مضحكة، فبعد أن بلغ كل منا الستين وزيادة، يجب النظر إلى تجربة كل منا على حدة. هل كانت هناك تمايزات بين شعراء "أصوات وجماعة "إضاءة 77"؟ التمايزات الجمالية كانت أقل من التمايزات الشخصية، كانت "إضاءة" تقترب من التعامل الطبيعى مع منافذ الثقافة، وكنا أقرب إلى حالة التمرد، كان منهم كلاسيكيون ومتمردون، وكان منا الأقرب للكلاسيكية والمتمرد، لكن أظن بعد مرور هذه السنين، يجب إزالة كل هذه الفروق والكلام عن كل شخص على حدة، فما الرابط الجمالى الكبير مثلا بين حسن طلب وحلمى سالم أو جمال القصاص وغيرهم، وما الرابط الجمالى الكبير بينى وبين محمد سليمان أو عبد المقصود عبد الكريم، ربما الأقرب منى جمالياً هو عبد المنعم رمضان، لكنه يكتب تفعيلة وأنا قصيدة نثر، أرأيت أنه لا بد أن ننظر إلى كل منا على حدة، فقد أنجزنا جميعاً عشرات الدواوين، من دون منجز نقدى كبير يتابع هذه التجارب ويمحصها. فى رأيك لماذا فشل أبناء الأجيال التالية فى العمل الثقافى الجماعى؟ لأنه لم تعد له ضرورة كبيرة، فمنافذ النشر مباحة والحركة يسيرة، أظن الظرف السياسى القاتل أيام السادات هو الذى أجبرنا على البعد عن المؤسسة الرسمية والعمل على تكوين جماعات غير رسمية تسعى لتكوين كياناتها الخاصة، دعما لما يمارسونه من تمرد جمالى فى نصوصهم. كيف ترى المقولات النظرية التى أطلقها أبناء جيلك مثل تفجير اللغة وغيرها؟ الذى أطلقها فى الأصل أدونيس، نقلا عن مفكرين فرنسيين سورياليين، ووجدت صدى لدينا، حيث كنا نريد (قتل الأب) بالمعنى الثقافي، أى محاولة البحث عن شخصية جديدة للشعر المصري، بعيداً عن شكله الذى صار مألوفاً، وكنا الأكثر تمرداً على السلطة من جماعة "إضاءة" لكن تلك أيام وانقضت، وعلينا النظر كما قلت إلى منجز كل شاعر على حدة. منذ البداية كنت أكثر أبناء جيلك تجريبا، بعد هذه الرحلة الشعرية الطويلة هل تحررت من تصوراتك القديمة عن الشعر؟ كنت ولا أزال، لكن تجريبى صار مختلفاً الآن، كلما تكبر فى العمر يصفو خيالك وتصبح النيران أهدأ وتكتب بطريقة مختلفة، من دون حشو أو زوائد، تحاول الوصول إلى الشعرية من أقصر الطرق، وقد أفادنى شخصياً معاقرة الثقافات الأخرى، عن طريق القراءة والترجمة، فانفتحت سبل كثيرة أمامي، وتحررت من قيود كثيرة كانت تعيق قصائدى القديمة، لكن فى النهاية لكل شاعر عمود فقرى واحد، يتغير شكله فقط مع الزمن. هل يمكن أن يتوقف التجريب عند محطة معينة لديك؟ حين تظن أنك قد وصلت إلى الكمال تموت شعرياً، سأظل أجرب حتى السطر الأخير فى حياتي، لا شاعر بدون تجربة، ولا تجربة بدون تجريب، وكلما تكتشف درباً جديداً إلى غابة الشعر تفرح، لكن عليك بالسير قُدماً، فقد تكتشف درباً أفضل وأيسر. كيف ترى تعاطى النقد مع منجزك الشعرى؟ النقد فى مصر ظاهرة شللية سيئة وعلاقات عامة فى كثير من الأحيان، هل يُعقل أن ينزل ديوان مثلا لشاعر منا أو من غيرنا ولا تجد إلا مجموعة أخبار صحفية بسيطة لا تغنى ولا تسمن من جوع، لدينا مشكلة فعلية فى النقد الأدبي، خصوصا أن النقاد ليست لديهم معرفة كبيرة بأسس ومواصفات وجماليات قصيدة النثر التى اختصرت كثيراً من الفنون فيها، فيقومون بحكاية القصيدة وسردها، كما يقومون بحكاية الرواية أو القصة، من دون استخراج رؤية للعمل أو انتقاده أو حتى دحضه، من هنا شيوع ظواهر شعرية غير متقنة أو (وصفة) أدبية لكتابة القصيدة، وهو عملية قتل إجرامية لروح الإبداع المنطلقة دائما نحو المجهول. قضيت فترة طويلة من العمر فى الإمارات كيف ترى المشهد الأدبى هناك؟ هناك مجموعة من الأدباء الممتازين، شعراً ورواية، لكن أيضاً هناك العرب الذين ينفخون فيهم لأسباب مادية، فلا يعرفون قدرهم الحقيقى من مسيرة الإبداع العربي، لكن هناك تجارب جمالية لدى البعض منهم تستحق الإشادة والتقدير. كيف تقيم مشروع "كلمة"؟ مثله مثل المركز القومى للترجمة، يتسع فى كثير من المجالات من دون برنامج واضح، فهناك كلاسيكيات ونظريات وإبداعات كثيرة لم يعرف العرب شكلها بعد، ويجب على الاثنين التركيز على المنجز الثقافى الجديد حتى نستطيع التقدم أكثر، لكن طبعاً نسدى لهم الشكر، فحركة الترجمة العربية بمجملها ضعيفة، لا تقترب من منجز دار نشر واحدة فى السنة، مثل جاليمار الفرنسية مثلا، وأظن أن المؤسسة التى تمضى على طريق سليم هى المنظمة العربية للترجمة فى بيروت، فلها مسار واضح محكم ومحدد يضطرد من كتاب إلى آخر، ومن فرع معرفى إلى آخر. هل أفادك هذا الغياب فى أن ترى الساحة الأدبية فى مصر على نحو مختلف؟ لم يكن غياباً، كنت أكتب وأترجم، وأصدرت ما يزيد على أربعين كتاباً وأنا فى الخارج، ما بين دواوين وترجمات، لكن هذا (الغياب) جعلنى أرى المشهد بصورة أفضل، فكلما قربت شيئاً من عينيك أكثر لا تراه، وحين تبعده تراه أفضل، لكنى عموما إنسان مثابر، لو قضيت عمرى فى الصين لكتبت ما أريد وترجمت ما أريد، فلديّ مشروع جمالى أسعى لتحقيقه من كتاب لآخر، من ديوان لآخر، من ترجمة لأخرى. كيف تتعامل مع اللغة من خلال تجربتك الشعرية؟ اللغة هى الثقافة بشكل عام، لا أعرف كيف أفصلها عن قراءاتى وإبداعاتى وترجماتي، لكنى من الجيل القديم نسبياً الذى كان لا يزال يرى فى اللغة جماليات ينبغى البحث عنها، حيث قلّ ويكاد ينقرض لدى الجيل الجديد، ويمكن ردّ المسألة إلى ضعف التعليم واكتفاء المبدع بالقراءة فى مجاله فقط، وهى نقيصة، على المبدع أن يلمّ بطرف من هنا وهناك، ويركّز على ما يراه أهم فى مسيرته الثقافية، لكن لا يهمل الفلسفة مثلا أو النقد الحديث أو حتى الاطلاع على القاموس من وقت لآخر. ترى أن الشاعر عليه أن يقرأ أكثر مما يكتب ما الكتب التى شكلت وجدانك الثقافى وكان لها تأثيرات عميقة عليك؟ هناك الكثير، أظن قراءة القرآن والشعر الجاهليّ أهم شيء فى البداية، حتى تكون حصيلة معرفية فى الكلمات والنحو والصرف والترقيم وتكوين الجملة وعلاقات البلاغة العربية بعضها ببعض، ثم قراءة الكلاسيكيات، وقراءة الإبداع مع النقد والفلسفة، كلّ شيء سيفيد النصّ عليك به، ومن ينقطع عن قراءة الجديد فيها سيضر نصه كثيراً، إذ سيمتلئ بما يسمى (الوصفة) ويكتب حسب ما يكتب الآخرون، فيصبح صورة ساذجة لا تضيف شيئاً، على المبدع أن ينحو يساراً إلى طريق مختلفة دائماً. ما الذى يحكم اختياراتك فى ترجمة هذا الكتاب دون غيره؟ أحاول أن أقترب من الغامض وغير المألوف، الحداثى وما بعد الحداثي، الأجيال الشعرية فى العالم، الكتابات المختلفة عن السائد، حتى أكوّن خلفية معرفية لما أكتبه، فالناس تتصور أن الإبداع كله بسيط وساذج، لكن هناك دائماً فى تاريخ الإنسانية من يكتب بطريقة معقدة أو مركّبة أو غامضة، ومن يكتب ببساطة، ولا فضل لأحدهما عن الآخر، فهذه حرية الإبداع، لكن أن تقصر نفسك على سكّة واحدة، فهى كمن يضع رجله فى حذاء حديدى حتى لا تكبر. عندما كنت رئيسا لتحرير سلسلة "آفاق الترجمة" أصدرت ترجمة عراقية مختصرة لكتاب "سوزان برنار" عن قصيدة النثر ثم أعيدت ترجمته كاملا هل كانت هناك ضرورة لتلك الترجمة الجديدة؟ لم يكن كتاب سوزان برنار معروفاً عربياً إلا من خلال شذرات هنا وهناك، ولم أكن أعرف أن راوية صادق ورفعت سلام يترجمانه، فوصلت لى ترجمة فصول منه، فأسرعت بنشرها فى سلسلة (آفاق الترجمة) لإفادة القارئ. ترجمت حديثا "مقدمة لقصيدة النثر" ما أهمية هذا الكتاب فى سياق ما يكتب من قصيدة نثر فى الفضاءات العربية؟ يستعرض الكتاب أنماط قصيدة النثر الشائعة فى العالم اليوم، ويقدم نماذج شافية وافية لها، فهناك قصيدة الحكاية وقصيدة الأسطورة وقصيدة الومضة وقصيدة الموضوع الواحد وقصيدة الشكل المسرحى والشكل القصصي، فقصيدة النثر اليوم تكاد أن تهضم كلّ أشكال الإبداع فيها، فهى إطار حر واسع لكلّ ما يمكن كتابته، لكن فى إطار معرفي، حيث لا تجد شاعراً فى الكتاب إلا وفى ظهره خلفية معرفية كبيرة، وهو ما ينقصنا اليوم فى عالمنا العربى بشكل عام. أنت منشغل حاليا بترجمة الشاعر "جورج باتاى" لماذا؟ جورج باتاى من أكبر المتمردين فى ثقافات العالم، ولا يعرف العرب ترجمات له إلا قليلاً حتى الآن، بضعة كتب، وأظن ترجمته واجب ضرورى للثقافة العربية، حيث سترى مقولات له كثيرة قد استهلها نقاد وشعراء من دون إشارة للمصدر، كما أنه يحيى الروح بنصوصه الإبداعية البليغة إضافة إلى نصوصه الفلسفية التى تعمل على شقّ قشرة العالم الثقافية برؤية أخّاذة لم يكتب بها أحد قبله، وهو الآن أساس كلّ معرفة حداثية فى العالم. ما الذى يفقده الشعر حين يترجم إلى لغة أخرى؟ الترجمة هى نقل النص من سياق معرفى وثقافى وحضارى مختلف إلى لغة جديدة، وهنا يقع العاتق على المترجم وتأويله للنص، وإتقانه للغة التى يترجم إليها، فمن لا يملك لغة أنيقة يصبح النصّ المترجَم وكأنه غثاثة أو بساطة مخلّة لم يقصدها المؤلف الأصلى طبعاً، لكن كثرة التأويلات ليست ضارة، لكلّ مترجم جهده ونصيبه، وأرى أن الأفضل هو من يريك النصّ كأنه مكتوب بالعربية فى الترجمة، أى أنه نجح فى نقل السياق المعرفى الأجنبى إلى السياق المعرفى العربى.