عرفه عبده على لقد عاش يهود مصر عملية التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي – بكل تداعياتها – عقب ثورة يوليو، وشعروا أنهم ضحايا الأوضاع السياسية، خصوصا أن الصهيونية كما كتب «جودرون كرامر والفريد مورابيا» كانت «بمطالبها القومية التي لا تختلف كثيراً عن القومية العربية تعيد النظر في اندماج اليهود العرب في أوطانهم أو في البلد المضيف» !.. فقد ساويا بكل بساطة بين القومية اليهودية والقومية العربية ! .. فالصهيونية تقدم نفسها بأنها «الحركة القومية للشعب اليهودي » .. على الرغم من أنهم مازالوا منقسمين حول تعريف : من هو اليهودي ؟! إن مثل هذه الآراء تكشف عن هوى هؤلاء المؤرخين اليهود، كما تكشف عن خدمتهم لأهداف سياسة صهيونية، وتأكيدهم أن "هدفهم الوحيد هو إعادة امتلاكهم للتاريخ" والمقصود "توظيفهم للتاريخ سياسياً" ليس هذا فحسب بل أيضاً الأدب والفن ، ولعل " آدا أهاروني" خير مثال، و التي ولدت وتربت في القاهرة ثم هاجرت إلي إسرائيل، حيث أدركتها حرفة الأدب ! .. والتي توصف أيضاً ب «شاعرة السلام» !.. ففي روايتها «الخروج الثاني» Ada Aharoni: the second exodus,Dorrance,U.S.A 1983 والتي تدور أحداثها وسط حركة شبابية صهيونية مصرية، كتبت التاريخ من وجهة نظرها – الصهيونية – مغلفاً في قالب روائي !.. وقائع مفبركة وسؤالها المكرر «ماذا نفعل في بلد ليس بلدنا» ! .. وتصورات مغلوطة، حتى عندما أشارت إلي أن عائلتها عاشت خمسة عشر جيلاً في مصر ومع ذلك لم تستطع أن تحصل على الجنسية المصرية " لأنها يهودية " ! .. أو عندما زارت الأهرامات مع أصدقائها، حيث انطلق الجميع في الرقص والغناء بالعبرية "من أجل العودة إلي الأرض الجميلة "، وقولها لصديقها " راؤول " وهي تشير إلي الأهرامات متسائلة كأنما تحاول أن تؤكد ما يدور في ذهنها من ترهات:"وهل بنى أجدادنا هذا كله ؟ لابد أنهم كانوا أقوياء جداً " !! .. وبالطبع لم يشيد أجدادها الأهرامات، ولا كانوا أقوياء جداً! .. ولكنها الأوهام التاريخية التي تتردد كثيراً في كتابات المؤرخين والأدباء الإسرائيليين، وكما رددها الإرهابي «بيجين» للسادات ! .. وتجدر الإشارة إلي أن « آدا أهاروني » عقب بدء المفاوضات بين إسرائيل والحكومة المصرية، انتهزت الفرصة لمعاودة ربط نفسها بموطنها الأصلي – مصر – و أرسلت قصيدة بعنوان «من حيفا إلي القاهرة» إلي السيدة جيهان السادات ! وفى "الخروج الثانى" كتبت آدا أهارونى:"لقد كان الشعب المصرى كريماً معنا، ولكنى لا أريد أن أكون ضيفاً فى أرض غريبة بعد الآن !.. لقد حان الوقت لنشكرهم على حفاوتهم والبدء بالتفكير فى وطننا الحقيقى"! وتأكيد آدا أهارونى على "النموذج الصهيونى الرسمى للتاريخ اليهودى" من خلال إصرارها على أن "الصهيونية لم يتم جلبها إلى مصر .. لقد كانت هناك" .. (هاتسيونت لويوفالى مينزايم ، ص 20) .. أيضاً تأكيد دافيد هاريل "على القوة الصهيونية الكامنة فى الطائفة اليهودية المصرية" وشعوره بالغربة فى مصر منذ أن كان عمره عشر سنوات وتفكيره فى كيفية الذهاب إلى إسرائيل (هاشومر هاتزا ئيربى ميتسرايم ، ص 44 48) . كنت أود أن يحدثنا المؤرخون الإسرائيليون عن اليهود المصريين الذين رحلوا إلي "الدولة اليهودية" .. فلم نسمع عن أحد منهم واصل صعوده في عالم المال والاقتصاد والسياسة والشهرة مثلما تحقق لهم في مصر وجعلهم صفوة المجتمع المصري، لم يكن لأحد منهم شأن في قيادة المجتمع الإسرائيلي وفقدوا بريق النفوذ السياسي والاقتصادي، وهم الذين كانوا طبقاً لوصف حاييم كوهين «أغنى الطوائف اليهودية في الشرق الأوسط وأكثرها استقراراً» ! .. هربوا بأموالهم إلي هناك وعاشوا بلا قيمة: كأنهم عبيد للسادة من يهود أوروبا وأمريكا! ويكثر المؤرخون الإسرائيليون الذين يكتبون مذكرات وتقارير عن حياة الطائفة فى مصر من استخدام عبارات مثل : «لقد استدعى الأمر خروج اليهود من مصر للمرة الثانية فى التاريخ»! .. والقدر «الذى رسم فى مجرى التاريخ حتمية الرحيل» !.. ومثلما كتب شارل نواوى:"إلا أن المفارقة بالنسبة ليهود مصر أن أسس تلك اليهودية، وجذور جزء من هويتهم يقع عند حدود الفضيحة فهؤلاء اليهود الذين قضوا حياتهم وتاريخهم فى مصر وأثروا وتأثروا بها، لم يصبحوا يهوداً إلا لأن أجدادهم كانوا عبيداً فيها منذ عشرات القرون وخرجوا منها" !.. (تاريخ يهود النيل، ص 227) . فما زال المؤرخون الإسرائيليون يعزفون نغمة "العبيد" و "الاضطهاد" فى مصر القديمة، وفى مصر الحديثة .. وإنى لأتساءل: كيف لطائفة "مضطهدة" و "كانوا عبيداً" أن يصنعوا حضارة، بل واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية، بالادعاء أنهم "بناة الأهرامات" !.. وكيف لهذه الطائفة "المضطهدة" أن تصنع حضارة مصر الحديثة .. كيف لضحايا "الاضطهاد المعادى للسامية" أن يحققوا الصعود السياسى والاقتصادى والاجتماعى مثلما تحقق لهم فى مصر الملكية ؟!.. فالموقف الرسمى والشعبى المتسامح، كان مشجعاً لهم على الانطلاق والازدهار فى جميع المجالات، لكن من الواضح أنهم يعانون من "تعثر الذاكرة" ! ولنتأمل كيف يكتب التاريخ من وجهة النظر الإسرائيلية: فالشعبان المصري والإسرائيلي "هما الوحيدان في العالم اللذان كانت تربطهما علاقات تاريخية وحضارية وإنسانية منذ آلاف السنين " !.. (نشرات مركز الإعلام الاسرائيلى بالقدس والمركز الأكاديمى الإسرائيلى بالقاهرة) محاولات مكشوفة لاختلاق جذور حضارية لما يسمى ب "الشعب الإسرائيلي"، ولنتأمل أيضاً ما كتبته "إجلال عريرا المولودة بالإسكندرية، في صورة مهتزة وخيالية عن الخطب الرسمية لرئيس الدولة – في عهد عبد الناصر – حيث "يقوم طلبة التاريخ باستذكارها واستعادتها بكل ورع وتقوى، ويتم كل صباح غناؤها مع تحية العلم المصري وذلك في جميع مدارس البلاد، كما يجري أيضاً ترتيلها في الجوامع كل جمعة ظهراً مع الصلاة الأسبوعية الكبيرة " !! .. (تاريخ يهود النيل ، ص 116) هكذا يكتبون التاريخ .. وهل كانت خطب – رئيس الدولة – ترتل في الجوامع وكأنها قرآن يتلي. وكان الأجدر بمثل هؤلاء المؤرخين الصهاينة ومنهم: جاك حسون، إميل جابى، ليفانا مزراحى، اجلال عريرا، إيفيت شماس، ويعقوب لانداو ... وغيرهم، أن يكتبوا ويؤرخوا بأمانة عن "العصر الذهبي" للطائفة اليهودية المصرية منذ عصر محمد علي باشا وحتى نهاية الملكية، وعن سلوكيات التسامح والحميمية التي تعد موروثاً مصرياً خالصاً، وكيف كان يهود مصر جزءاً متفاعلاً في نسيج المجتمع المصري حتى توالت حالات الرحيل النهائي بإشراف "الوكالة اليهودية" بينما ظلت أغطية الرؤوس وكتب الصلوات مكدسة في بدرومات المعابد المغلقة. وفي أكتوبر عام 2007 احتفلت الطائفة اليهودية في معبد "شاعار هاشمايم – بوابة السماء " بشارع عدلي، بمناسبة مرور مائة عام على تشييده، حضره أربعون يهودياً معظمهم عاشوا في مصر وعادوا للاحتفال، ومن المعروف أن الصلاة معطلة في المعابد اليهودية "لعدم وجود رجال " وتقدمت الاحتفال رئيس الطائفة الراحلة "كارمن وينشتاين " 74 عاماً ، والتي تولت الرئاسة خلفاً لوالدتها " إستر وينشتاين" التي توفيت عام 2004 وتحدثت "ماجدة هارون " الرئيس الحالى لمجلس الطائفة والتي لم تغادر مصر إلي إسرائيل لأسباب – أيديولوجية – كونها تتحدر من عائلة شيوعية مفضلة الانتظار حتى قيام دولة فلسطينية، وقالت:" إننا بالفعل 40 شخصاً إلا أن وراءنا تاريخاً عريقاً من فضلكم لا تجعلوه يموت " وعبرت عن مخاوفها حول مستقبل الطائفة ، متسائلة عما إذا كانت كارمن ستكون آخر رئيس للطائفة. وتجدر الإشارة إلي أن "جمعية الصداقة المصرية – الإسرائيلية " تمارس نشاطاً غير معلن، وترأسها " ليفانا زامير " وأشرفت الجمعية على عقد المؤتمر الدولي ليهود من مصر، بفندق الماريوت والمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة ، في الفترة من 25 إلي 29 مايو وتوقيت المؤتمر واكب الاحتفالات بالذكرى الستين لتأسيس الدولة اليهودية، بحضور السفير الإسرائيلي وممثلو "منظمة يهود مصر" في الولاياتالمتحدة وفرنسا وإنجلترا والنمسا وكندا والبرازيل، وعدد من الشخصيات الإسرائيلية وممثلون عن «جمعية الحفاظ على التراث الثقافى ليهود مصر» بباريس ، و الأديبة الصهيونية «آدا أهاروني» التي رأست المؤتمر ، و تم توزيع استمارات على المشاركين تحت عنوان : «أسئلة حول الخروج الثاني من مصر» والهدف عمل قاعدة بيانات كاملة عن اليهود المصريين وممتلكاتهم تتضمن: الاسم ومكان الإقامة و تاريخ ومكان الميلاد في مصر ، والمدارس والجامعات التي تعلموا فيها، و الجنسية التي كانوا يحملونها والجنسية الحالية، وتاريخ مغادرتهم لمصر ، معلومات عن الآباء والأصدقاء، والوثائق التي كانوا يحملونها، فترات الازدهار والضيق، ثم رؤيته تجاه السلام مع مصر والفلسطينيين والعرب، وهل يرغب في زيارة مصر مرة أخرى، وطبقاً لتعبير منظمي المؤتمر " يجب تدوين شهادات اليهود الذين عاصروا الخروج الثاني من مصر حتى لا يتم إنكاره " ! وتناول المؤتمر موضوعات : العصر الذهبي لليهود في مصر – الحفاظ على التراث اليهودي في مصر – تاريخ المؤسسة اليهودية في مصر – الحركة الصهيونية في مصر، وسعى المؤتمر للضغط على الحكومة المصرية من خلال اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة ، من أجل الحصول على تعويضات عن ممتلكاتهم في مصر وأتساءل: هل ستدفع الحكومة الإسرائيلية واللوبي اليهودي في أمريكا قيمة ما نهبه اليهود من ذهب وفضة ومتاع خلال خروجهم الأول، طبقاً لاعتراف "سفر الخروج" والذى يقطر كله سماً وحقداً على مصر والمصريين. وبقى أن أؤكد عدة استنتاجات علمية من خلال دراستى لتاريخ الطائفة اليهودية فى مصر، كان أهما: أن اختلاف الدين بين أبناء المجتمع الواحد ليس مبرراً لادعاء التمايز الحضاري والاجتماعي والثقافي، كما يزعم المؤرخون الإسرائيليون المعاصرون، فالثقافة الفرعية للأقليات الدينية تصب عادة في المجرى العام لثقافة المجتمع كله. أن المهاجرين اليهود من ذوي الأصول الأوروبية، حملوا معهم «عقدة الانعزال» وادعاء التمايز والاستعلاء على البشر ، وهم الذين كانوا في مجتمعاتهم الأوروبية عرضة لكراهية الأمم الأخرى. أن الطوائف اليهودية ذات الأصول العربية والتي عاشت تحت مظلة الحضارة الإسلامية لم تعرف ظاهرة العزلة الاجتماعية داخل «الجيتو» التي ميزت الوجود اليهودي في أوروبا. تؤكد المصادر التاريخية أن المجتمعات العربية لم تعتبر اليهود – جالية أجنبية – وإنما اعتبرتهم عرباً اعتنقوا الدين اليهودي، وبالتالي فإن سلوكياتهم الاجتماعية وتفاصيل الحياة اليومية لم تميزهم عن بقية أبناء المجتمع. أكدت تلك المصادر، أن الطائفة اليهودية في مصر كانت تمارس شعائر وطقوس ديانتها بحرية تامة. ارتباط العائلات اليهودية الثرية بصناع القرار وأصحاب السلطة، وبالتالي فقد هيأ الاحتلال الأوروبي للدول العربية "ظروفاً أنسب" للازدهار المالي والنفوذ الاقتصادي والسياسي، ومنحتهم سلطات الاحتلال حقوقاً وامتيازات لم تكن متاحة للأغلبية، فارتبطت مصالح وطموحات هذه العائلات القوية بالقوى الخارجية صاحبة الحماية. أن كثيرا من أفراد الطائفة اليهودية في مصر وقعوا تحت تأثير الدعاية الصهيونية، ومن الغريب أن "تيودور هرتزل" بدأ تحركه بالتأمر ضد مصر تحديداً، عندما حاول إقناع المسئولين البريطانيين بالموافقة على مشروع لاقتطاع أرض "سيناء" من مصر وتأجيرها لليهود لمدة 99 سنة قابلة للتجديد ليتخذوا منها نقطة ارتكاز يقفزون منها إلي فلسطين، ومن حرب عام 1956 إلي حرب 1967 وحتى رحيلهم عنها نهائياً عام 1982 مازال حلم ضم سيناء يراود قادة الكيان الصهيوني، وراجعوا استطلاع الرأى المعلن فى إسرائيل فى الأسبوع الأول من مارس 2009 وتناقلته وكالات الأنباء والفضائيات بأن 89% من الشعب الإسرائيلى يؤيدون إعادة احتلال سيناء. إن الفكر الصهيوني مغرق في عدائه للتاريخ وتزييفه وتوظيفه لخدمة الرؤية والأهداف الصهيونية، وليس أدل من المحاولات اليائسة لزعماء إسرائيل ومؤرخيها: لمحو الشعب الفلسطيني من القراءة الصهيونية للتاريخ. استمرار القرصنة التاريخية لحساب الأيديولوجية الصهيونية، في عبارات مسمومة ودعاوى زائفة لافتعال تاريخ لما يسمى ب "الشعب الإسرائيلي" واصطناع «حضارة يهودية» فأحلام الصهاينة التوسعية الإجرامية، تتلازم مع أحلامهم في غزو التاريخ.