السيد رشاد كان هناك طفل صغير يشاكس فى براءة أشقائه وأمه، وهو يلهو داخل منزله، وفجأة قرر أن يلعب بالكرة، فإذا بها تصطدم بنافذة زجاجية وتحطمها، استيقظ الأب من قيلولته على صوت الزجاج المتكسر فزعا، وإذا به يحضر عصا غليظة ويقوم بضرب طفله المشاكس على يديه ضربات قاسية أفزعته، وآلمته، كان الطفل يصرخ من شدة الألم، لكن الأب لم يفهم أو يرحم أو يتنبه لخطورة ما يحدث، فالزجاج أهم بكثير من مجرد صرخات بريئة، ولم يجد الطفل مفرا من الانكفاء على آلامه والانسحاب منزويا داخل غرفته، خصوصا أن الأم والأخوة الكبار أخذوا موقف المتفرج، وأحيانا المتشفى. فى اليوم التالى ذهبت الأم لتوقظ ابنها فوجدت يديه وقد كساهما قفازات من السواد والورم، فسارعت إلى أبيه لينقلاه إلى المستشفى، حيث اكتشف الأطباء أن يدى الطفل أصابهما التسمم، فالعصا كان بها مسمار صدىء مختفيا، انغرس فى يدى الطفل واحدة تلو الأخرى، وقضى عليهما وكان القرار البتر فورا حفاظا على حياة الصغير البرىء. فى اليوم الثالث أفاق الطفل من غيبوبة جراحة البتر، ونظر إلى حاله، باحثا عن يديه فى كل بقعة على السرير وداخل الغرفة، وحينما فشل فى العثور عليهما، نظر إلى أبيه مستعطفا ووعده بأنه لن يلعب الكرة مرة أخرى فى المنزل ويشاكس أخوته ووالديه، وأقسم أن لن يكسر أى شىء فى المنزل بعد اليوم شرط أن يعيد إليه يديه. هنا استيقظت كل مشاعر الأبوة وتأنيب الضمير بكل عنفوانها داخل الأب لكن بعد فوات الأوان، ولم يجد الأب أمامه سوى القفز من نافذة المستشفى الزجاجية إلى حيث الضياع هذا هو بالضبط فى تصورى واقع الحال بين علاقة المجتمع المصرى حاليا «الأب والأم والأشقاء الكبار» و«المثقف الحقيقى» الابن فى حقبتنا الراهنة، وهذا هو المصير المنتظر لكليهما إذا استمر هذا الخلل الشديد، وهذا الإقصاء والتهميش قائما، وإذا هنا بالطبع أتحدث عن المثقف الحقيقى الذى يمثل العقل النابه، والضمير اليقظ، والرؤية المستشرقة والمشاكسة البرئية، المثقف العضوى المهموم بقضايا أمته ووطنه، لا مثقفو المصالح والمناصب والجوائز وباقى مفردات حظيرة فاروق حسنى إياها. لقد دفع المصريون ولا يزالون يدفعون طوال العقود الأربعة الأخيرة ثمنا غاليا لغياب أو تراجع دور المثقف الحقيقى فى حركة الحياة اليومية المصرية، هذا الغياب التى أفرز ضمن ما أفرز من نتائج سلبية خطيرة ومريرة، سحق الشعور بالانتماء إلى الحضارة والنسق القيمى والوطن، واختلال منظومة القيم والسلوك والمعايير الأخلاقية التى كانت تمنح هذ الوطن مسماته وتجسد خصوصية، فأصبح المصريون غرباء عن مصريتهم، وصارت مصر غريبة عن حضارتها وأنساقها القيمية ومنظومتها الأخلاقية التى صنعتها وتمسكنت بها وحرصت عليها على مدار آلاف السنين، من هنا لم يعد مستغربا أن تتكرر حوادث التحرش البشعة فى مدننا ومياديننا وشوارعنا فى أعيادنا، واحتفالاتنا، ومهرجاناتنا وأماكننا المغلقة والمفتوحة على السواء بعد أن غاب الضمير وضاع الوعى، وانقلبت المعايير، فاختل كل شىء. إن الخطوة المقبلة لهذا الخلل أكثر تأثيرا وأفدح خطورة، فمع تكرار هذه الحوادث واستمرار ذلك الخلل ستشيع حالة من الإحباط واليأس والانكسار الداخلى داخل المجتمع المصرى، ستفضى إلى نوع قاتل من الهزيمة أمام «الذات» قبل «الآخر» ومن ثم الانسحاب داخل الجلود المرتجفة أمام معركة تركيع المصريين، وتجريف هويتهم ومنظومتهم الأخلاقية ونسيجهم الحضارى. إذن والحال هكذا، وبعد ثورتين بذل المصريون ولا يزالون يبذلون فيهما أرواحهم وأموالهم وأمانهم وأمنهم، وبعد إنجاز خطوة مصيرية على خارطة المستقبل بانتخاب رئيس «منقذ» اختاره الشعب بإرادة كاسحة، وأصبح له ظهير شعبى غير مسبوق، بعد ذلك كله حان وقت التغيير المؤلم، وتصحيح الاختلالات بجراحات ناجعة تجتثها من جذورها، وفى مقدمتها إعادة المثقف الحقيقى ليسهم فى صياغة الحياة فى مصر الجديدة ولعب دور البوصلة لهذا المجتمع الذى انقلبت أوضاعه، وأظلمت رؤاه وشاخت أفكاره، إن قضايا كثيرة جارحة أثارتها وقائع التحرش القبيحة الأخيرة، تتعلق بمنظومة الحقوق والواجبات ومفاهيم كل منها داخل المجتمع، وثقافة التنمية البشرية، والاستثمار فى كرامة المصرى وقدراته وغياب فقه الحياة، وثقافة المبادرة، وقيم الاعتزاز بالذات والهوية، والاستقلال المعرفى والانتماء والقدرة على الإبداع، وتصحيح الاختلالات الكارثية فى المنظومة القيمية والأخلاقية التى تفلتت وتشظت وكلها قضايا لا يمكن إحالتها يا سيادة الرئيس إلى لافتة المستقبل كعادتنا مع الأسف مع كل قضايانا الحاسمة، لأنه ببساطة لا مستقبل لنا دون حل هذه القضايا وهى أيضا قضايا كلها يلعب المثقف الحقيقى الوطنى دور رأس الحربة فى التبشير بها، وحائط الصد الأخير فى الدفاع عنها وهنا علينا أن نتذكر دائما أنه لا يمكن حل مشاكل قديمة، بأفكار قديمة وأشخاص قديمة، وأنه آن لدولة المكافآت أن ترحل بوجوهها القبيحة وأفكارها الشائهة وقيمتها السلبية، لتحل محلها دولة المكافآت التى ستصنع المستقبل المأمول لهذا الوطن والتى يجب أن يكون المثقفون الحقيقيون فى القلب منها، ليتحملوا مسئولياتهم كاملة فى صنع هذا المستقبل الذى نرجوه لأمتنا، حتى لو اضطرنا ذلك إلى أن نقف بإرادتنا الحرة شامخين فى خندق النار، نواجه عتمة الجهل والانحراف والعنف منحازين لضوء الحقيقة غير مبالين سوى بوجه الوطن وإلا ستفاجأ قريبا جدا أن الوطن كله أصبح مجرد ساحة للتحرش كل أنواع التحرش.