تبدو ظاهرة التحرس الجنسى إحدى أخطر الظواهر الاجتماعية التى تمددت فى العقود الأخيرة، لأنها تكشف عن اختلال البناء الاجتماعى، والنظام الأخلاقى والدينى، خصوصا أننا إزاء ظاهرة قديمة ومستمرة، ولم تُجدَ معها الخطابات الأخلاقية والدينية فى الحيلولة دون تخفيض معدلاتها ومؤشراتها الخطيرة، وهو ما يعنى أن هذا النوع من الخطابات واللغة الخشبية والجوفاء لا تملك تأثيرات نوعية فى تغيير اتجاهات الصبية والرجال إزاء المرأة. من هنا جاءت ردود الأفعال تقليدية ومكررة إزاء واقعة التحرش الدامية التى وصلت إلى درجة هتك عرض ضحايا واقعة ميدان التحرير الخطيرة الأخيرة. الأسئلة التى نطرحها هنا.. ما أسباب هذه الظاهرة واستمرارها؟ ولماذا فشلت أساليب المعالجة التى رمت إلى الحد من التحرش ووقائع الاغتصاب، وخدش العرض والحياء التى تبدو كأنها جزء من تفاصيل الحياة اليومية فى البلاد؟ ثمة عديد من الأسباب نذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر فى ما يلى: 1- الانفجار السكانى المفرط، وتضخم الهيكل الديموجرافى مع تدهور مستويات التعليم فى جميع مراحله على نحو لم يعد قادرا على تغيير نوعى فى بنية الإدراك «الفردى» والجماعى إزاء المرأة ودورها فى المجال العام، وخارج نطاق الأدوار الوظيفية للمرأة فى إطار نظام الأسرة ومسؤولياتها. أدى تضخم المجتمع إلى تجاوز قدرات الدولة وأجهزتها الأمنية، والإعلامية، والاجتماعية والثقافية وعجزها عن استيعاب هذه الظاهرة المركبة -الاجتماعية والنفسية والجنسية والدينية والثقافية- وإيجاد حزمة من السياسات والإجراءات لمواجهتها فى مصادر إنتاجها فى مهادها. 2- انفجار المناطق العشوائية –فى السكن ونمط الحياة والإدراك الذكورى للمرأة والأطفال ولمعنى القانون- وتمدد عشوائية الفضاء المكانى، لتشمل غياب التنظيم للعلاقات والتفاعلات الاجتماعية وشبكاتها داخل بنية المناطق العشوائية وانكسار قواعد الضبط الاجتماعى، والاعتماد على القواعد العرفية، وقانون القوة وانتشار البؤر والعصب الإجرامية التى تمارس النصب والسرقات وبيع المواد المخدرة –على اختلافها- وتعاطيها وإدمانها وغيرها من جرائم قانون العقوبات وغيره من القوانين. من ناحية أخرى تفشى ظاهرة البلطجة والسيطرة إلى آخر أشكال السلوك الإجرامى التى انفجرت وتمددت فى أعقاب 25 يناير 2011 ولا تزال دون روادع، بالنظر إلى شيوع الفوضى الأمنية، وتركيز الأجهزة الشرطية على الأمن السياسى إزاء مصادر إنتاج العنف السياسى ذى الوجه الدينى لجماعة الإخوان المسلمين وتظاهراتها، والعنف الإرهابى لأنصار بيت المقدس والقاعدة وبعض نظائرها وأشباهها. 2- انتشار معدلات البطالة بين الشباب ومعها إدمان بعضهم للمواد المخدرة، ودخول عديدين إلى سوق الجريمة كفاعلين جدد، وهم عناصر غير مدرجة فى سجلات ذوى السوابق والمحكوم عليهم سابقًا. إن البطالة غالبا ما تستصحب معها الإحباط، والأنامالية الاجتماعية والأخلاقية رغما عن الصخب باسم الأخلاق والقيم الدينية. لا شك أن هذه الحالة الاجتماعية والنفسية تؤدى إلى بروز فجوة بين الشعارات الأخلاقية «المثالية»، وواقع اجتماعى متخم بالاختلال والإحباط وغياب الأمل فى تكوين أسرة أو الحصول على فرصة عمل، فى ظل رفض دينى واجتماعى، محافظة لقيمة الحب فى العلاقات بين الشباب، بل وصل الأمر ببعض الغلاة من السلفيين إلى قتل طالب بكلية الهندسة بالسويس كان يجلس بجوار خطيبته على أحد الأرصفة فى الطريق العام بمدينة السويس، فى جريمة بشعة ارتكبت، لأن بعضهم أعطى لنفسه الحق فى رقابة سلوك المواطنين بدعوى الحسبة الأخلاقية والدينية، وأمثال هؤلاء لعبوا دورا خطيرا فى الحلول محل الدولة والأسرة فى الرقابة على السلوك البرىء لبعض الشباب ممن تربطهم علاقة خطبة وفى سبيلهم للزواج. هذا النمط من الرقابة باسم الحسبة والحفاظ على القيم الأخلاقية ساعدت على تآكل وتفكك منظومة أخلاقية متشددة تفرض بالقوة والعنف، على نحو خلق ردود أفعال لا مبالية بالخطاب الأخلاقى الأجوف الذى يفرضه بعضهم على الناس، بينما بعض هؤلاء لا يحترمون القيم ويطالبون الجمهور بالامتثال والخضوع إليها. 3- تداعى المنظومة القيمية الأخلاقية والسلوكية لنمط التنشئة الاجتماعية الأبوية –البطريركية التقليدية والمحدثة- التى كانت تحكم عمليات الضبط الاجتماعى داخل بنية الأسرة المصرية، وذلك لضعف سلطة الأب الذى يعمل طيلة اليوم فى العمل الحكومى وفى القطاع الخاص.. إلخ، بل وفى عمل الزوجة، لا سيما مع انتشار ظاهرة الأم والمرأة المعيلة فى ظل عطالة الأب، أو سفره للخارج، أو وفاته أو لطلاقه، أو زواجه بأخرى.. إلخ. هذا التغير الاجتماعى أصبح له ظلاله الكثيفة على منظومة التنشئة الاجتماعية فى الأسرة، والمدرسة التى لم يعد المدرس -أو المدرسة- يلعب دوره التقليدى فى التنشئة بل وتحول إلى «عامل» أو «موظف» لدى الطلاب من خلال نظام الدروس الخصوصية، وتجرؤ التلاميذ والطلاب على أساتذتهم، وانتشار العنف فى الوسط الطلابى. من ناحية أخرى التمييز النوعى فى التربية داخل الأسرة للذكور إزاء الفتيات، ورسم أدوار لهن، بحيث يمثل الذكر سلطة أخلاقية ورعائية على البنات والفتيات، ومن ثم التعامل مع الفتيات بوصفهن كائنات ضعيفة تحتاج إلى الحماية والسيطرة، ولسنَ شخصيات متكاملة يتساوين مع الذكور ولا تمييز فى ما بينهم على أساس النوع الاجتماعى.