سوزى الجنيدى «إن التحالف مع تركيا وإثيوبيا يعنى أن أكبر نهرين فى المنطقة.. النيل والفرات.. سيكونان فى قبضتنا»، جملة قالتها جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل فى أعقاب حرب 1967.. كما قال إسحاق شامير فى مارس 1991، إن إسرائيل على استعداد لتوقيع معاهدة حظر أسلحة الدمار الشامل وقبول لتفتيش الدولى على المنشآت النووية الإسرائيلية، مقابل إشراك إسرائيل فى اتفاقيات لإعادة توزيع المياه فى المنطقة. وأمام ذلك يذهب بعض المحللين إلى القول إن «سد النهضة» مؤامرة إسرائيلية -أمريكية على مصر، ويؤكدون أن التنسيق الإثيوبى - الإسرائيلى يأتى فى إطار محاولة أمريكية لإعداد إثيوبيا للاضطلاع بدور القائد المركزى للإقليم، وبحيث تخضع لنفوذها بقية الدول المطلة على النهر فى إطار ترتيبات جغرافية، تستهدف الإبقاء على ضعف الكيانات المحيطة بها مع استخدامها كقاعدة عسكرية أمريكية وإسرائيلية يسهل من خلالها فرض السيطرة على تلك المنظومة الإقليمية لمواجهة تغلغل النفوذ الصينى فى إفريقيا، ولأحكام الطوق على المنطقة العربية وتطويقها عبر تعاون ثلاثى إسرائيلىا تركىا إثيوبىا، خصوصا أن أمريكا تستخدم إستراتيجيتين للسيطرة على دول حوض النيل وإفريقيا بشكل عام، وهما إستراتيجية القيادة العسكرية الأمريكية الجديدة لإفريقيا (أفريكوم)، التى بدأت عملها من 2008 وتم استثناء مصر من إطار عملها، وإستراتيجية القرن الإفريقى الكبير التى أعلنها كلينتون عام 1994 والتى انضمت لها ثمان من دول نهر النيل باستثناء مصر والكونغو الديمقراطية. ويشير مصدر مطلع على كل تفاصيل ملف سد النهضة، إن إثيوبيا بالفعل نجحت فى اختزال الأمر وكأنه خلاف مع نظام مبارك، وساعدها فى ذلك بعض وفود الدبلوماسية الشعبية المصرية التى سافرت إلى أديس أبابا بدون التنسيق مع الجهات المصرية خصوصا الخارجية المصرية، ثم جاء نظام الإخوان ليهون بشكل كبير من موضوع سد النهضة. وأثناء تولى الدكتور هشام قنديل حقيبة الموارد المائية والرى فى حكومة الدكتور عصام شرف، تم الاتفاق مع إثيوبيا على تشكيل لجنة ثلاثية دولية لتقييم آثار سد النهضة الإثيوبى على مصر والسودان، إلا أنه كانت هناك عدة أخطاء رئيسية فى هذه اللجنة، وللأسف تم الاتفاق على أن تكون اللجنة استشارية ورأيها غير ملزم لأطراف النزاع، وأن تكون أعمال اللجنة لا تشمل التفاوض حول أى سيناريوهات لتقليل الآثار الضارة لمصر، وظلت اللجنة الثلاثية تبحث آثار سد النهضة الإثيوبى لنحو عام، وتوقفت تماما كل المفاوضات فى حين استمرت إثيوبيا فى بناء السد بدون توقف. وكانت المشكلة الأكبر بعد أن تم إسناد وزارة الرى للدكتور محمد بهاء الدين، فى ظل حكومة الدكتور هشام قنديل، حيث تجاهل تمامًا مشكلة السد، وأصر على التصريحات الوردية، بل والتأكيد أن «أديس أبابا» لن تمس كوب ماء واحدا من نصيب مصر من مياه النيل، وإنكار الآثار السلبية لسد النهضة على مصر، وجاء تقرير اللجنة الثلاثية الدولية المكون من عشرة من الخبراء اثنان من كل دولة مصر والسودان وإثيوبيا وأربعة خبراء دوليين ليؤكد صحة جميع الشكوك، وأن جميع الدراسات الإثيوبية الخاصة بالسد تحتاج جميعها للتعديل، نظرًا لأنها أولية وغير دقيقة، كما أنه فى عهد بهاء الدين حولت حكومة أديس أبابا مجرى نهر النيل الأزرق وفى أثناء وجود الرئيس مرسى فى إثيوبيا فى خطوة جريئة دون وجود رد قاس لها من مصر. وأضاف المصدر أن وزارة الخارجية بُح صوتها فى ذلك الوقت من التحذير من خطورة السد، بل إنها قامت بتقديم شكوى إلى رئيس الوزراء هشام قنديل من التصريحات الوردية لوزير الرى بهاء الدين وتأثيرها السلبى على إدارة الملف بلا أى تحرك فعلى، لإيقاف تلك التصريحات التى استغلتها إثيوبيا أمام العالم للإيعاز بالموافقة المصرية على بناء السد، وكانت الطامة الكبرى فى إذاعة الاجتماع الذى تم فى مقر رئاسة الجمهورية فى عهد مرسى لبحث ملف السد بعد تحويل إثيوبيا لمجرى النهر على الهواء مباشرة على الهواء، نظرا لأن الحكومة كان يتولاها هواة، الأمر الذى استغلته إثيوبيا أيضا للإيعاز للعالم بأن مصر تهددها بشن حرب عليها. وواصلت إثيوبيا تصعيدها وتحديها لمصر، وجددت رفضها الاعتراف بالاتفاقيات التاريخية الموقعة بين مصر ودول حوض النيل لتقسيم مياه النهر. وأمام كل هذه الحقائق، أصبح ملف سد النهضة يدار بشكل أكثر احترافا بين أجهزة الدولة المعنية كلها ومن خلال اللجنة العليا لمياه النيل والأجهزة السيادية، وتتلخص الخطوات القادمة، أولاً فى التفاهم مع الدول المانحة، خصوصا المشاركة فى بعض أعمال السد مثل إيطاليا لتوضيح حجم المخاطر والآثار السلبية له على مصر والسودان، والتأكيد على معارضة مصر لبناء السد بتلك المواصفات، وإظهار حجم التعنت الإثيوبى فى المفاوضات التى تمت، ورفضهم التوقيع على ورقة بناء الثقة المصرية المقترحة والتى شملت الاستعانة بالخبراء الدوليين. وتعتبر إيطاليا وهولندا وألمانيا والنرويج واليابان وكندا والصين من أهم الدول المانحة الذى يجب التركيز على إيصال وجهة نظر مصر إليها بشكل واضح. والخطوة الثانية فى التحرك، كما كشف عنها مصدر مطلع ل»الأهرام العربى» هى التفاهم مع الجهات المانحة مثل البنك الدولى والمؤسسات الدولية للتأكيد على أضرار السد وعدم كفاية الدراسات الإثيوبية.. والخطوة الثالثة هى إجراء مباحثات مستمرة مع دول حوض النيل لإقناعهم بالموقف المصرى وأسبابه وزيادة فرص التعاون الاقتصادى والعسكرى مع تلك الدول وتكثيف زيارات المسئولين مثل وزير الخارجية وغيره لدول من حوض النيل... والخطوة الرابعة، تتمثل فى إحياء المبادرة المصرية لتنمية دول الحوض التى تعمل على إقامة مشروعات مصرية فى تلك الدول، وكذلك تشجيع رجال الأعمال المصريين على الاستثمار فى دول حوض النيل، وزيادة وجود منظمات المجتمع المدنى المصرية للمساهمة فى تنمية تلك الدول، ولهذا قامت وزارة الخارجية بتجميع عدد من تلك المنظمات، حيث أبدت عشرون منظمة مصرية استعدادها للعمل فى دول الحوض فى عدة مجالات تنموية مثل الصحة والتعليم، ويضيف المصدر أن كل تلك الخطوات بهدف إقناع الجميع بأن مصر لا تقف فى وجه تنمية دول الحوض، بل على العكس لديها استعداد للمساهمة فى المشاريع التنموية بها. أما الخطوة الخامسة فتركز على تكثيف الاتصالات مع البنك الدولى وصندوق النقد الدولى والجهات المانحة للتأكيد على ضرر السد على مصر وتعنت الجانب الإثيوبى، خصوصا أن بعض الجهات المانحة للمعونات لإثيوبيا بدأت تدرك أن تلك المعونات لا تذهب للأغراض المتفق عليها، بل تذهب لتمويل السد.. وتتمثل الخطوة السادسة فى تقديم امتيازات اقتصادية وعسكرية لمنع استغلال دول حوض النيل من بعض الدول الأخرى التى تشملها أزمة سد النهضة، حيث يتم حاليا رفع ملف بالمقترحات حول هذه الخطوة. ويشير المصدر إلى أن الخطوة السابعة تركز على تدويل الأزمة فى المحافل الدولية المختلفة، وأخيرًا يوضح أن الخطوة الثامنة هى فى وضع إستراتيجية طويلة المدى للتعامل مع ملف سد النهضة والعلاقات مع دول حوض النيل لمواجهة المخطط الأمريكى - الإسرائيلى وربما التركى وأن تكون هناك رؤية شاملة لإدارة التفاوض المائى مع دول حوض النيل، موكدا أن مصر تتحرك حاليًا لإقامة قاعدة دائمة للعلاقات مع دول حوض النيل وليس مجرد اتخاذ خطوة أو اثنتين، فالتحرك مستمر فى كل الاتجاهات ولابد من دعم كل أجهزة الدولة لهذا التوجه الذى يتضمن زيادة الاستثمارات والتجارة والتعاون مع منظمات المجتمع المدنى فى منظومة عمل متكاملة. كما يمكن الاستعانة بالكنيسة القبطية التى ترتبط بها الكنيسة الإثيوبية برباط دينى قوى على الرغم من الخلاف بين الكنيستين حول دير سلطان فى إسرائيل وهو الخلاف الذى أسهمت إسرائيل فى تأجيجه منذ السبعينيات، وأضاف المصدر أن مصر بدأت بالفعل اتصالاتها مع الدول المانحة، وعلى رأسها إيطاليا. ويرى د. محمد سالمان طايع أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن استئثار وزارة الرى بالملف أثر بالسلب ولابد من إشراك مختلف القوى الحكومية وغير الحكومية ومراكز الأبحاث ورجال الأعمال ولابد من عدم الاعتماد فقط على أن القانون فى صف مصر بعد أن رفضت إثيوبيا الالتزام بالاتفاقيات السابقة، وتحججت بأنها وقعت فى إطار الاستعمار الغربى، كما يجب محاولة إيجاد مصلحة مصرية - إثيوبية مشتركة للتعاون والتفاهم من خلال إقامة مشروعات تنموية مشتركة، والتأكيد أن مصر لا تقف أمام تنمية أى من دول حوض النيل بل وستسعى بقدر الإمكان فى المساعدة، ويمكن محاولة تفعيل مبادرة حوض النيل التى تم تدشينها عام 1999، والاستعانة بالدول العربية خصوصا الخليجية، التى تملك مشاريع استثمارية فى إثيوبيا للضغط عليها، كما لابد من إنشاء وزارة لدول حوض النيل لإدارة الملف وتعزيز العلاقات مع دول الحوض بشكل مستمر. وحول إمكانية الاتفاق حول تقليل حجم المياه المخزنة خلف سد النهضة من 70 مليار متر مكعب إلى كمية أقل ويتم تخزينها على عدد أكبر من السنوات بحيث لا تتأثر مصر والسودان، أشارت المصادر إلى أن هذا أحد البدائل، لكنه ليس الخيار الأول خصوصا أن مشروع السد يقوم على بناء سدين أحدهما سد رئيسى يحجز 15 مليار متر مكعب ولا يمثل مشكلة بالنسبة لمصر، وسد ثان فرعى يحجز 60 مليار متر مكعب، وهو يمثل المشكلة بسبب معدلات عدم الأمان وقدرته على التأثير السلبى على مصر والسودان، مؤكدًا أن هناك مشكلات فنية حقيقية أمام بناء السد الفرعى والأمر يحتاج لحلها إلى خبرات دولية فنية كبيرة وتمويل ضخم، مضيفا أن إثيوبيا لديها حتى الآن تمويل محدود صغير، وتحتاج إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار بجانب الأربعة مليارات المطلوبة لبناء السد، مما يزيد بشكل كبير من تكلفة بناء السد، كما أن القانون الدولى يمنع التمويل لأى مشروع على الأنهار، وهناك خلافات بين الدول الواقعة على هذا النهر وهو الأمر الذى أجبر الإثيوبيين على الموافقة على تشكيل لجنة ثلاثية دولية لدراسة السد. وردًا على سوال حول إذا ما كانت إثيوبيا قادرة على التحكم مستقبلا فى كمية المياه الواردة لمصر وتعطيش الشعب المصرى إذا نجحت فى بناء السد؟ أوضح المصدر أن تصميم السد حاليا قائم على غرض تخزين المياه لتوليد الكهرباء وصرف المياه ولكن من الممكن أن تقوم إثيوبيا بتغيير الهدف، وبدلا من توليد الكهرباء تسعى لتخزين المياه بشكل دائم خلف السد، مما سيؤثر بالتأكيد على كمية المياه الواردة إلى مصر بشكل مستمر وليس لفترات محدودة، كما أن مصر ستتأثر فى كل الأحوال إذا ك أن مستوى الفيض أن قليل فى أحد السنوات وبالتالى فالاحتمالات مفتوحة. ويرى الدكتور محمد سالمان طائع، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية فى كتابه "مصر وأزمة مياه النيل..آفاق الصراع والتعاون" أن هناك غيابا للإطار القانونى فى النظام الإقليمى لحوض نهر النيل على الرغم من وجود ما يزيد على عشر اتفاقيات لتنظيم مياه، وأن المراجع التاريخية تشير إلى أن حكام الحبشة كانوا دائما يستخدمون قضية مياه النيل كأداة ضغط فى مواجهة مصر، بل إن داوود بن يوسف ملك الحبشة (1381-1411) شن هجوما على حدود مصر وبلغ أسوان، مستغلا حالة الفوضى التى كانت تعانيها البلاد فى عهد السلطان برقوق المملوكى.. واهتمت القوى الأوروبية بفكرة إمكانية تحويل إثيوبيا لمجرى النهر إلى البحر الأحمر، وكان الغرض إنشاء قوة مسيحية كبيرة فى إثيوبيا تواجه القوى الكبرى الإسلامية فى مصر، وبهذا أصبح هناك تراث فكرى - دينى وثقافى يجعل من إثيوبيا مصدرا دائما لتهديد مصر عن طريق مياه النيل.