حوار عزمي عبد الوهاب سنعتبر الجار الذي يسكن بجوارنا «آخر» بلغة المثقفين، وسنرى المسافة التي تفصل بيننا وبينه وكأنها دهور، لمجرد أنه ينتمي إلى قومية أخرى، هكذا هي حال من ينتمي إلى عرق آخر، لا يلقى إلا التجاهل والتجاوز والقمع، والاضطهاد في حالات كثيرة، لأننا ننتمي إلى ثقافة لا تؤمن بالتعدد، ولا تعرف أن هذا التجاور يشكل عنصراً يغنى هذه الثقافة الواحدية. ربما لهذا غادر الشاعر السوري «مروان علي» موطئ خطواته الأولى في سوريا، بحثا عن حقه في حياة إنسانية لا تمييز فيها، حياة تؤمن له الغد الذي يعزز من قيم المشترك الإنساني بين جميع البشر باختلاف لغاتهم وثقافاتهم. أصدر «مروان علي» ديوانه الأول «ماء البارحة» عام 2009 وهاهو يصدر ديوانه الثاني «غريب... لا شيء عنك في ويكيليكس» وهو يطل معنا من منفاه الاضطراري في بلاد الثلج والمطر على المشهد من خلال هذا الحوار، فإلى التفاصيل. غادرت «القامشلي» بسوريا إلى أمستردام عام 1996 ألم يكن هذا الرحيل إلى المنافي مبكرا؟ لدي شعور بأنني تأخرت، جميل أن ترى بلادك من بلاد الآخرين، وتلتقي غرباء ومهاجرين مثلك من ثقافات مختلفة، في أمستردام تعرفت إلى السوريين وإلى سوريا بشكل أكثر دقة ووضوحا. لم أكن أعرف سوريا وأنا هناك.. هنا في أمستردام التي كنت أسميها «أمسترشام» حاولت أن أقترب أكثر من هذه البلاد التي اسمها سوريا، كما أن الرحيل المبكر أتاح لي فرصة التعرف إلى ثقافات مختلفة، خصوصا الشِعر الأوروبي، والهولندي تحديدا، الذي كان غائبا تماما عني وعن الكثيرين بسبب غياب الترجمات الشعرية التي اقتصرت على الشِعر الفرنسي والإنجليزي، والألماني بشكل أقل، في أمستردام وجدت سوريا التي بحثت عنها طويلا في قلبي الصغير. درست الاقتصاد في جامعة حلب التي تخرجت فيها عام 1992 من أين جاء الشعر؟ كان أبي يحب الشِعر الكردي الكلاسيكي كثيرا، ويحتفظ في مكتبة سرية ( بسبب سنوات القمع والمنع لكل ما يتعلق بالثقافة الكردية) بعدد قليل من كتب الشِعر، ديوان الشاعر والمتصوف الكردي الجزيري والشاعر الكردي المعروف جكر خوين، الذي كان صديقا للوالد. ظل أبي يقرأ شِعر الجزيري بصوته الرخيم طبعا، لا بد أن أشير إلى أن اللغة الكردية الكرمانجية، كانت تُكتب بالحروف العربية، حتى مطلع القرن المنصرم. وهنا وجدت السحر، سحر الشِعر وسحر الحرف العربي واللغة العربية، لا أتذكر تماما متى كتبت أول قصيدة، ومتى قرأت أول ديوان شعري، كانت لدي مجموعة من النصوص التي كتبتها، وأرسلت بعضها إلى جريدة «الحياة» التي نشرت هذه النصوص، وأرسلت نصوصا أخرى إلى عدد من الصحف والمجلات الثقافية: «النهار» و»السفير» ونشرت أيضا. البدايات صعبة دائما، كنا نفتقد الكتب والدواوين الشعرية الجديدة والمجلات الأدبية، وكان علي أن أمشي من كرصور (قريتي) إلى القامشلي، للحصول على الجرائد والدوريات الثقافية، أو استعارة كتاب شعري جديد من أحد الأصدقاء. في حلب تعرفت على الشِعر الجديد والشعراء الشباب، وخصوصا شعراء ملتقى حلب: حسين درويش، حسين بن حمزة، لقمان ديركي، محمد فؤاد، بسام حسين، عمر قدور ..خلف علي الخلف.. عبد اللطيف خطاب وآخرين. في حلب قلت: أنا شاعر. في ديوانك الأول «ماء البارحة» 2009 أشار أحد النقاد إلى أن «الوحشة والذاكرة تغلب على قصيدتك» هل هذا أثر المنفى أم أنه عدم التكيف مع الأماكن الجديدة؟ المكان .. كم أحب هذه المفردة، تعيدني إلى أماكن كثيرة أشتاق إليها وأحبها، من كرصور إلى القامشلي إلى حلب مرورا بدمشق وبيروت وأمستردام طبعا، لكنني ولدت في قرية صغيرة جدا، مازلت أحلم كل صباح أن أستيقظ فيها على صوت أمي. أستحضر كل الأمكنة التي أخبرتك عنها، أو تحضر دون إرادتي .. تجد في نصوصي الشعرية رائحة صباحات كرصور، صوت المؤذن قاسمو المعروف في القامشلي، ورنين أجراس كنيسة السريان، في حلب، أصوات الدراجات النارية في حي قدور بك المعروف في القامشلي، وأمواج البشر قرب قصر الملكي في ساحة الدام في أمستردام. بالكتابة أخفف عن روحي آلام الحنين. لاحظ البعض أنك تنتمي إلى فصيل من الشعراء أطلق على ما يكتبه «كتابة الشعر اليومي» ما الذي يمنح هذه الكتابة شعريتها؟ الحياة اليومية مدهشة جدا فقط علينا أن نعتني بها، ونعرف كيف نعيد اكتشافها في النص الشعري، وإعادة كتابتها. أليس مدهشا أن تقف دبابة تحت الشجرة نفسها التي كنت أنتظر حبيبتي تحتها في ساحة سعد الله الجابري في حلب؟ أو أن تجد رصاصة في الهواء تمر قربك ولا تصيبك، وستكتشف أن ثمة طلقة أخرى في الطريق، وقد تصيبك لأنك تحب حلب أو حمص، وتختار الموت فيها على العيش في بلاد الآخرين . هكذا كتب لي صديق من حلب وآخر من حمص. اليومي طافح بالشِعر ويفتح أبوابا كثيرة كانت مغلقة أمام الشِعر.. طبعا مع الانتباه والحذر من الوقوع في فخ التكرار والاستسهال.. إيقاع القصيدة من إيقاع الحياة، واللغة الجميلة هي التي تتخلص من الافتعال وتخلص للبسطاء. القصيدة الجميلة هي التي تصل إلى القارئ، واليومي يتيح الكثير بشرط عدم الوقوع في شرك وفخ الاستسهال والابتذال. كل هذه الأحلام والخسارات والوداعات والشوق.. لابد أن تجد مكانها في النص الشعري. اليومي يضيء الحياة من زاوية ثانية وبشكل أجمل. باستثناء قصيدتك «الصورة ليست واضحة» من ديوانك الصادر حديثا بعنوان «غريب.. لا شيء عنك في ويكيليكس» تتميز نصوصك بالقصر والتكثيف الشديدين هل هذا له علاقة بالتفاعل مع مواقع التواصل الاجتماعي أم أنها تقنية شعرية تريدها؟ لا يختار الشاعر شكل النص، النص هو الذي يختار شكله (بالنسبة لي) كما أن طبيعة الحياة وإيقاعها والركض وراء العيش والعمل والآمال (الشاقة) تلعب دورا في ذلك. النص القصير أو الومضة.. يحتمل عنصر الدهشة أكثر من غيره. لا أخفيك نشرت قسما كبيرا من هذه النصوص في صفحتي على (الفيسبوك) و(تويتر) .. وبالتأكيد بدراية أو دونها، هذه الوسائل تلعب دورها في تحديد طبيعة النص الذي ينشر. مع ذلك فالقصيدة القصيرة موجودة حتى في التراث الشعري العربي والكردي والعالمي أيضا. تقول في ديوانك «ماء البارحة» : «أنا مروان علي/ ولدت في القامشلي / وسأموت في أمستردام» وفي ديوانك الثاني تقول: «ولأن الأرض تدور / سنصل يوما إلى سوريا» ما الذي تغير بين عامي 2009 و2013 تاريخ صدور الديوانين حتى تريد العودة إلى مكانك الأول؟ سوريا اليوم غير التي غادرتها، تحولت إلى حطام، فقدت العشرات من الأصدقاء الذين استشهدوا تحت التعذيب في سجون النظام أو برصاصات عصابات القتل والإجرام أو الذين قتلوا بالبراميل المتفجرة وصواريخ سكود التي أزالت قرى بأكملها، أريد أن أعود لأرى ما تبقى من سوريا.. سوريا تكون لأهلها ولأناسها ولطيورها، لا صباح مثل صباح القامشلي أو حلب أو دمشق. تجولت في مدن كثيرة ورأيت بلادا جميلة.. تأكدت أن سوريا ليست وطني بل وطنك أيضا ووطن كل من يحب الشِعر والحرية والإنسان. كيف أفلت نصك من الوقوع في فخ السياسي رغم أن هذا البعد أحد همومك الرئيسية؟ فعلا لا أعرف كيف، ثمة صعوبة كبيرة في تجاوز السياسي في النص، لا يمكن لشاعر كردي سوري أن يكون بعيدا عن هول ما يحدث وكارثيته، ومع ذلك حاولت أن أبحث بين حطام قلبي الصغير عن الشِعر والأمل، ركضت خلف ما قاله جورج شحادة:»كيف نموت ونحن نستطيع أن نحلم». الحلم هنا هو القصيدة الجميلة. ما بين العربية والكردية... هل تتنازعك هويتان أم أن جسرا أقمته بينهما؟ ككردي سوري أجد سوريتي في هويتي الكردية وهويتي السورية في كرديتي، الثقافة السورية هي الثقافة العربية الإسلامية والسريانية والآشورية والكردية . أكتب بالعربية وأفكر بالكردية وأكتب بالكردية (مجموعتي الجديدة ستصدر بالكردية أيضا في إسطنبول) وأفكر بالعربية .. أتجاوز القومي الضيق إلى ما هو إنساني. هويتي الكردية تغني تجربتي الشعرية، وهناك العشرات من الشعراء الكرد الذين يضيفون الكثير للمشهد الشعري في سوريا، من سليم بركات إلى شعراء القامشلي وعامودا وحلب.. الكرد. الشِعر هو الوجه المشرق للثقافة الإنسانية، وفي النهاية الإبداع ملك لكل البشر، وسر استمتاعنا بقصيدة جميلة أو رواية أو مشاهدة فيلم سينمائي دون أن نفكر في لغته أو بلاده أو قوميته. لماذا يبدو أن هناك جهلا بالثقافة الكردية رغم الجوار والتمازج بينهما؟ هناك تعتيم مقصود على الثقافة الكردية في سوريا، لقد حارب النظام الثقافة الكردية عبر مؤسساته الثقافية (اتحاد الكتاب العرب ، وزارة الثقافة، الصحف الرسمية) الشعراء والكتاب والفنانون الكرد، كانوا محاربين أشداء من أجل إيصال الثقافة الكردية إلى الآخر العربي الشقيق في سوريا والدول العربية. أخيرا اكتشف الجميع غنى الثقافة الكردية، خصوصا بعد التحولات التي طرأت على المنطقة في السنوات الأخيرة. الشعب الكردي، شعب عريق يعيش على أرضه ويمتلك ثقافة مدهشة.. هي ليست مهمة الكتاب والشعراء الكرد فقط، بل مهمة المثقفين العرب أيضا في البحث عن ثقافة وأدب هذا الشعب، الذي تربطه بالعرب التاريخ والجغرافيا. هناك روايات ومجموعات شعرية كردية تترجم إلى العربية، ولابد هنا أن أشكر مشروع (كلمة) في أبو ظبي، بإشراف الدكتور علي بن تميم، الذي أخذ على عاتقه مهمة ترجمة الأدب الكردي إلى العربية، وصدرت بالفعل بعض الروايات الكردية والدراسات التاريخية عن تاريخ الكرد وعاداتهم.