عماد أنور أصوات الاستغاثات وصرخات الصيادين تتعالى أصداؤها فى آذاننا، مصير ومآل مجهول لموت محتوم فى لحظات خانقة تجثم على صدورهم، ويضيق خيالنا بها ذرعاً، وكأن لترات المياه المالحة التى ملأت أمعاءهم ورئاتهم تمر إلى أحشائنا . كل هذه الكوابيس وأكثر أحاطت بخطواتنا المتسارعة للوصول إليهم لنلقى شباكنا على قصص وروايات وتفاصيل ابتلعها شط إسكندرية وبحرها عن بشر يصرخون «بنتولد ..صيادين.. عشان كده بنرمى توكالنا على الله». أصبحنا نصطاد الخردة بدلاً من السمك بحثاً عن عمل حلال بعد أن قررت الحكومة دفعنا إلى الموت على قيد الحياة، هكذا صرخ أحمد ياقوت أو أحد صيادى منطقة المكس، وقال: أبناؤنا ينامون جوعى بالأسابيع، ونضطر للخروج مع الغطاسين بمراكبنا ليقوموا بالغطس بالقرب من المراكب الغارقة، ويفككوا القطع الحديدية الصدئة ونقوم نحن برفعها، ثم يحصل الغطاس على ثلث قيمة الخردة ومالك المركب على ثلث وبقية الصيادين يحصلون على الثلث الباقى، وهو ما يكفى بالكاد سد رمق أولادنا، لكننا نتوكل على الله وليس على الحكومة، لأن «اللى يتكل على الحكومة يشحت». وأضاف عم ياقوت، إن الصيادين أصابهم الإحباط والحزن والغضب بعد ضياع عدد كبير من زملائنا فى عرض البحر، والصيد لم يعد يدر مالاً على الصيادين، خصوصا أن الحكومة منعت استخراج تصاريح الصيد لمراكبنا، وهو مايعنى أن الحكومة غير مسئولة عن أى حادث نتعرض له، لأننا من وجهة نظرها نعتدى على حقوق الدولة. أما عم شكوكو فقال: إن وزارة الزراعة ترفض استخراج تصاريح الصيد، لأن ذلك يعنى أنها مسئولة عنا طوال وجودنا فى عرض البحر، وعليها أن تعوضنا وهذه التعويضات تقول وبنص القانون إنه إذا حدث أى حادث للصياد ومركبه ولم ينتج عنه وفاة الصياد لا يجوز تعويضه عن الحادث ويعوض بنسبة عن تلفيات المركب، ثم إن تصريح الصيد يعنى اعتراف الحكومة به كرجل يعمل بالصيد، وبالتالى عليها أن توفر له معاشاً شهرياً، وبرغم أن الدول رفعت سن إحالة الصياد للمعاش إلى 65 سنة فإن الصياد وبرغم ارتفاع سن المعاش يفاجأ بمبالغ لا تتعدى 200 جنيه كمعاش. وأضاف عم شكوكو، أنا عاوز أقول حاجة أخيرة ويارب صوتى يوصل لأكبر رأس فى البلد.. «الصياد مننا بينام جعان لو تعب لأننا شغالين اليوم بيومه، ولا نستطيع ادخار أى شيء من مهنة الصيد التى تأكل أجسادنا بسرعة النار فى الهشيم، ولا يعقل أن يكون المركب أغلى من البنى آدم. أما سيد الشهير ب «مامو»، فيقول: عايزين الصراحة وبدون خوف الحكومة لم تفعل شيئاً لخدمة أو حماية الصيادين فى مصر، وهذه الأزمة امتدت من عصر مبارك وحتى زمن الإخوان، وحتى الآن، ولم يحدث تغيير على الرغم من قيام ثورتين. وأضاف، نحلم بألا تتعامل الدولة معنا على أننا مخالفين لقوانين الصيد، فأنا أحد المهتمين بقضايا الصيادين، وهى حال جميع قاطنى الماكس أياً كانت مؤهلاتهم أو وظيفتهم، فالجميع هنا إما أنه يعمل بالصيد أو كان والده صياداً، ولكن ما رأيناه بأعيننا من مأساة عاشها أهلونا، وهو ما جعل المتعلمين من شباب المكس لا يتخذون الصيد حرفة أساسية. واستكمل حديثه مبتسما «أنا على سبيل المثال خريج حقوق، ولكنى لم أجد فرصة عمل، ولكن اهتمامى بقضية الصيادين بدأ فى عام 2002 حين قدمت إحدى منظمات المجتمع المدنى إلى المكس وادعت أنها تسعى لإعداد بحث ميدانى بهدف تنفيذ مشروعات تنموية بالمكس لخدمة الصيادين وحل مشاكلهم، فانخرطت معهم فى العمل التطوعى، ولكننى اكتشفت أن الهدف من هذه الزيارات هو الحصول على أموال الدعم الضخمة التى تقدمها مؤسسات المجتمع المدنى والتنمية الأجنبية، ورأيت بعينى صوراً لتحويلات بنكية بآلاف الدولارات كانت نتيجتها على أرض الواقع بعض الندوات ودهان واجهات بعض المنازل داخل المكس، ولم نأخذ منهم أى شيئ، لأنهم فى النهاية أرسلوا صوراً لجرافيتى شهير كتبوا عليه «أنا زى السمك لو خرجت من الماكس أموت» وبهذا حولوا المكس إلى جنة أو كما ادعوا «فينيسيا الشرق» لكن الحقيقة أن حالنا مأساوية، ولاذنب لأحد سوى الحكومة التى تركتنا لقمة سائغة فى أفواه المنتفعين. أما الريس أحمد الذى أكد أنه كان قد نسى مهنة الصيد، فيقول: إنه منذ 10 سنوات والمكس وكل مناطق الصيد بمصر تعانى من انقراض العديد من أنواع الأسماك، فبعد أن أغلقت الحكومة الملاحات وبدأت تدفع بشركات البترول والكيماويات، أصبحت تعمل بقلب مناطق الصيادين السكنية وبالقرب من البحر ، ولم يتوقف الأمر عند تلويثهم هواء المكس والتى كانت فى العهد الملكى منتجعاً صحياً، بل ألقوا بالصرف الصناعى والكيماوى ومشتقات البترول ، وهو ما أجهز نهائياً على الثروة السمكية. ويأمل الريس أحمد أن يسمع أحد ما يصرخ به الصيادون، وأن يأتى علينا العام الجديد خاليا من الإهمال، وأن تقدر قيمة البنى آدم ونصبح دولة محترمة زى باقى الدول.