أسامة الدليل هبطت من السماء على لبنان وأقلعت منها بعد أسبوع، وكان كلاهما «الاستقبال والوداع» مثيرا وغريبا ومريبا، فبعد أقل من نصف ساعة على وصولى وجدت نفسى أمام الدهاليز الخلفية السرية لما يدور بالقاهرة، فى قلب بيروت، فقد كانت علامة (رابعة) الإخوانية ملصقة بعناية أمام الفندق الذى أقيم به، وفى البهو رأيت الدكتور سعد الدين إبراهيم وزوجته الأمريكية.. وعلى باب الأسانسير بالدور الرابع وجدت الدكتور أسامة الغزالى حرب.. وفى أحد الدهاليز وجدت عبد البارى عطوان، وحسن عبد العظيم المعارض السورى على طاولة واحدة.. وفى عبق المكان وجدت أثر الدكتور عليّ الدين هلال أمين التنظيم بالحزب الوطنى المنحل(!!) وحسين عبد الغنى.. كان الجميع فى ضيافة العراقى الدكتور خير الدين حسيب والمعهد السويدى بالإسكندرية، يناقشون مستقبل الإسلام السياسى فى العالم العربى بعد فشل الإخوان فى مصر.. ومن نافذة غرفتى المطلة على جبل لبنان حددت موقع المعارض المصرى أيمن نور رئيس حزب غد الثورة الذى يقطن الجبل متسترا بأشجار الأرز والقسطل منذ أمد بعيد ليستقبل (بهدوء) اتصالات فلول الإخوان المسلمين الهاربين إلى قطر، بشهادة الأمريكية إبيجيل هاوسلونر فى تقريرها المثير الذى نشرته فى الواشنطن بوست فى 6 نوفمبر الماضي، وعرفت أن محمد حسنين هيكل الذى زار بيروت فى ذات المدة التى أقمت فيها قد وسط صديق عمره الصحفى اللبنانى الشهير مصطفى ناصر المستشار السابق للراحل رفيق الحريرى لإنجاز زيارته لرئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس مجلس النواب والسفير السورى بلبنان، وللسيد حسن نصر الله مرتين فى زمن قياسي، وعندما عدت إلى القاهرة كان برفقتى جورج إسحاق وعماد الدين أديب.. وحرمه، والظاهر أننى وصلت بيروت فى لحظة من لحظات مقهى سان جورج.. ذلك المقهى الذى لا يزال حتى اليوم على حاله غير بعيد عن صخرة العشاق فى الروشة.. شاهدا على أخطر اللقاءات الخلفية السرية فى العالم.. التى مهدت لحرق لبنان بنيران الحرب الأهلية التى اشتعلت لنحو 15 سنة.. دون أن يصيب المقهى أى شرر، والظاهر أيضا أننى لم أستوعب بالتركيز اللائق ذلك الاستقبال (البطال) الذى ظل يلح على عينى فى الطريق من مطار رفيق الحريرى إلى الفندق بمنطقة الفردان.. إذ كان الطريق بطوله يمتلئ بلافتات إعلانية ضخمة مكتوب عليها: كلمة الله يساعدها.. ما بتساعدها !! إذن كنت فى ذلك البلد الذى لا يساعد فيه الدعاء لله أحدا وفق ما تقرره إعلانات الشوارع.. و بالتالى – ومن أولها - على الكل أن يدبر حاله.. سواء تلك النساء اللواتى تتعرضن للعنف بشكل صارخ فى المجتمع اللبنانى والمقصودات بهذا الإعلان أصلا.. أو الرجال الذين يدعون لهن بكلمة ( الله يساعدها) عند ضربهن أو اختطافهن أو اغتصابهن أو سرقتهن أو حتى قتلهن.. أو تلك المدينة الرائعة التى يحط فيها الحمام على مسئوليته الخاصة فى ساحة النجمة مقابل مبنى مجلس النواب.. أو حتى الغرباء – من أمثالى – الذين يتوجب عليهم توخى الحذر وإلا راحوا فى تقاطعات رصاص الاغتيالات التى حضرت منها واقعة تصفية المجاهد فى حزب الله الشهيد حسن هولو اللقيس من عملاء الموساد الإسرائيلى الذين استخدموا سيارة مؤجرة ومسدسات كاتمة للصوت، عندما أتموا جريمتهم فى جراج البناية التى يسكنها فى بوليفار كميل شمعون جنوب العاصمة بيروت.. وطبعا هذا المجاهد لم يكن أفضل حظا من الجندى الشهيد من الجيش اللبنانى أو من المصابين الستة الآخرين الذين واجهوا عدوانا مدروسا من قبل الجماعات المسلحة فى الشمال من ضفتى الاقتتال، وبالذات باب التبانة فى طرابلس فى ظل انكفاء سياسى وانعدام أى دعم معنوى أو حتى بيان استنكار.. إنها القاعدة العامة: كلمة الله يساعدهم .. ما بتساعدهم .. فأى مصير ينتظر الغرباء أمثالى تحت المطر؟! هطلت أولى (شتوية) فى الرابع من ديسمبر وغرقت فى جنوبلبنان طيلة النهار واحتجزت فى (الأوزاعي) جنوب العاصمة لثلاث ساعات فى الليل.. فقد كانت بيروت قد غرقت فى (شبر مية).. وعندما استدعوا سيارات الإطفاء لشفط المياه من الأنفاق المكتظة بالسيارات الغارقة .. تعطلت سيارة الإطفاء.. ولم تجد بيروت من يساعدها لا هى و لا حكومتها التى خرجت الصحف اليومية تجرس قلة حيلتها، إذ قالت صحيفة المستقبل بالحرف: هنيئا لك أيها اللبنانى أنك تعيش فى وطن يعوم بالفساد والمفسدين وتسبح من حولك حيتان كافرة جائعة تصطاد الفريسة تلو الأخرى لا تشعر بالشبع، ولو انفجرت من التخمة ولن ترتاح أو تستكين حتى تمتص آخر نقطة دم من جسمك وتسحب منك النفس الأخير... لبنان الذى يتميز بأمطاره الغزيرة وثلوجه الكثيفة على الجبال غرق "بشبر مية" والمواطن وحده يدفع ثمن الاستهتار!! طبعا ينبغى الحذر عندما ننقل عن صحيفة المستقبل لأن وراء كل صحيفة وكل محطة راديو أو تلفزة أو حتى إعلان على الطريق .. يتخفى (متربص ما) بالآخر فى هذا البلد الصغير الذى لا يمكن أن يتحمل كل هذه الانقسامات والتجاذبات.. وفى الحدث الواحد توجد عشرات الزوايا التى تصل بالمواطن اللبنانى دائما لطريق واحد عنوانه: انعدام اليقين. اليقين هو الآخر ضحية لا تجد من يساعدها، وحتى عندما يصدر عن كتلة الوفاء للمقاومة برئاسة النائب محمد رعد أن استشهاد اللقيس هو نتاج عدوان صهيونى استغل مناخا يتنامى فيه الإرهاب التكفيرى فى لبنان تحت سقف مرجعيات معروفة داخل الحدود وخارجها، وعندما تعتبر كتلة الوفاء أن تفاقم الفوضى والتوترات الأمنية فى طرابلس هو الفائض الطبيعى للعبث الناجم عن احتضان فريق 14 آذار لأمراء "الأزقة" وتوفيره الغطاء لظاهرة التكفيريين ونهجهم واختلاق التبريرات لهم ولعبثهم .. عندما نصبح أمام يقين لا يقبل الجدل وبالذات ما يخص اللاعبين (المعروفين) بالداخل والخارج .. سرعان ما تنطلق آلات تبديد اليقين متهمة (حزب الله) بأنهم أمراء الكيماوى بمواجهة أمراء الأزقة الذين يحتضنون أولاد الشوارع .. فتتوه القضية الرئيسية.. حتى عندما تكون الرؤية بمعيار البصر والبصيرة .. مثلا يقول وليد جنبلاط إن إذكاء روح الفتنة وتأجيج مشاعر الانقسام يصب فى مصلحة إسرائيل، وأنه: فى خضم احتدام الصراع السياسى والمذهبى غير المسبوق الذى تمر به المنطقة تتزايد التعقيدات والتشابكات الداخلية والإقليمية وتتنامى التحديات والمخاطر الأمنية التى تستفيد منها إسرائيل بالدرجة الأولى إن لم تكن تقف خلف مجموعة منها، وهى التى تعتبر أن انفجار لبنان ودول المنطقة يشكل فرصة ذهبية لها لاستكمال المشروع الاستيطانى وإنهاء القضية الفلسطينية.. إن لبنان يتحول من جديد لساحة لتصفية الصراعات وتبادل الرسائل السياسية والأمنية ما يجعل انكشافه الأمنى مطلقا، وإذ بالأجهزة تغرق فى الوحول الداخلية اللبنانية عن قصد أو غير قصد.. وطبعا هذه رؤية لابد أن تدفع لاتجاه دعم قوى المقاومة ضد إسرائيل وأن تدفع للوحدة الوطنية، وأن تدفع باتجاه تعزيز استقلال لبنان.. لكن الكارثة أن هذا الكلام الذى قيل تعليقا على اغتيال الشهيد اللقيس هو فى جوهره دفاع عن الدور السعودى فى لبنان!! مثلث التربص وانعدام اليقين والخداع يظل هو العنوان الكبير الذى يظلل سماوات بيروت.. ولذلك لا يملك المرء هناك سوى الحذر.. حتى ذلك الفندق الذى نزلت به كان قبل وصولى بيومين - وربما فى غرفتى - يستضيف اثنين من الانتحاريين.. بعد فطورهما دفعا الحساب بهدوء واستقلا سيارة انفجرت بهما قبالة السفارة الإيرانية فى منطقة بئر حسن ذات البنايات الفارهة.. التى تواجه بالضبط منطقة (حوش القتيل) .. حيث البنايات العشوائية والمهدمة.. يفصل بينهما طريق فى الاتجاهين لا يمكنك من رؤية الحقيقة.. من يتربص بمن؟.. أهى البنايات الفارهة التى تحتضن أغلب محطات التلفزة غير اللبنانية أم البنايات العشوائية التى تتربص بالسفارات فى الجانب الآخر من الطريق .. هل بيروت هى مظلة رحيمة بالمشردين أم غواية المستثمرين .. أم أن هذا التحدى المعمارى هو واجهة خادعة لصراع آخر يدور تحت الجلد يتشابك فيه المال السياسى مع السلاح الأعمى بيد شركات الأمن الخاصة، وبيد عملاء إسرائيل وبيد رجال عصابات التهريب فى بلد يفتقر تماما لبنية تحتية لاقتصاد صناعى أو زراعى يحفظ استقلاله.. إنه حتى يفتقد إلى بنية أساسية.. لتطبيق القانون، فأى جدوى إذن من تلال الكلام فى السياسة إذا كان الموت من الجوع أو الرصاص هو الذى يرسم خارطة المصالح .. لا العكس. وبرغم كل تلك الجدارة التى أظهرها الموت فى وجودى كنت فى زيارة خاصة عنوانها الرئيس: جدارة الحياة.. وهنا مكمن خديعة أخرى.. فجدارة الحياة التى منحت جائزتها للمناضلة الجزائرية العظيمة جميلة بوحيرد فى حضور إعلامى وشعبى كبير فى مسرح قصر اليونسكو، كانت فى الحقيقة رصاصة أخرى حاسمة أطلقتها قوى المقاومة فى العالم العربى ضد ربيع الخيانة.. الذى ألصقوه زورا و بهتانا بالعروبة.. ذلك الربيع الوهمى الذى قال عنه رئيس مجلس النواب اللبنانى السيد نبيه برى بالنص: إن ما يسمى بالربيع العربى مع الأسف لا يمت إلى الربيع بصلة، لقد كنا نعتقد أن هناك تغييرات ستحصل فتبين أن هناك رجوعا إلى القرون الوسطى، لقد نسينا قضية فلسطين، وبدأنا نبحث عن مواضيع مذهبية وطائفية وفئوية بدلا من الانفتاح والنضال ضد إسرائيل التى هى خلاصة الاستعمار.. إن الأزمات المتراكمة فى العالم العربى تفرض وقعها فى لبنان أكثر من أى وقت مضى، وهذا ما يدفعنا إلى التركيز على نقاط اللقاء حفاظا على وحدتنا الوطنية وعلى منطق الحوار الداخلى الوطني. هذا الكلام قاله رئيس مجلس النواب اللبنانى عندما التقى والمناضلة جميلة بوحيرد والإعلامى الكبير غسان بن جدو رئيس قناة الميادين التى تبنت الاحتفال بها وبابنة المناضل الكوبى العظيم جيفارا فى توقيت خطير للغاية .. توقيت يحمل فيه السلاح عرب ومسلمون ضد العرب والمسلمين فى ربوع حدائق ما يسمى بلدان الربيع العربي.. بينما تتلذذ إسرائيل برحيق ثمار موت الجميع عربا ومسلمين.. وهى ترتع مطمئنة البال فى الجغرافيا والتاريخ لا شريك لها.. لا تجد منغصا عليها سوى المقاومة فى الجنوباللبنانى كان هذا المعنى مجسدا تماما.. تستطيع أن تصافحه بيدك وأن تملأ عينيك من سطوعه.. رجال المقاومة اللبنانية وراء كل حجر وكل شجرة تنحدر من الجبل الشاهق تتربص بالإسرائيليين..كان الصهاينة قد رفعوا درجة الاستعداد القصوى فى أعقاب اغتيال اللقيس على طول الحدود الجنوبية بداية من الناقورة حتى مرتفعات جبل الشيخ شرقا، وحركت إسرائيل دوريات مترجلة ومنقولة من عناصر المشاه المجهزة بأجهزة المراقبة وتحريك عدد من دبابات الميركافا بمواجهة نقاط حدودية متعددة مع لبنان.. هذا الرعب الذى يعاينونه بأنفسهم من (جبهتهم الشمالية) هو الكابوس الوحيد تقريبا الذى يجعل الربيع العربى فى أعينهم ثمرة مؤقتة الصلاحية .. لابد من التهامها فورا بدلا من اعتبارها رصيدا إستراتيجيا.. وربما كان هذا الشعور مرصودا من قبل محللى المعلومات فى حزب الله.. هؤلاء الرجال الذين لم أتمكن من معاينتهم بوضوح برغم أننى كنت طيلة الوقت فى الجنوب تحت أعين مجهودهم الاستخباراتى .. وفى مليتا بالجنوب التى تطل أيضا على إقليم التفاح، حيث قرروا إقامة صرح كبير يحكى من الأرض رسالة الشهداء للسماء .. عاينت بنفسى ما نجح فيه رجال مخابرات حزب الله فى تعرية الجهاز العصبى المركزى للعدو الصهيونى .. وشاهدت من غنائم المقاومة ما يشير بدلالة قاطعة كيف أن النصر على العدو الصهيونى أسهل ألف مرة من إنجاز النصر على عملائه .. فما أصعب وأقسى أن تقاتل عدوا أخرجه الله من صلبك.. وهو ما اكتشفته وعاينته فى معتقل الخيام الذى يقع على مرتفع يطل من جهة على منطقة إصبع الجليل بشمال فلسطينالمحتلة ومن جهة ثانية على مرتفعات الجولان.. هذا المعتقل الذى زجت فيه الاستخبارات الإسرائيلية والموساد بالمعتقلين اللبنانيينوالفلسطينيين منذ اجتياح 1982 كان قوام الجلادين فيه.. من عملاء إسرائيل فى المنطقة.. الذين كانوا يعاونون الإسرائيليين فى أعمال التحقيق والتعذيب والاعتقال من حول هذا المكان أيضا .. فى مرجعيون وحولا ( ثكنة البيطار) ومركز 17 فى بنت جبيل والقليعة وغيرها.. هؤلاء العملاء بعضهم لا يزال حيا يرزق .. بل إن واحدا منهم لا يزال يعمل حتى وقت كتابة هذه السطور فى سلك الأمن الداخلى اللبنانى واسمه أنطون حايك، وهو من بلدة القليعة.. ولم تتم محاكمته من الدولة اللبنانية.. لليوم!! عندما غادرت لبنان كان لدى يقين بأن حالة انعدام اليقين فى القاهرةوطرابلس وتونس وصنعاء ودمشق وبغداد .. هى لعبة يتم التحضير لها فى بيروت لترتد إليها.. كل يوم، وأن مقهى السان جورج (ملتقى الجواسيس) ليس سوى نصب تذكارى ينبهنا إلى الخداع الذى يمارسونه علينا ونمارسه على أنفسنا.. وحتى عندما حطت الطائرة اللبنانية فى مطار القاهرة كنت – من فرط شعورى بالخداع - قد فقدت أى اهتمام حتى بأن أسأل الناشط المصرى الكبير الشهير جورج إسحاق الذى كان يجلس فى مقعد ورائى طيلة الرحلة.. ماذا كنت تفعل فى بيروت يا رجل؟