عادل أبوطالب ربما تظل جنيف تلك العاصمة السويسرية موطنا سياحيا لا يطمح قاصدها إلى الاستمتاع فقط، بعطلة استرخائية في واحدة من أجمل بقع العالم، بل قد يجد فيها الباحث عن المتاعب الكثير من المفاجآت في عالم السياسة وكواليسه. فخلال لقاء مع أحد أصدقائي الذى يعمل في إحدى الهيئات الدولية في جنيف خلال زيارة له للقاهرة أخيرا، دار بيننا حديث مطول عن تطورات الأوضاع في المنطقة وكان أخطرها رواية عن تفاصيل الاتصالات التى سبقت الاتفاق الإيراني - الغربي الشهير حول برنامج طهران النووي –وهو الاتفاق الذى شهدت جنيف تفاصيله - بعد إشارات أرسلتها إيران عبرت فيها عن رغبتها في حل الصراع مع الغرب، الرواية تقول إن الإيرانيين أبلغوا أصدقاءهم في الخليج أنهم مهتمون بحل الصراع، لتدور الاتصالات في سريه تامة بعيدة عن عيون المتابعين والمراقبين تحسبا للفشل الذى قد يستدعي دفن القصة برمتها أو النجاح الذى ينتظر. اختارت طهران إدارة العملية بحنكتها المعروفة لتنطلق منها عملية أطلق عليها «ربط الخيول» ليخرج منها وإليها مبعوثون سرا لجس النبض، وصاغ أمريكيون وإيرانيون شروطا وانطلقت القناة السرية في طريقها في شهر مارس الماضي الأخير من وراء ظهر الرئيس السابق أحمدي نجاد، وفي واشنطن حددوا مجموعة قليلة من المطلعين على السر، فإما أن تنضج الاتصالات وإما أن تُدفن المغامرة. وتطورت الأحداث سريعا: فقد أرسل وليام بيرينز نائب وزير الخارجية، وجيك سليفان، مستشار نائب الرئيس، ليتفحصا مع وفد إيراني هل يمكن إنشاء تفاوض ظاهر في تعليق البرنامج الذري، وطلبت واشنطن خطوات بناء ثقة، وجاء الإيرانيون مع سلة مشتريات مليئة. وبعد شهرين هبطت طائرة عسكرية في الخليج. وروج وزير الخارجية جون كيري لذرائع لزيارته الأخيرة، ونجحوا في الإبقاء على الحوار سريا والتمهيد للطريق إلى جنيف، كما كانت الحال في القناة السرية التي وجدت في أوسلو بين إسرائيليين وفلسطينيين. وفي يونيو أجريت الانتخابات في إيران وأصبح روحاني يستطيع أن يسمح لنفسه بفتح صفحة جديدة وبإسقاط العقوبات، وحينما دخل مكتب الرئيس في أغسطس الماضي تلقى رسالة من نظيره أوباما، لكن حينما ضغط الأمريكيون لإتمام لقاء تاريخي أو حتى مصافحة في أروقة الأممالمتحدة، أعلن الإيرانيون أن ذلك لن يكون، فأسقط أوباما على روحاني المكالمة الهاتفية الأولى. الرواية تقول – وفقا للحديث الذى دار بيني وبين صديقي- يتبين الآن أنه تمت خمسة لقاءات عمل في الطريق إلى اتفاق جنيف. فمتى عرفوا عندنا بالقناة السرية؟ يُسرب المقربون من أوباما أن الرئيس أبلغ رئيس الوزراء نيتانياهو في نهاية سبتمبر الماضي. ولم يعطه صورة كاملة. وعرفت إسرائيل بطرقها أكثر من ذلك بقليل واستشاطت غضبا. وتلقى الوفد الإسرائيلي أمرا بمغادرة القاعة وقت خطبة روحاني في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وسمى نيتانياهو الغاضب الإيرانيين «ذئبا في جلد نعجة» وبيّن أن إسرائيل لا تجوز عليها ملابس التنكر الجديدة. التهديد الإيراني المستدام وما إن انتهى حوارنا عن أسرار وكواليس هذا الاتفاق حتى انتقلنا إلى السؤال، هل ما زال التهديد الإيراني قائما لدول الجوار الخليجي، برغم توقيع اتفاق جنيف، الكثير يدرك أن إيران لديها أهداف قومية مغلفة إيديولجيا وأمريكا تدرك ذلك تماما، لكن أوباما أعطى جرعة قويه لإطلاق يد إيران وفتح أبواب المنطقة أمامه، وبرغم التطمينات الأخيرة التى أطلقتها الإدارة الأمريكية على لسان مسئوليها في الخارجية والدفاع من أن العلاقات مع إيران يجب أن تبنى على القدرة العسكرية ولا تبدد مخاوف دول الخليج. فالقصة التى بدأت مبادرات من دول الخليج لتسوية الأمر مع إيران دراءا للمخاطر التى يمكن أن تمثلها الأطماع الإيرانية في منطقة الخليج، ولكنها درء لا يندرج في الصيغة الجماعية أى عن كل دولة على حدة ولعل هذا ما يفسر مسارعة دول الخليج كلا على حدة من خلق أجواء ثقه بينها وبين إيران بعد إعصار اتفاق جنيف الأخير، وفي هذا الإطار جاءت زيارة وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد لطهران وافتتاح مقر للسفارة الإماراتية هناك دون إثارة قضية احتلال إيران لجزر الإمارات الثلاث طنب الكبرى والصغرى وأبي موسى.كما أن وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف يعتزم القيام بزيارة للسعودية والكويت وسط أنباء عن مساع إيرانية لحل الأزمة السورية بإخراج الميليشيات الشيعية من هناك مقابل ترتيبات مستقبلية لدورها بالمنطقة. أيضا إيران من جانبها سعت إلى طمأنة دول الخليج ولعل تصريحات وزير خارجيتها التى أدلى بها أخيرا خلال زيارته الأخيرة لسلطنة عمان من أن الأصرار على السلاح النووي ضرب من الجنون، تصريحات قد يبدو مجملها مطمئن ويحمل في طياته رسالة إلى دول الخليج بأن إيران لا تمثل تهديدا لها. العودة إلى قصة الاتفاق ربما توضح مجريات الوضع في مستقبله على مختلف الأصعدة وهي قصة تعكس حجم المخاوف التى تراها دول الخليج من إيران وأطماعها في المنطقة، وأن التصريحات والجمل الدبلوماسية لا تخفي حقيقة تلك الأطماع.فقد هبت الأعاصير السياسية فجأة على منطقة الشرق الأوسط بعد أن شهدت تحولات عميقة بيت عشية وضحاها على خلفية الاتفاق الأخير بين القوى الكبرى وطهران بشأن برنامجها النووي، وقبلها تراجع الولايات المتحدة وحلفائها على القيام بعمل عسكري ضد النظام السوري. صحيح أن الاتفاق كان صادما للدول العربية والإسرائيليين، لكنه كان مدعاة للبعث عن نمط جديد في علاقات قد يهدم ركائز علاقات، استقرت على مدار أكثر من 4 عقود بالنسبة للعرب وأكثر من ثمانية عقود بالنسبة للإسرائيليين. وقد بدت في الأفق ملامح تحالفات جديدة في سماء الشرق الأوسط فرضها الإحباط من التغيرات في السياسة الأمريكية والتي تكرس لهيمنة إيرانية على المنطقة أو على الأقل مزيد من إثارة القلاقل بها، وكان لافتا للنظر أن الدول العربية لاسيما الخليجية في تعاطيها مع تداعيات الاتفاق النووي لم تركز فحسب على الأنشطة الإيرانية، وإنما تعدتها إلى أمور أخرى لا تقل أهمية لأنها تلقي بظلالها على الاستقرار الإقليمي ومنع دعم الجماعات والميليشيات الشيعية مثل حزب الله في لبنان أو الحوثيين في اليمن أو المعارضة في البحرين والتدخل في العراق وسوريا وأماكن أخرى، والسعي بشكل عام للوصول إلى القوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي والإقليمي بل وحتى الهيمنة. لكن الأمر قد لا يبدو في النهاية أخطاء أمريكية كما صورها الكثيرون من المراقبين والمتابعين للشأن الخليجي، بينما تبدو المسالة في حقيقتها أن تكاليف المواجهة مع إيران قد أصبحت مرتفعة بينما حلفاء أمريكا في المنطقة غارقون في أتون حرب طائفية لا يمكن الفوز بها بينما إيران تملك مفاتيح التهدئة في المناطق التى تريد الولايات المتحدة تهدئتها من فلسطين وحتى أفغانستان. كما أن فراغا سياسيا أمريكيا محتملا في المنطقه يمكن تعويضه بتحالف إقليمي جديد يقوم على التصالح مع إيران مع التسليم جزئيا بنفوذ طهران الجديد في المنطقة. فضلا عن أن محاولة الحكومات الغربية تصعيد الوضع ضد المحور الإيراني السوري انقلبت إلى العكس حيث عززت روسيا من مكاسبها في المنطقة. يبقى في النهاية أن أقرب حليفين للولايات المتحدة في المنطقة، وهما إسرائيل والمملكة العربية السعودية يرددان عبارات الخيانة ويطالبان حلفاءهما بدعم محاولة عرقلة الصفقة في الكونجرس، فيما يرى آخرون وعلى رأسهم الكويت، أن المخاطر التي تواجهها وجيرانها من دول مجلس التعاون الخليجي جراء سلوكيات إيران، تتجاوز المخاطر التي تواجهها أي دولة أخرى وأن بعض أصولها أو مصالحها الحيوية يمكن أن تنتهي ويتم التهامها. لتبقى الصفقة الأخيرة مع الغرب على خلاف بين الحلفاء وحتى الأعداء وفي النهاية تظل حاملة لقب «صفقة الشياطين» إلى أن يثبت العكس.