د. ياسر ثابت أنت تقرأ عن الفتوة، وتعلم من هو البلطجي، لكنك لم تتخيل يوما أن تجد من يحدثك عن الفتوة الذي يتصدى للاحتلال، وزميله الذي يغني ويحاول أن يطرب، ولو بالعافية.. عن أغاني الفتوات نتحدث، وعن تجسيدهم في الأعمال الأدبية نتكلم.. فعالم الفتوات حافل بالأسرار التي يجهلها كثيرون حتى الآن. والحقيقة أنه على الرغم من تزايد الجماعات الهامشية وانتشارها، فإنها ظلت لفترات متفاوتة تندرج تحت باب المسكوت عنه. لم يأخذ هذا الملف الساخن حقه من الدراسة والبحث فى المؤلفات والدراسات ذات الصبغة التاريخية، على عكس الأدب الذى اتخذ منها مادة حية، خصوصا فى الكتابة الروائية، مثلما فعل نجيب محفوظ فى «الحرافيش» و»أولاد حارتنا» و»حكايات حارتنا» و»دنيا الله» و»الثلاثية». بل إن الأديب الفائز بجائزة نوبل استخدم بعض الحكايات الحقيقية وأدخلها فى نصوصه، كما استخدم فى ثلاثيته حكاية فتوات الحسينية الذين اشتهروا بأنهم واجهوا الإنجليز، ومن أشهر ما فعله الفتوات أيامها أنهم قاموا بحفر حفرة كبيرة وأسقطوا فيها سيارات الإنجليز، وهى الحادثة التى ذكرها محفوظ فى رواية «بين القصرين»، عندما قام بردمها بطل الرواية السيد أحمد عبدالجواد. ويُنهى محفوظ سيرة عاشور الناجي، فتوة روايته الأشهر «ملحمة الحرافيش» والتى تناول فيها سيرة عشرة أجيال من فتوات القاهرة، بالقول:»انتصر عاشور الناجى على فتوات الحارات المجاورة فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل، فحق لها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت فى داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة»، وكان عاشور يسهر فى الساحة أمام التكية يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه داعيا:»اللهم صُن لى قوتى وزدنى منها، لأجعلها فى خدمة عبادك الصالحين». وفي»ملحمة الحرافيش» ساوى عاشور ربيع الناجى بين الوجهاء والحرافيش، وفرض على الأعيان إتاوات ثقيلة، وحتَّم عاشور على الحرافيش أمرين: أن يتدربوا على الفتونة حتى لا تتراجع قوتهم يوما فيتسلط عليهم وغدٌ أو مغامر، وأن يتعايش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات، وبدأ عاشور بنفسه، فعمل على بيع الفاكهة، وأقام فى شقة صغيرة مع أمه، وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأقصى درجات النقاء. ولكن يتعين علينا أن نلاحظ قبل ذلك كيف عالج محفوظ فى تلك الملحمة جانبا مهما من هذه القضية بعمق بالغ، فقد تعاقب على الحرافيش عدد كبير من الأبطال»الفتوات» كل منهم يقضى على الفتوة الذى يسبقه، مبشرا بعهد جديد من العدل والنور بعد أن امتلأت بالظلم والجور، وفى كل مرة يكتشف الحرافيش أنهم وقعوا ضحية الفتوة، «البطل» الجديد، وأن ما منّاهم به ما هو إلا أضغاث أحلام، حتى تولى الحرافيش أمرهم بأيديهم، فأزاحوا بنبابيتهم آخر الفتوات. ودخل الفتوة السينما أيضا، بفضل محفوظ، من خلال عدد كبير من الأفلام، مثل «فتوات الحسينية» (إخراج نيازى مصطفى، 1954)، و"الفتوة" (إخراج صلاح أبو سيف، 1957)، و»الحرافيش» (إخراج حسام الدين مصطفى، 1986) و"التوت والنبوت" (إخراج نيازى مصطفى، 1986)، و"فتوات بولاق" (إخراج يحيى العلمي، 1981)، و"شهد الملكة" (إخراج حسام الدين مصطفى، 1985)، و"المطارد" (إخراج سمير سيف، 1985)، و"الجوع" (إخراج على بدرخان 1986). وعلى الشاشة الصغيرة، تناول عالم الفتوات أكثر من مسلسل تليفزيونى بينها "السيرة العاشورية" (2002، إخراج وائل عبدالله). بعيدا عن أعمال نجيب محفوظ، ظهرت أفلام مثل "سعد اليتيم" (إخراج أشرف فهمي،1985)، الذى شارك فى كتابته يسرى الجندى وعبدالحى أديب. ويمكن أن تلقى نظرة على فيلم "الهلفوت" (إخراج سمير سيف، 1985)، ذلك أنه يتضمن فكرة جديرة بالرصد، الفتوة عسران، بأداء صلاح قابيل، فى أحد المشاهد المهمة، يطلب من عرفة عادل إمام مساعدته على خلع جلبابه. يكتشف عرفة أن ضلوع عسران مكسورة، وأنه يعانى وهنا شديدا، فيقول بطريقته التى تجمع بين البلاهة والصدق ولا تخلو من حكمة "عالم أونطة فى أونطة"، أى أن خوف الناس يضيف أوهاما إلى قوة وقدرة فتوة لا حول له أو طول، وسنشهد، فيما بعد، هزيمته السهلة، على يد الضعيف عرفة. وحسب الباحثة ناهد صلاح، فقد "عبّرت السينما المصرية عن نموذج الفتوّة كبطل شعبى فى أغلب الأحيان، على أنه نموذج إيجابى يناصر المظلومين، وينفّذ قوانين العدالة بطريقته". وإذا كانت شخصية الفتوة نجم شباك فى السينما، فقد كان الفتوة نفسه نجما بالعافية فى عالم الغناء! إذ قد يندهش البعض حين يعلم أن عددا من الفتوات خاضوا تجربة الغناء، ومن هؤلاء أبو الروس وجليلة سكسكة وغيرهما، عن هذه التجربة "الفنية" التى كادت تندثر، ولم يتبق من أبطالها وعارفيها إلا أقل القليل، يحدثنا باحث متخصص من واقع معايشته لتلك الفترة ، هو محمود الهندي. وأغانى الفتوات لمن لا يعلم، هى قالب غنائى شديد التميز، عرفته الأحياء العريقة فى مصر عقب خفوت صوت أناشيد ثورة 1919، ولأن للفتونة رجالها المعدودين، وتقاليدها العتيقة، فإن رجالها صاروا ندرة من المؤدين، يتميزون بالشجاعة والنخوة والإقدام، إلى جانب خشونة الصوت وغلظته، وتتكون جوقة غناء الفتوات من مطرب شعبى ومجموعة من الكورس الرجالى والنسائى يطلق عليهم "العياق"، وهم يرددون بعض الجمل الغنائية خلف المطرب لتأكيد مفهوم ما، أو للتحذير من فعل ما. ويقول محمود الهندى إن هناك ما يجمع بين تلك الأغاني، حيث يبدأ أستهلالها بلحن خالد الذكر سيد درويش "السلام الإسكندراني"، ثم ينتقل إلى المقام الموسيقى والضرب الإيقاعى الخاص بكل أغنية، عرفت بدايات "أغانى الفتوات" مع المطرب المؤلف الملحن أحمد عثمان الشهير بإبراهيم جكلة، وهو صاحب لحن أشهر صورة غنائية بالإذاعة "عيد ميلاد أبو الفصاد"، وكان له دوره الكبير فى تزعم مظاهرات ثورة 1919 مع جوقة العياق الخاصة به. ونحن نعرف إبراهيم جكلة هذا من خلال مشاركته فى أوبريت إسماعيل يس فى سراى المجانين الذى غنى مقطع "نيرون" الذى يريد إشعال روما، ومن أهم أغانيه: العياق: الشومة النومة كوا النومة جكلة: شومة الزقومة العياق: زقومة النومة كوا النومة جكلة: سبهالى جدى وارتاح فى النومة من ساحة لساحة مالهاش فى الراحة سبقانى وراحة ترقص فى عزومة العياق:يا عزومة النومة كوا النومة جكلة: بص لإنجازها تجرى لمن عازها لا هى خايخة ودايخة ولا كلها بارومة ومما يذكر أن إبراهيم جكلة، الذى ظهر أيضا فى فيلم "صراع فى الوادي" (1954، إخراج يوسف شاهين)، هو المؤسس الأول لنقابة العوالم 1943، وهى أول تجمع للمطربين والممثلين، وكانت جوقة عياق جكلة مكونة من: إسماعيل يس، محمود شكوكو، حسن فايق، فايد محمد فايد، سيد سليمان، محمد فوزي، عبدالمنعم مدبولي. ومن أشهر من غنى أغانى الفتوات "المعلم قنزيح"، وهو مطرب أجش الصوت، وله طباعه الخاص، فإذا حضر إليه أحد أصحاب الأفراح والليالي، فإن رفضه وقبوله الغناء يتم وفق استساغة الشخص من عدمه، وظل يبدأ الغناء، مشيرا إلى مزايا كل فتوة من الحاضرين، ثم ينتقل من فتوة إلى فتوة، ويصفق له الفتوات جميعا دون حدوث أى شجار. ولعل الذاكرة تحفظ دور فريد شوقى "ملك الترسو" فى فيلم "بداية ونهاية" (إخراج صلاح أبو سيف، 1960)، حيث رأيناه يؤدى دور البلطجى الظريف "حسن" وهو يغنى لمعازيم الفرح بالعافية، وعندما يعترض أحد المدعوين على رداءة الأداء الغنائي، يأتى الرد سريعا من فريد شوقي، إذ يضربه على طربوشه ليكبسه فى رأسه، وهو يغنى بصوته الأجش النشاز "والله زمان.. زمان والله". وبمنطق القوة، يدور الحوار التالى بين حسن وأصحاب الفرح: - إيدك على بقية المعلوم. - معلوم إيه بقى يا سى حسن ما الفرح باظ على إيدك أهو! - بس ياض أنا بتكلم مع أبوك، أنا غنيت ولا ما غنيتش؟ - غنيت يا سى حسن..غنيت. - خلاص إيدك على بقية الحساب، وتانى مرة تبقى تستنضف المعازيم، مش تلملى اللمامة بتوع الحتة وتقولى الفرح باظ. ربنا يتمم بخير. - ربنا يخرب بيتك! وفى الثقافة الجماهيرية، تبنى رائد الفن الشعبى زكريا الحجاوي، تراث أغانى الفتوات، وقام الملحن صلاح محمود بتلحين عدد من تلك الأغاني، وكانت الفرقة الموسيقية مكونة من عازفى الآلات النحاسية إلى جانب الأوكورديون والطبلة، واستمرت فرقة الآلات الشعبية فى تقديم هذا اللون ضمن برنامجها فى ليالى سرادقات السيدة زينب والحسين وحدائق الدرّاسة. ثم لم يلتفت أى مسئول فنى إلى هذا اللون من الغناء، فتركوه يتوارى ويضيع ويندثر، فلا السينما سجلته، ولا الإذاعة، ولا التليفزيون. ومن الاندثار الفني، نعيد عقارب الساعة إلى الوراء، لنتذكر البدايات الاجتماعية للفتوات، ويستقصى الباحث الدكتور سيد عشماوى الجذور التاريخية لنشأة هذه الجماعات فى مصر كمحصلة لظروف وأوضاع مجتمعية سياسية واقتصادية واجتماعية، خصوصا فى الفترة منذ أواخر العصر المملوكى وحتى البدايات الأولى لعصر محمد علي، كاشفا طبيعة الدور الذى قامت به، وتمردها وصراعها مع الواقع ونمط العلاقات السائد فى المجتمع آنذاك، كما يرصد ويحلل مسارات هذه الجماعات وبخاصة النشالين والبلطجية وشذاذ الآفاق وقطاع الطرق، وأثر ذلك على مكانة السلطة الحاكمة ونسق تماسكها فى المجتمع. صاحبت نشأة حركة هذه الجماعات مجموعة من المصطلحات والمفاهيم والدلالات. من هذه المصطلحات التى كانت تطلق على هذه الجماعات: الغوغاء، النهابة، الحثالة، الهباشة، الجراد، الفلاكة، المناشير، العيارون، العياق، الفتوات، الخلابص، الأوغاش، الفلاتية، الحرافيش، العصبجية، وغيرها. وبرغم تباين هذه المصطلحات أحيانا، فإنها عكست الموقف الفكرى المحدد تجاه هذه الجماعات وأطلقت عليهم لتوصيف أفعالهم ومواقفهم المتدنية المتمردة، كما أن هذه المصطلحات عكست تصورات الفئات العليا فى السلم الاجتماعى عن هذه الجماعات ولتشويه الحركية الاجتماعية والسياسية لهم، وتسليط الضوء عليهم كجماعات هامشية منبوذة اجتماعيا، تحترف السرقة والنهب والسلب والبلطجة وتتمرد على القانون والأعراف. يبقى أن نشير إلى أن للمرأة الفتوة نصيبها فى السينما. ولعل أشهر كومبارس لعبت دور الفتوة فى السينما المصرية هى فايزة عبدالجواد، صاحبة مقهى بعرة فى شارع عماد الدين وسط القاهرة، والتى بدأت رحلتها فى السينما فى فيلم "تمر حنة" أمام رشدى أباظة ونعيمة عاكف (1957، إخراج حسين فوزي). على أن أشهر من قدمت دور المعلمة الفتوة هى الراحلة تحية كاريوكا، التى يُذكر لها على سبيل المثال لا الحصر دورها فى أفلام "المعلمة" (1958، إخراج حسن رضا)، و"سمارة" (1956، إخراج حسن الصيفي) وأيضا دورها فى "شباب امرأة" (1956، إخراج صلاح أبو سيف) الذى جسدت فيه شخصية المعلمة شفاعات، رمز الأنوثة والغواية، ولامست عبلة كامل خيط البلطجة والفتوة فى فيلم "خالتى فرنسا" (2004، إخراج على رجب). هكذا تداخلت السينما والألحان والروايات مع عالم الفتوات، لتقدم لنا لوحة لها ألوانها الخاصة للمجتمع والتاريخ فى المحروسة.