بعد مرور عام على رحيل الرئيس المخلوع حسنى مبارك إلى المربع رقم واحد أو قل إن شئت الدقة إلى المربع رقم صفر، فالحروب تشتعل حيث الثورة المضادة يشتد عودها يوماً بعد يوم، واستثمارات قادتها باتت فى الدم، وعدد الشهداء منذ 11 فبراير العام الماضى وحتى الآن، بات يقارب عدد شهداء ما قبل الرحيل، وشهداء ساعة واحدة فى مذبحة بورسعيد (74 شهيداً) تجاوز عدد شهداء يوم واحد من أيام حرب أكتوبر 1973. انتظر الوطن إجراءات, لكن البطء من سمات نظام لم يكتمل سقوطه، بل شهد الوطن إطلالات سياسية وإعلامية من بقايا النظام ظهرت على استحياء ثم فرضت وجودها بالأمر الواقع، وسط أقاويل عن حيازتها معلومات ووثائق تتعلق بقيادات فى السلطة تهددهم بها وتضغط بها عليهم، جعلت سجن طرة "مقر الحكم" الذى تصدر منه الأوامر للأدوات التى تمرح فى طول البلاد وعرضها. بمرور الوقت أيضاً تسقط شخصيات سياسية تصدرت المشهد، اختلف الهدف النهائى لها من الثورة عن هدف الثورة، وهو بناء دولة وطنية حديثة تليق بمصر والمصريين، فبعض هذه الشخصيات رأت رحيل مبارك هدفاً نهائياً، وأخرى اعتبرت الثورة تخليصاً للبلاد من جناح سياسى فى السلطة لصالح جناح آخر كهدف نهائى، وثالثة اكتفت من الثورة بوصولها للسلطة كهدف نهائى، واتفقت هذه الأطراف على ترميم "نظام مبارك" وليس إسقاطه، فجمع بينهما "صفقة" بإجهاض الهدف النهائى للثورة، فمبارك على سبيل المثال يحاكم على جرائم اقترفها ورجاله بعد 25 يناير 2011، فبات السؤال لدى الثوار: لماذا تجاهل ما اقترفوه فى حق الوطن قبل هذا التاريخ؟ بمعنى آخر: لماذا قامت الثورة إذن؟ وبرغم ذلك يستشعر أطراف الصفقة الخطر من فشل الرهان على عودة "الثوار إلى ثكناتهم" فتصاعدت عمليات تنفيذ مخططهم لنشر الفوضى والقتل، ولإثارة مشاعر الناس وحضهم على كراهية الثورة والثوار، وما مذبحة بورسعيد سوى حلقة من هذا المسلسل الذى لم تنته حلقاته بعد. لكن الثورة مستمرة حتى تحقيق أهدافها، والقوى التى قفزت على أو استفادت من الثورة فى حالة اضطراب، تتجلى فى تضارب مواقفها من أجهزة الدولة وتشخيصها للتطورات الأخيرة وأساليب التعامل معها، فشرعية القوى السياسية الصاعدة، ومجلس الشعب "المنتخب" باتت على المحك، كممثلين للشعب وثورته أم كمقاولي ترميم للنظام السابق، أتاحوا لعصاباته وفلوله ولثورته المضادة الفرصة للانقضاض على الثورة. وفى المقابل تتوالى الدعوات للعصيان المدنى، والشائعات عن تشكيل "كتائب" للقصاص والانتقام من القتلة في غياب العدالة الناجزة وتنفيذ عمليات اغتيال سياسى تملأ الفضاء، إنها دعوات وشائعات ترمى إلى نفس الهدف، إسقاط الدولة، ويتوافر لها الغضب الكافى لإحراق العالم وليس مصر. وفى الوقت نفسه، فإن الشعار الذى لايزال يتردد صداه حتى الآن «يسقط حكم العسكر»، يبدو أبعد من كونه مطالبة برحيل سلطة سياسية (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) أعلنت التزامها بتسليم السلطة إلى رئيس مدنى منتخب وفق جدول زمنى ارتضته الغالبية، فالإصرار على هذا الهتاف عطفا على سحب الدكتور محمد البرادعى اعترافه بالعملية السياسية (التى بدأت بتشكيل لجنة تعديل الدستور وتنتهى بانتخاب الرئيس مرورا بالاستفتاء والانتخابات النيابية) وذلك بانسحابه من السباق الرئاسى، يطرح من جانب قائليه وجهة نظر مفادها، أن العملية السياسية برمتها باطلة؟! وكأن العملية السياسية وما يرافقها من أحداث تبدو كسباق مع الزمن بين أنصار الثورة والمتأملين فى إجهاضها. مثل هذا الوضع يشكل خطورة على البلاد، ويجعل عودة الجيش - وهو المؤتمن - للثكنات قبل استكمال العملية السياسية وتصحيح ما شابها من أخطاء، أمراً بالغ الخطورة على تماسك المجتمع كله. قبل 1952، كانت السلطة "مرمية فى الشارع" فالملك غارق فى مشاكله العائلية، وحزب الأغلبية (الوفد) مشغول بالصراعات الداخلية، وشبابه (الطليعة الوفدية) تمردوا على سياساته بعد انشقاقات قيادات نافذة فيه، والجيش عائد من حرب فلسطين بمشاعر انكسار، فخرج "الضباط الأحرار" واستلموا السلطة فى عدة ساعات وقادوا ثورة التف الشعب حولها وحماها. وبعد عام على رحيل الرئيس المخلوع تذهل الأوضاع فى مصر الثوار بأكثر مما أذهلت ثورتهم العالم!! لكن قلب الثورة لايزال ينبض، والجيش الذى حمى ثورة الشعب هذه المرة يمسك بزمام السلطة والشعب معه، وأعداء الثورة وأنصار الفوضى معلومون للكافة، فلم يتبق سوى استكمال عملية هدم النظام السابق فتكلفة التراجع عن المضى فى تحقيق أهداف الثورة أفدح مما يتصور البعض أنها أقل تكلفة من الاستمرار فيها. جيش مصر الذى انحاز لثورة الشعب بات هو الآخر على المحك لإحباط مخطط نشر الفوضى والصفقات المشبوهة ومخططات الوقيعة بينه وبين الشعب، والاستثمار فى الدم لإجهاض الثورة بإراقة المزيد من دماء الثوار، فالجيش الذى علق الشعب عليه الآمال لإسقاط مشروع التوريث وبيع أصول البلد لديه رصيد تاريخى هائل لدى شعبه يكفيه للمصارحة وللصمود والانتصار فى معركته مع شعبه ضد كل الضغوط والتهديدات الداخلية والخارجية، فالشعب الذى فخر وتفاخر بجيشه عام 1973، بعد نكسة 1967، واع بأن السياسة هى دائماً التى تخذل جيشه، والأخير حين يحقق آمال شعبه فى العزة والكرامة فإن الشعب يغلق صفحة الماضى، فهذا الشعب الذى أذهل العالم بثورته السلمية لن يهدأ له بال حتى تحقق ثورته أهدافها. [email protected]