حسناء الجريسي - داخل مكتبه بمستشفى د. بدران، والذى تعلوه لوحة مكتوب عليها أبيات شعر تمجد التعليم، وصور تملأ جدران المكتب وبجوار تمثال من البرونز وصورة لشقيقه الذى استشهد أثناء حرب 1967، يجلس العالم الجليل والجراح العظيم الذى لم يفارق المشرط يديه للآن، ينظر وهو على مشارف العام 95 من عمره بنظرات ملؤها الحزن والحسرة وقلب يكاد يدمى. يقول د. إبراهيم بدران بكل حسرة: أنا تعبان عشان مصر، ذلك الرجل الذى عاصر ثورات عديدة، وعمل رئيسا لجامعة القاهرة وبفضل جهوده العلمية وحرصه على انتشار وازدهار المنظومة التعليمية فى مصر ساعد على إنشاء العديد من الكليات منها كلية الإعلام والآثار والاقتصاد والعلوم السياسية، كما عمل وزيرا للصحة أثناء تولى السادات حكم مصر، لكنه لم يلبث فى منصبه طويلا ونأى بنفسه عن الكثير من المشاكل وقدم استقالته. مشوار طويل ومسيرة من العطاء لم تنته بل امتدت ليترأس المجمع العلمى المصرى بعد الحريق الذى أتى على محتوياته وجدرانه. فى البداية كيف تقرأ الوضع الراهن فى مصر؟ الوضع فى مصر مؤسف، فهناك ظواهر لم تكن فى الحسبان، بسبب الاختلافات بين الأجيال فى التصور بإعادة بناء مصر بالصورة التى لم نستطع الاتفاق عليها، الثورة كانت أملا كبيرا، لكن نتائجها لم تكن على المستوى الذى كنا نتمناه، فهى أبرزت بعض الصفات الموجودة فى أعماق الإنسان المصرى، ومنها ما هو مفرح وما هو محزن، المفرح أن الشعب المصرى شعر بأن مصرجزء منه وهو جزء منها، شعر بأنه يمارس حقه فى اتخاذ القرارات وستتحقق آماله وأحلامه فى تحقيق التقدم والتطور، فى الأيام الأولى للثورة كان الناس متفائلين ويحسون بأنهم اقتربوا من الحلم. لكن سرعان ما حدث غير المتوقع، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه،حدثت تغيرات وظهرت اتجاهات لم نكن نتمنى ظهورها كمواطنين أفنوا حياتهم فى خدمة هذا الوطن العظيم، لم أكن أتمنى أن أعيش مرحلة يظهر فيها الانشقاق بين كتل الشعب المصرى بالصورة المزعجة التى نشاهدها، من اختلافات فى الرأى دون وجود سبيل للوفاق المطلوب، حتى نجتمع لإعادة بناء الوطن، الوقت يضيع، ونسأل الله أن يعيد الألفة بين أطراف هذه الأمة حتى يؤهلوا مصر للتفكير فى مصيرها فى ظل الأزمات المتتالية التى تعصف بها، ومنها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأدعو الله أن يؤهل لنا من يلتجئ إلى العقل لتوحيد المسار للوصول إلى هدف كل مصرى، فمشاكلنا كثيرة وتطلعاتنا كبيرة وقدرتنا هائلة ومصادرنا كافية، كل ما نحتاجه هو العقل حتى تتألف القلوب ونتجه إلى الإصلاح. إذن كيف تكون بداية النهضة؟ لا سبيل لتغيير أى شىء إلا من خلال التعليم، عندما رشح بوش الأب نفسه للمرة الثانية لتولى الرئاسة سئل: كيف تواجه مشاكل أمريكا ؟ قال : هناك مصدر واحد لحل المشاكل فأى مشكلة لا تحل إلا عن طريق التعليم، فهو من بنى العالم فى 100سنة ، للأسف نحن تنازلنا فى التعليم ونسينا قيمة المدرسة والمدرس. وما هذه الفرص فى رأيك؟ فرص التقدم المتاحة بتغيير مجالات التعليم والبحث العلمى والتطوير التكنولوجى، والقضاء على الأمية، فهى عبء على المجتمع، الخبرات عندنا أصبحت مكبوتة لا تستغل، برغم أننا فى القرون الماضية وصلنا إلى مستويات، كان العالم يحسدنا عليها، الآن مصر نكبت ونسيت وليس هناك أقسى من إهمال القدرة التى تسبب تحطيم كل القوى الكامنة داخل هذا البلد، نسينا التصنيع بعدما كنا نصنع الطائرات، للأسف الصناعات تأخرت والقدرات هربت ونحن فى مرحلة ضياع، وأصبح لدينا 90 مليون مواطن فى غيبوبة، التلميذ يذهب إلى المدرسة وهو لا يدرى إذا كان سيعود إلى بيته سالماً أم لا، هذه أول مرة فى تاريخ مصر يحكمها رئيس حاصل على الدكتوراه، لكن الظروف المحيطة والتيارات الخفية تلعب دورا فى تحطيم القدرات، والشعب غير القوى لا يمكن أن ينجب حكومة قوية. كيف نطور المنظومة التعليمية بعد وصولها إلى حالة مشهودة من التردى؟ تطور التعليم يأتى عن طريق تكوين المدرس، زرت بلادا كثيرة، كليات التربية فيها معسكرات لتربية جيل يغرس فيه حب بلده، للأسف أستاذ الجامعة عندنا قزم، عندنا75ألفا يحملون الدكتوراه فى مجالات البحث العلمى ولم يؤخذ رأى أصحابها فى أى قرار, ما جعل بعضهم يهاجر والبعض الآخر يكفر من ناحية عدم قدرته على المساعدة فى بناء الوطن، فبعدما كنا فى مصاف الدول الباذخة فى الخمسينيات والستينيات، وقعنا فى مطبات سياسية خطيرة وأغفلنا التعليم والبحث العلمى. فى عام 1984، كنت رئيساً لأكاديمية البحث العلمى ووقتها قمت بوضع سياسة تكنولوجية لمصر، هل المناخ العام فى المجتمع بكل ما يكتنفه من ارتجال فى التخطيط وأصولية دينية ممكن أن يعرقل شيوع التنمية العلمية فى المجتمع؟ فى أوائل الثمانينيات بدأنا نفكر فى وضع سياسة تكنولوجية لمصر، وأخذنا نشتغل فيها ثلاث سنوات، ورسمنا خطة متكاملة على نمط الخطة التى وضعتها الهند، فهى أول دولة نامية تقتحم المجال التكنولوجى فى الخمسينيات والستينيات وأخذت أنديرا غاندى على عاتقها إعادة بناء الهند، واستعانت ببعض العلماء المشهورين، واستطعنا بالتعاون مع الهند إنتاج طائرة .. وقمنا بعمل صاروخ لكن كان ينقصه جهاز التوجيه، وأجهضت هذه المحاولات من قبل إسرائيل، وتم تهديد العلماء وأصيب بالفعل اثنان من العلماء الألمان بالعمى.. نفس السيناريو الذى يجرى الآن مع إيران وكأن التاريخ يعيد نفسه . ويجب ألا تطول غفوتنا، لأن المجال العلمى المتاح أمام العالم الإسلامى تغير عقب أحداث سبتمبر2001، فأمريكا قررت إغلاق أربعة عشر مجالا للعلوم المتقدمة فى وجه الدول الإسلامية بصفة عامة. باعتبارك رئيسا للمجمع العلمى ما الآليات التى يقوم عليها المجمع العلمى فى المرحلة الراهنة؟ نرغب فى عمل مجمع علمى عربى تمثل فيه كل الدول العربية، لأننا أصبحنا أمام العالم أمة لا تتحد، وتحدثت فى هذا الأمر مع حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمى، ووعد بأن يتعاون معنا، أود أن أنجز فى المجمع العلمى ما أنجزته فى المجالس المتخصصة وهو تجمع عربى بين دول لا تتفق فى السياسة لكنها من الممكن أن تجتمع عن طريق الروافد التى تحقق التقدم، فلا توجد دولة ترفض العلم أو البحث العلمى أو التطوير الذى يؤهلها للمنافسة فى السوق العالمية. ماذا عن ال 4 آلاف نسخة التى أهداها حاكم الشارقة للمجمع العلمى؟ حاكم الشارقة انتدب إعلاميا من فرنسا ليقوم بفهرسة 4 آلاف نسخة، واطلعنا عليها أثناء وجودنا فى الشارقة لحضور أنشطة معرض الشارقة للكتاب. ماذا عن الأكاديميات الثلاث؟ عندما وجدنا اهتماما من سمو الأمير حاكم الشارقة بإعادة إحياء المجمع العلمى، فكرت فى عمل مجمع علمى عربى يضيف إليه قدرة جديدة فى توجهها لا تختلف عن أهداف المجمع العلمى المتمثلة فى الثقافة والتركيز على علوم العصر والاهتمام بالوضع الحالى للعلوم الإنسانية من منطق وفلسفة ولغة وقانون واقتصاد وشريعة وآثار. وما المغزى من إنشائها؟ نرغب فى عمل أكاديمية للعلوم والطبيعة والنبات والحيوان والزراعة وأكاديمية للإنسانيات للقانون والإدارة والاقتصاد والآداب والمنطق وأخرى للغات، نريد أن نربط العلوم بالتعليم، وكيف نوصل معارف القرن ال 21 إلى التلميذ فى الابتدائى ونرتقى به فى مرحلة الثانوى ثم الجامعى حتى يكون لدينا طلاب قادرون على النهوض بمستقبل هذا البلد، وحتى نجمع شمل الأمة فى إطار العلم والثقافة والمعرفة بهدف دراسة المشاكل الحادة والمزمنة التى تعتريها ودراسة الآمال المعقودة للحاق بالنهضة العلمية. فى أحداث التظاهر حول الدستور الجديد تعرض المجمع للحريق للمرة الثانية فماذا عن وسائل التأمين؟ سنجعل الزجاج من النوع المسلح وسنجعل جدران المجمع من الحديد طالما نعيش فى عالم لا يقدر قيمة المعرفة. متى تبدأون فى وضع حجر الأساس لهذه الأكاديميات إذن؟ نحن على وعد من الشيخ الدكتور سلطان القاسمى المحب لهذه الأمة والمجاهد لنشر العلم والمعرفة بالتعليم وإنشاء المكتبات، جلست مع الرجل لمدة أسبوع فى الشارقة واستمعت إليه ووجدت فيه قيمة التنوير والمحبة العلمية، وما وصلنا إليه فى الأكاديميات عبارة عن تصور للمبنى قام به شيخ المهندسين المعماريين الدكتور على رأفت الذى صمم المشروع، وسنسميه المجمع العلمى للعلوم، وتتفرع منه الأكاديميات الثلاث. ماذا عن الزيارة المرتقبة لوفد الخبراء الفرنسيين للمجمع العلمى؟ تم تأجيلها إلى شهر إبريل المقبل، حتى تكون أوضاع مصر قد استقرت،وأتمنى أن يتم التوافق وتحدث النهضة المنشودة. الملاحظ أن كل أعضاء المجمع العلمى من كبار السن ألا ترغبون فى تجديد الدماء ؟ نحن نجدد شباب المجمع بإدخال مستوى سنى أصغر، فنحن نجتذب الشباب الواعد. وماذا عن أنشطة المجمع هل ستقتصر على اللافتة ؟ أنشطة المجمع تحددها النخبة العلمية والمعرفية، والتكنولوجية والاقتصادية لخدمة الوطن ودفع قضايا المعرفة والتعليم والحرفية المتميزة إلى الأمام.