صدقت الجمعية التأسيسية على مشروع الدستور الجديد الذى رفضته المعارضة وأعلن الرئيس محمد مرسى عن الدعوة للاستفتاء فى 15 ديسمبر الجارى ليحسم الأمر حول راهن ومستقبل المشهد السياسى وإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية المرتبكة والمتعثرة منذ عامين. ويأتى إقرار مشروع الدستور الذى كان مجمدا منذ أشهر فى إطار أزمة سياسية نشأت إثر إصدار الرئيس إعلانا دستوريا حصن بموجبه قراراته من أى رقابة قضائية إلى حين وضع الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد، كما حصن الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى اللذين يهيمن عليهما التيار الإسلامى واقعيا من أى قرار قضائى محتمل بحلهما. وقد منح الرئيس لذاته صلاحيات استثنائية مرتبطة بشروط غاية فى العمومية، ويعتبرها بعض المعارضين ضبابية مثل قيام “خطر يهدد ثورة 25 يناير، أو حياة الأمة، أو الوحدة الوطنية، أو سلامة الوطن، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها بما يفتح المجال لإساءة الاستغلال والتضارب فى التفسير لمصطلحات غير محددة مثل حياة الأمة والوحدة الوطنية، ويعتبر البعض قانون حماية الثورة بما يحتويه من نصوص وصلاحيات استثنائية إحدى صياغات قانون الطوارئ الذى يفرض قيودًا على نشاط المعارضة. وقد قضى الإعلان الدستورى بصيغته الراهنة على أى احتمال لرأب الصدع المتزايد فى صفوف القوى السياسية، والوصول لصيغة توافقية لإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، ففى مقابل اتفاق حزب الحرية والعدالة وحزب النور والتيارات السلفية خلف قرارات الرئيس باعتبارها قرارات ثورية؛ تكتلت القوى والتيارات المدنية لإعلان رفضهم للإعلان الدستوري، وتنظيم مليونية حاشدة بميدان التحرير.وقد قاطعت المعارضة الليبرالية والعلمانية، وكذلك الكنيسة القبطية أعمال الجمعية، معتبرة أن النص الجديد لا يشمل ضمانات كافية للحريات العامة وحرية التعبير والصحافة والحريات النقابية. وفى هذه الأجواء من الاحتقان السياسى قد تم تمرير المادة الثانية للدستور التى تنص أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع وهى مطابقة للمادة الثانية التى كانت موجودة فى الدستور الذى كان ساريا فى المرحلة السابقة. وحظيت هذه المادة بإجماع القوى السياسية، كما وافقت عليها الكنيسة القبطية، ولكن المادة 219 من المسودة النهائية للدستور تتضمن تفسيرا لمبادىء الشريعة تعترض عليه الأحزاب غير الإسلامية واعلن بطريرك الكنيسة القبطية البابا تواضروس الثانى اعتراضه الشديد عليها، وتفتح هذه المادة الباب لتفسيرات واسعة بما فى ذلك الأكثر تشددا ولا تحظى بالإجماع، وتنص المادة 219 على أن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة. وألغى الدستور منصب نائب الرئيس، ليتولى مهام الرئاسة رئيس الوزراء فى حال قيام ظرف مؤقت يمنع الرئيس من ممارسة مهامه، ورئيس مجلس الشعب فى حال الشغور. وأبقت المسودة النهائية للدستور مواد اعترض عليها الأعضاء المنسحبون من الجمعية التأسيسية خصوصا تلك التى تتيح حل النقابات بحكم قضائى ووقف ومصادرة وتعطيل الصحف بحكم قضائى. إن قراءة متأنية للمشهد السياسى تشير إلى أن جماعة الإخوان قد عمدت للتعجيل بخطوات انفرادية بعدما أعلنت محكمتا النقض، وهى أعلى سلطة قضائية فى مصر، والاستئناف, الإضراب تلبية لتوصيات نادى القضاة بتعليق العمل فى المحاكم احتجاجاً على الإعلان الدستورى، وظهر أن إضراب القضاة أزمة حقيقية يواجهها النظام الذى إن استطاع إغفال المظاهرات والاعتصامات فى الشوارع، لن يتمكن من التغاضى عن تعطل التقاضى وغلق المحاكم والنيابات. إن معركة الدستور والاحتكام إلى الميادين سيلغم الطريق أمام التحول الديمقراطى حتى لو وافق الشعب على الدستور، وهو أمر متوقع لأنها معركة فى أساسها مفتعلة يتم فيها اللعب بالمواقف والصياغات والتوافقات. كما أن ربط إجراء الانتخابات التشريعية بالانتهاء من الدستور - كما ينص إعلان دستورى سابق أصدره المجلس العسكرى حين كان يدير شئون البلاد - قد يطيل أمد الأزمة، لأن السبب الرئيسى للاحتجاجات الآن هو استحواذ الرئيس على كل السلطات بما فيها التشريعية حتى مع تقليل المدة الزمنية لذلك، فهل الحل فى الإسراع بالانتخابات التشريعية والذى قد يكون من مزاياه الإسراع بالكشف عن حجم التيارات السياسية بالشارع المصرى، وهناك توقع بأن التيار الإسلامى المحافظ بأغلبيته سوف سيفوز ، بما يؤدى إلى الكشف عن حجم التيارات الأخرى. والسؤال ماذا عن مستقبل المشهد وإلى أين تذهب مصر؟ الحقيقة أن الخيارات تكاد تكون محسومة. فالتيار المدنى ألزم نفسه بإسقاط الإعلان الدستوري، وأنه مستعد للذهاب فى سبيل تحقيق ذلك إلى كل خطوات التصعيد التى قد يتطلبها الموقف. أما جماعة الاخوان فرفضت سحب الإعلان واختارت الاحتكام إلى الشعب للاستفتاء على مسودة نهائية لدستور صوّتوا عليه مع حلفائهم فى جمعية تأسيسية لا تزال محل نزاع بين الطرفين. ولم تعد هناك من خيارات سوى إما الحوار للخروج من الوضع الراهن، أو الارتضاء بحكم الرأى العام على مسودة الدستور المطروح للتصويت، أو المواجهة وتبنى سيناريو الصدام، وستبقى فى نهاية المطاف خيارات نصف توافقية وإلا فإن شبح التدخل من أطراف خارجية مطروح وبقوة ما لم نحتكم لصوت العقل. * أستاذ العلوم السياسية