ربما كانت عبقرية المكان إحدى أهم مفردات العملية الإبداعية وربما كانت العزلة التى تطلق العنان لخيال صاحبها أن يحلق بعيدا عن واقع ملئ بالصخب، فيخلق عالما يروق له، وربما كان الترحال من مكان إلى آخر، وهنا يحمل الرحالة بين طيات قلبه وعقله ذكريات الأشياء والأشخاص ليرسمها بقلمه فى رواية أو قصيدة أو مقال، وربما كان حرمانا يفرز إلهاما، المهم أنها حالة إبداعية طرفاها مبدع وملهم، والأخير قد يكون الوطن، وطالما رددنا كلمات من كان الوطن ملهما لهم وورثناها للأبناء والأحفاد لنزرع بداخلهم الانتماء، وقد يكون الملهم حبيبة، وهنا تتحول كلمات المبدع إلى رسول يصل بين العاشق والمعشوق، وأحيانا يكون الملهم زميلا أو صديقا ضحى بحياته من أجل استرداد كرامة الوطن، وهنا تتحول كلمات المبدع إلى علاقات نشير إليها فى المحافل ونستخدمها فى التأريخ للعزة والنصر. إذن.. ليست مصادفة، أن من يحملون السلاح ليحموا الوطن يحمل الكثير منهم أيضا القلم، ليشكل وجدانا ويثرى عقلا، ولم لا وكل عناصر العملية الإبداعية متوافرة، شخص أحب الوطن، وأقسم على الذود عنه فتحولت ملكيته لنفسه إلى الآخرين، يعيش على الحدود ويترقب حركة أو همسة لعدو يتربص، رحابة الأرض حوله بمختلف ألوانها وفوقه السماء بأحجام نجومها وصفائها وقتامة غيومها وبين يديه كتاب الله أو ديوان شعر أو رواية، أسرة تركها أو حبيبة فارقها أو ابن نادى الوطن عليه فتركه مريضا، عناصر تتضافر لتشحن العقل وتلهب الوجدان وتدفع حامل السلاح إلى الإمساك بالقلم، يسطر فيتحول ما يسطره إلى إبداع يضاف إلى إبداعه فى حمل السلاح، الباحث والمؤرخ اللواء محمد صالح رصد فى بحث شيق «المبدعون من أبناء القوات المسلحة فى المجالات المختلفة»، التأليف والتمثيل والإخراج والإنتاج ونعتقد أن البحث يرد على من يقولون: إن الجيش عاجز عن التعامل مع المجتمع المدنى وليس له سوى الثكنات، اللواء محمد صالح سرد فى بحثه العديد من الأسماء من أبناء المؤسسة العسكرية والتى أثرت مجالات الإبداع المختلفة، ليس هذا فقط، لكن بطولات القوات المسلحة كانت ملهمة للعاملين فى مجال السينما قبل وبعد ثورة يوليو 1952، وكانت البداية مع فيلم «أجنحة الصحراء» عام 1939 عن بطولة طيارى السلاح الجوى الملكى بطولة أحمد سالم وأنور وجدى ومحسن سرحان وحسين صدقى، وفيلم «فتاة من فلسطين» عام 1950 بطولة محمود ذو الفقار وسعاد محمد ونظيم شعراوى، وتوالت الأفلام السينمائية بعد ذلك التى تؤرخ لبطولات القوات المسلحة المصرية مثل «رد قلبى والله أكبر وبورسعيد وفى بيتنا رجل. وغدا يوم آخر وصراع العمالقة وعمالقة البحار وشياطين الجو وعيون سهرانة ولا وقت للحب وأنا حرة ومن أجل أبى والعمر لحظة وأغنية على الممر»، وكلها أفلام أبرزت دور الجيش وجهاز المخابرات فى حماية الوطن، ويؤكد اللواء محمد صالح فى بحثه أن الساحة الأدبية والفنية فتحت أبوابها لأبناء المؤسسة العسكرية فتركوا علامات بارزة فى تاريخ الإبداع المصرى ومن أبرز هؤلاء الأميرالاى أحمد مظهر وهو من نفس دفعة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقد توراثت الأجيال حبه من خلال العديد من الأفلام الناجحة، والأميرالاى عز الدين ذو الفقار الذى أنتج ومثل وأخرج عشرات الأفلام، والصاغ خالد الأمير أهم ملحنى مصر والصاغ فطين عبد الوهاب المخرج والمنتج الشهير وضابط الموسيقات العسكرية الموسيقار على إسماعيل وقائد الأسراب إيهاب نافع وزميله على منصور الممثل والمنتج والفنان محمود قابيل الذى خرج من الجيش وهو عقيد بالقوات الخاصة، ومن المنتجين المعروفين اللواءات عمرو نصر وحسين بكير ونبيل فوزى وحسين صدقى وأحمد أنور عبد اللطيف ومن خريجى المسرح العسكرى حسن عابدين وزين العشماوى وحسن حامد وصلاح نظمى ومحمود إسماعيل ومحسن سرحان ورياض القصبجى، وفى بحثه عرج اللواء محمد صالح إلى الشرطة، فأكد أن العديد من المبدعين كانوا من أبناء هذا الجهاز، ومنهم صلاح ذو الفقار، وكان عقيدا بالشرطة واللواء عبد الخالق صالح والعقيد بدر الدين نوفل وممدوح الليثى المنتج والسيناريست وكان عقيدا بجهاز الشرطة أيضا وشقيقه العقيد إيهاب الليثى واحد من أهم المنتجين، واللواء أحمد شوقى شقيق الفنان فريد شوقى والملحن رياض الهمشرى والموسيقار محمد صقر وكان عميدا بجهاز الشرطة واللواء محمد مدحت الحدار الفنان والمنتج. أدباء وعسكريون ويضم بحث اللواء محمد صالح عددا كبيرا من الأدباء ذوى الخلفية العسكرية ويأتى فى المقدمة أعضاء مجلس قيادة الثورة العقداء يوسف السباعى وثروت عكاشة وعبد القادر حاتم وأحمد حمروش وجميعهم تولى مناصب قيادية فى الثقافة والإعلام، وأثروا الساحة الأدبية بالعديد من الأعمال التى خلدت أسماءهم والكثير منها تحول إلى أفلام سينمائية ومسرحيات، بالإضافة إلى كتاباتهم الصحفية، أما ضابط البحرية صالح مرسى والذى يعد واحدا من أهم كتاب الدراما البوليسية، فكان مرجعا للعديد من كتاب الدراما لإلمامه ببطولات جهاز المخابرات ولعل مسلسله الشهير «رأفت الهجان» كان أهم ملحمة درامية أظهرت دور المخابرات المصرية فى إلحاق هزائم كثيرة بجهاز الموساد الإسرائيلى. أما اللواء مجدى مرسى جميل عزيز نجل الشاعر الفنان مرسى جميل عزيز فيعتبر واحدا من أهم المؤرخين العسكريين، وإذا كانت للأسماء السابقة إسهامات بارزة فى مجال الأدب وهم من المؤسسة العسكرية، فأغلب المنتجين لهذه المؤسسة من الفنانين كانت لهم إسهامات أيضا فى مجال الكتابة للسينما والمسرح، مثل محسن سرحان ورياض القصبجى وعمرو نصر وغيرهم، أما الشاعر الغنائى واللواء السابق فى القوات المسلحة صلاح فايز فكانت لنا معه وقفة أكد فيها أن أسماء أخرى كثيرة غير التى ذكرناها كانت لها إسهامات كثيرة فى مجالات الأدب والفن والعلم، فالمؤسسة العسكرية مليئة بالكوادر فى كل المجالات، ويؤكد فايز أن أفضل ما كتب من أغان كانت فى فترة عمله بالقوات المسلحة، حيث وجد المناخ المناسب للكتابة لأهم نجوم الغناء مثل فايزة أحمد وهانى شاكر وأنغام ومحمد ثروت ومحمد رشدى وغيرهم. وأشار فايز إلى أن من يعتقدون أن المنتمين للمؤسسة العسكرية لا يجيدون سوى حمل السلاح مخطئون، لأن العسكرية إلى جانب تعليمها للانضباط فهى أيضا تحتفى بالمبدعين من أبنائها، وتاريخ الأدب والسينما والمسرح والغناء يثبت صدق هذا الكلام، ولولا الصبر والمثابرة والقدرة على الإقناع من القوات المسلحة لتغير مسار ثورة 25 يناير لأن تعامل الجيش مع الشعب أثبت أن القوات المسلحة كانت أهم الركائز التى استندت إليها الثورة، نعود بعد وقفتنا مع الشاعر الغنائى صلاح فايز اللواء السابق بالقوات المسلحة إلى بحث اللواء محمد صالح الذى وردت فيه أيضا أسماء بارزة من جهاز الشرطة كانت من وجهة نظره محطات أدبية وأبرزها الكاتب الراحل سعد الدين وهبة وكان عقيدا بالبوليس وهو واحد من أهم كتاب السيناريو فى مصر، وعلى عاتقه قام مهرجان القاهرة السينمائى. شهداء الوطن وفى بحثه أشار اللواء محسن صالح أن العديد من الأسر الفنية كان لها شهداء ضحوا بحياتهم من أجل الوطن وهم يحاربون على الجبهة ومنهم رائد طيار سمير عبد الغفار حفيد دولت هانم أبيض، والطيار السيد السيد بدير نجل الفنانة شريفة فاضل التى فقدت أيضا على الجبهة ابن خالتها العميد محمد الفلكى والرائد عادل الفلكى، واستشهد أيضا على الجبهة محسن الحبروك نجل الشاعر إسماعيل الحبروك والعميد منصور صالح نجل الفنانة زوزو نبيل والرائد صلاح المرشدى شقيق سهير المرشدى والعميد دكتور مهندس سعيد بدير نجل المخرج والممثل السيد بدير، والرائد حازم النهرى شقيق الفنان طارق النهرى. ويؤكد اللواء محمد صالح فى بحثه أنه يخشى على لقطات تاريخية للقوات المسلحة تم تصويرها على الجبهة واستعان بها بعض المخرجين فى أفلامهم لكنها اختفت فيما بعد ولعل أبرزها ما تم تصويره عام 1956 أثناء التصدى للعدوان الثلاثى على مصر فى قاعدة غرب القاهرة الجوية، حيث قائد الأسراب حامد أحمد عبد الغفار يلقى تعليماته على طيارين ويظهر فى اللقطات الطيار أول محمد حسنى السيد مبارك يتلقى الأوامر ثم يؤدى التحية العسكرية وينطلق بالخطوة السريعة تجاه طائرته ولقطات أخرى للقاذفات فى الجو. يؤكد اللواء محمد صالح أن هذه اللقطات عرضت فى الصحيفة الناطقة للسينما المصرية لكنها اختفت بعد رئاسة محمد حسنى مبارك للجمهورية عام 1981، بل إن الأعمال التسجيلية التى ضمت هذه اللقطات عرضت فيما بعد بدونها وكأنها عار أن يكون مبارك طيارا صغيرا يؤدى التحية أمام قائده، وأشار صالح أنه طلب هذه اللقطات أكثر من مرة من المركز القومى للسينما لكن أحدا لم يستجب له ويتمنى أن تظهر هى ومثيلاتها إلى النور لأنها توثق لتاريخ مصر العسكرى، ويرى الباحث صالح أن بطولات انتصار أكتوبر 1973 لم تجد من يقدمها للجماهير حتى الآن فى فيلم سينمائى، ويبرز المعارك التى انتصر فيها الجيش المصرى وبطولات الشهداء التى لقنت إسرائيل درسا فى العسكرية، وتلك الكلمات التى اختتم بها اللواء السابق بحثه الشيق.