تسارعت وتيرة الأحداث فى المشهد الليبى خلال الأسبوع الماضي، وقام الجيش الوطنى الليبى بالإعلان عن بدء عملية عسكرية تحت اسم «عملية تحرير العاصمة، تستمر ليبيا وسياق الصراع فيها قابعين بين جدلية التسوية السياسية والحسم العسكري.كانت التسوية السياسية هى الفرصة التى تحظى بدعم دولى خلال العام الماضي، أو بالأحرى منذ أن تولى غسان سلامة مسئولية المبعوث الرسمى للأمين العام للأمم المتحدة. ولكن التقدم العسكرى للجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر تجاه طرابلس، يدل على أن الحسم العسكرى هو الخيار الأقرب لإرادة الداخل الليبي. هنا يجب أن نفرق بين مفهوم الحسم العسكرى الذى يتضمن نفوذ القوة الجبرية، ومفهوم الحسم العسكرى الذى يعتمد على مواجهة الكيانات الإرهابية، والدعم الشعبى لفكرة الاستقرار الأمنى والسياسى، وهو مشهد موجود بأكثر من شكل فى الصراع الليبى على مدار السنوات الماضية. تحركات الجيش الوطنى الليبى تدل على أنها ليست تحركات تم بناؤها على أرضية القوة الجبرية، بل هى تحركات كانت جزءاً من إستراتيجية شاملة تتعلق بمواجهة الإرهاب، واتخذ الجيش الوطنى الليبى من هذا المنهج خطابا وعقيدة. بدأ التحرك الميدانى من انتهاء عمليات مكافحة الإرهاب فى درنة، ثم تمدد الجيش الوطنى الليبى جنوباً تجاه الجفرة، وكان لتحول تحالفات القبائل وموقفهم من شخص المشير خليفة حفتر دور كبير فى نجاح العملية العسكرية التى استهدفت التشكيلات العسكرية الإرهابية وغير الشرعية فى المنطقة الجنوبية.
بعد تحقيق النجاح من قبل الجيش الوطنى الليبى فى التمدد جنوباً، تم إطلاق العملية العسكرية التى تسعى لدخول طرابلس. لذا، فإن العملية الأخيرة لم تكن محض مصادفة، لكنها استمرار لرؤية يتبعها الجيش الوطنى الليبى منذ فترة.
هذه التحولات التى يمر بها الداخل الليبى تصنع تغيرات وتحولات فى مواقف المجتمع الدولى إزاء ملف ليبيا وحالة الصراع بها. هناك عدد من الفاعلين المؤثرين فى المشهد الليبى إقليمياً ودولياً، وعلى رأسها عربياً مصر، وتونس، والجزائر، والإمارات العربية المتحدة، وأوروبياً إيطاليا، وفرنسا، وإنجلترا، بالإضافة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى شهد دورها فى الملف الليبى نوعا من التراجع منذ قدوم إدارة ترامب. مواقف المجتمع الدولي، أو الفاعلين الدوليين المعنيين بالشأن الليبى لا تتسم بالحد الأدنى من الإجماع. الجدير بالذكر أنه لا توجد نيات لمعارضة المجتمع الدولى فى شأن خارطة الطريق الأممية المعروضة على ليبيا، ولكل طرف من الأطراف عدد من المصالح والروابط الوثيقة مع عدد من الفاعلين فى سياق الصراع الليبى داخلياً، وهو ما يجعل التوصل لتوافق دولى أكثر صعوبة فى ظل التغيرات التى طرأت على الصراع العسكري.
أوروبا هى الأخرى تمر بمرحلة من الخلاف، إزاء الأدوار التى تلعبها الدول الأوروبية، فى سياق الصراع الليبى، حفاظاً على مصالحها ونفوذها فى المنطقة. هناك طرفان هما الأكثر فاعلية فى أوروبا فيما يتعلق بالملف الليبي، وهما إيطالياوفرنسا. إيطاليا لها مصالح عدة فى قطاع النفط فى الغرب الليبى على وجه التحديد، خصوصا أن شركة ENI هى صاحبة القدر الأكبر من العقود الخاصية بالنفط الليبي. وتأتى فرنسا كأحد الفاعلين المعنيين بالجنوب الليبى تحديداً، نظراً لاستثمارات فرنسا المتعلقة باليورانيوم فى النيجر، وهو ما يجعلها معنية بالداخل الليبي. والجدير بالذكر أن كلتا الدولتين مهتمة بملف الهجرة غير الشرعية لأوروبا، وهو الملف الذى تعد السواحل الليبية فيه، خصوصا فى طرابلس، إحدى أهم البوابات. فى ذات الوقت، تتداخل روسيا مع المشهد الليبى من خلال حليفها الأساسى المشير خليفة حفتر، على الرغم من أن الجانب الروسى يحرص على التفاعل مع كل الأطراف فى سياق الصراع. روسيا لها رؤية مزدوجة فى ظل الصراع السياسى فى ليبيا، فهى من ناحية ترى أن وجود حليف لها فى شمال إفريقيا محورى كليبيا، يرسخ من نفوذها ويضع العديد من الفرص أمامها، خصوصا فى ملف إعادة الإعمار وتسليح الجيش الوطنى الليبى فى مرحلة ما بعد الحصار. ومن ناحية أخرى، ترى روسيا أن تمدد نفوذها فى شمال إفريقيا هو أحد الكروت التى من الممكن أن تكون فاعلة فى التفاوض مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى على النفوذ فى المنطقة.
لكن يظل الداخل الليبى هو الحاكم الفعلى لمجريات الصراع فى الفترة الحالية. ما زال خلاف الشرق والغرب هو الأكثر تأثيراً على الصعيد الداخلى فى ليبيا، أو على الصعيد الخارجي. وتأتى فى المنتصف منظمة الأممالمتحدة كأحد الفاعلين ذوى الشأن فى هذا الملف، من خلال العمل على ملف التسوية السياسية، الذى يتطلب توافق بين الأطراف المتصارعة قبل المضى قدما فى تنفيذه.
الأممالمتحدة منذ تولى غسان سلامة المسئولية أثبتت فشلا متكررا فى رؤيتها الكلية للوضع فى ليبيا. هناك تغير فى نمط الفعل من قبل الأممالمتحدة بين ولاية برناردينو ليون، ومارتين كوبلر، وغسان سلامة. ليون كان يسعى لإنجاز اتفاق بمن حضر، وهو ما فعله فى الصخيرات فى المغرب فى ديسمبر 2015، وكوبلر كان يرى أن دوره هو معرفه متطلبات الداخل الليبى والعمل على تحقيقها، لكن سلامة جاء من اليوم الأول بخارطة طريق مرتبطة بتوقيتات، دون أن يكون هناك أى منطق لتطبيق هذه الإجراءات فى هذه التوقيتات على أرض الواقع. ولذا، بات المجتمع الدولى متفسخاً فى الشأن الليبى بخصوص مسألة التسوية السياسية، وبات هناك خلاف بين الدول الأعضاء، والمنظمة ككيان فيما يتعلق بخطوات التسوية السياسية، وهو ما انعكس سلباً على الوضع الميدانى فى ليبيا.
مرحلة مخرجات الثورة أو outcome of revolution كما يتم صياغتها فى أدبيات علم الاجتماع السياسى يتم الاعتماد على عدد من العوامل فى سياقها، ودور المجتمع الدولى من أهم هذه العوامل. المشهد فى ليبيا فى الفترة الآنية به الكثير من الخلاف بين قوى المجتمع الدولى حول قضايا الحسم العسكرى والتسوية السياسية. التقدم الجغرافى الحالى للجيش الوطنى الليبى، ستتم مواجهته بعدد من المواقف من المجتمع الدولي، بعض منها قد يكون منطقياً، والبعض الآخر قد يكون مدفوعاً بمصالح إقليمية، لا ترتبط بالضرورة بالوضع الحالي، بل هى جزء من مصالح إستراتيجية ترعاها الدول بشكل مستمر، لذا هى مصالح ثابتة بغض النظر عن تحول السياقات.
الوضع الحالى بليبيا به شقان، الأول يتعامل مع توازنات القوى الإقليمية والدولية، والثانى يتعامل مع قوى الصراع فى الداخل الليبي. ومما لا شك فيه أنه من مصلحة الأطراف المتصارعة أن تقوم بالتنسيق بين هذين الشقين، حيث إن هذا هو محور التحكم فى سياق إنهاء الصراع. التمدد غربا يعد خطوة مهمة ومؤثرة للجيش الوطنى الليبي، لكن إنهاء الصراع يتطلب إجراءات أخرى سيكون المجتمع الدولى جزءاً منها شئنا أم أبينا.