نابليون قال: قل لى من يحكم مصر أقل لك من يحكم العالم يتداعى الخيال ويسقط بلا حراك تحت أقدام الحضارة المصرية القديمة
الغزوات المتتالية لم تغير هوية البلاد
ما بين مشرط جراح، وقلم مفكر، تدور حياته، جراح يستأصل العلل والأورام الخبيثة، ويداوى الجراح.. وقلم مفكر يكشف الحقيقة، ويزيل عنها الغبار. مفكر من طراز خاص، صاحب ثقافة موسوعية، غواص فى بحر لآلئ المصريات، ينظر إلى الحياة من قاع التاريخ المصرى، باحث متعمق فى تاريخنا القديم، ينتقى من بستان الفكر زهورا لا يزال لها عطر فواح، يراهن دائما على المخزون الحضارى لدى المصريين، فهو ابن حضارة أشرقت شمسها منذ فجر التاريخ.. يستبعد أن ينزلق شعب يعرف الله منذ أكثر من5000 سنة قبل الميلاد فى حرب طائفية، واصفا من لا يدرك هذه الحقيقة بأنه جاهل. د. وسيم السيسى، هو أحد كبار المهتمين بعلم المصريات، وهو أستاذ جراحات المسالك البولية، وزميل كلية الجراحين الملكية فى إنجلترا وكلية الجراحين الأمريكية، له العديد من المؤلفات، منها: مصر علمت العالم، والطب فى مصر القديمة، ومصر التى لا تعرفونها، وفى البدء كانت مصر، وهذه هى مصر، وهو أيضا صاحب صالون المعادى الثقافي. التقته مجلة "الأهرام العربى"، فى حوار خاص كشف لنا خلاله عن جوهر المصرى الأصيل وحجم الدولة المصرية، وإلى تفاصيل الحوار. لكم كتاب بعنوان "مصر التى لا تعرفونها"، فما هى مصر التى لا نعرفها؟ مصر هذه الفلتة الجغرافية التاريخية– على حد تعبير جمال حمدان – التى يقول عنها: هى فى إفريقيا جغرافيا، وفى آسيا تاريخيا، هى فى الصحراء ولم تعد منها، بجسمها النهرى قوة بر، وبسواحلها قوة بحر، تقع فى الشرق وتطل على الغرب، قطب القوة للعالم العربى، وحجر الزاوية للعالم الإفريقى، وأصل الحضارة للعالم كله. إن الغزوات العديدة التى مرت على مصر كانت تغييرا فى الحكام، ولم تكن تغييرا فى شخصية (هوية) مصر، طردت الهكسوس، جعلت الإسكندر يعتنق الآمونية، وجعلت روما تعتنق المسيحية، ووضعت أسس الرهبنة فى المسيحية (أفلوطين المصرى)، والتصوف فى الإسلام، دافعت عن الإسلام فى ذات الصوارى، وحطين، وعين جالوت، كما بنت القلاع والمساجد، والحصون، وعمرت خزائن بغداد بنفائس الإسكندرية، وكان منها كتاب العالم المصرى ديسكوريدس "خواص العقاقير". علمت مصر العالم فى كل نواحى الحياة، جمعت الحديث النبوى الشريف، وسجلته على ورق البردى فأصبح أقدم المخطوطات العربية، وجاء ابن منظور القبطى "المصرى" ووضع لنا كتاب "لسان العرب"، وجاء ورش القبطى "المصرى" يرتل لنا القرآن الكريم الذى انتشر فى العالم كله، بقراءة ورش الباقية حتى الآن. تقول د. نعمات أحمد فؤاد: سقت مصر الأديان بطبعها الفنان، فتبدأ وتختم بالبياتى، والبياتى هو نغمة حناجرنا حتى الآن. وجاء الإمام الشافعى إلى مصر فتعلم منها، وغير فقهه كله، وجاء بونابرت إلى مصر وقال: لو كانت جيوشى من المصريين لملكت العالم كله، كما قال: قل لى من يحكم مصر، أقل لك من يحكم العالم. مصر علمت العالم الوسطية فى كل شىء، فالكرم وسط ما بين الإسراف والبخل، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، لذا كان إسلام مصر مختلفا عن إسلام الدول الأخرى، كذلك مسيحية مصر أيضا. قاومت مصر كل تطرف حتى وإن فُرض عليها. هل لا يزال هناك بقايا منها إلى الآن؟ نعم لا تزال مصر تعلم العالم، حين وضعت قانونا قال عنه د. محمود السقا، ود. محمد أبو سليمة، الأستاذان بكلية الحقوق، جامعة القاهرة، فى كتابهما "فلسفة وتاريخ القانون المصرى القديم": كان القانون المصرى فى عصر الفراعنة مثاليا فى قواعده، عادلا فى أحكامه، عالميا فى مراميه، نقيا فى مبادئه، صافيا فى مواده، فكانت دهشة للمؤرخين قاطبة لعظمة هذا القانون وسبقه الحضارى، كان القانون يصاغ فى دار حورس الكبرى فى عبارات واضحة سليمة مختصرة، وفى صيغة بلاغية فى منتهى الإتقان، جاءت اليونان وأخذت القانون المصرى وسمته "قانون صولون"، ثم أخذته روما، وأصبح قانون جوستيان والألواح الإثنى عشر، ثم أخذته فرنسا وسمته قانون نابليون، ثم أخذته مصر حديثا من فرنسا. أيضا لكم كتاب بعنوان "مصر علمت العالم"، فماذا علمت مصر العالم؟ "مصر أسعدت العالم بأن علَّمته قانون الأخلاق"، هذا ما قالته السيدة كارين شوبارت، عمدة برلين. وعلمته العلوم جميعا "ما من علم لدينا إلا وقد أخذناه عن مصر"، كما قال أفلاطون. وعلمته الفنون والموسيقى والغناء والمسرح والرقص والرياضة بكل أنواعها، ما عدا كرة القدم. كما علمته العدالة، الحاكم مع المحكوم، والعدالة الاجتماعية، فالكل أمام القانون سواء. وعلمته الطب، والصيدلة، فكلمة "فارماكا" مصرية معناها بيت الشفاء والصفاء. مصر أسعدت العالم بأن أعطته أملا فى حياة جميلة بعد هذه الحياة إن كان صالحا. علمته أن هناك حسابا، ثوابا وعقابا، جنة أو نارا (إدريس عليه السلام 5500 ق.م). مصر علمت العالم كيف يفرح ويسعد بالأعياد، حتى إن إميل لودفيج يقول: "أعياد العالم كلها من مصر". ويقول عباس محمود العقاد: "هو ذا عيد شم النسيم، عيد الربيع الذى أهدته مصر للعالم كله". أهدتنا مصر عيد القيامة، قيامة أوزوريس من بين الأموات وصعوده إلى السماء، حتى يكون رب المحاكمة فى محكمة العدل الإلهية. أهدتنا مصر عيد عاشوراء، الذى كانوا يحتفلون فيه برمى بذور القمح فى اليوم العاشر من ديسمبر. أهدتنا مصر عيد وفاء النيل (وريد الحياة وشريانها)، والذى أوقفته مصر بسبب الثقافة الرملية العدو اللدود للحضارة النهرية. ماذا تفردت به مصر القديمة عن سائر الأمم؟ يكفى أن نعرف أن أول طبيب فى العالم هو "حسى رع" كان من مصر، وأول مهندس بنى هرما مدرجا هو "إيمحوتب" من مصر، وأول من وضع قانونا دوليا هو "تحوت" من مصر، وأول من وضع قانونا لحقوق الإنسان (حور محب) من مصر. ونعرف كذلك أن مصر، وفى مصر: أول من عرف البنسلين (لباب خبز الشعير المتعفن)، وأول من عرف علاج البلهارسيا بالأنتيمون. وأول من أجرى عمليات التربنة والشق الحنجرى، وأول من استخدم الخيوط الجراحية (Cat Gut)، وأول عملية أُجريت لمياه العين البيضاء (كتاركت)، وأول من قام بزراعة الأسنان، وأول من اعتنى بالأم الحامل قبل وبعد الولادة، وأول من عالج الصداع النصفى بالكهرباء مستخدما "سمك الرعاد"، وأول من عرف التوحيد والثواب والعقاب، وأول من دافع عن المسيحية (عصر الاستشهاد)، وأول من دافع عن الإسلام (الصوارى، وحطين، وعين جالوت). وأول من وضع علامة تجارية على الملابس الداخلية هى مصر، وكانت عبارة عن ختم دائرى بداخله كلمة "نِفِر"، أى جميل، فقد صُدمت به فى مؤتمر الاحتفال الأول بيوم المرمم المصرى الذى أقيم منتصف شهر مايو 2016، إنها الملابس الداخلية لتوت عنخ آمون. كانت مصر القديمة تؤمن بأن الوقاية خير من العلاج، ونجد أنهم فى تنظيم الأسرة استخدموا اللولب واللبوسات المهبلية. كما كانت هناك غرفة فى حديقة المنزل أو على سطحه تسمى "الماميزى" تُعزل فيها المرأة الحامل أسبوعاً قبل الولادة، وأسبوعاً بعدها، ولا تدخل عليها إلا إمرأة تحمل لها الطعام والشراب خوفاً من حُمَّى النفاس. وعرفت مصر العناية بالأم الحامل قبل الولادة وبعدها، والذى عرفته فرنسا سنة 1900م، وأمريكا 1910م، أى بعد مصر بآلاف السنين. كذلك كان إرضاع الطفل ثلاث سنوات. كانوا يتجنبون خلع الأسنان، بل تثبيت السنة القلقة مع ما حولها بأسلاك من ذهب، أو عمل تربنة صغيرة تحت الضرس إذا كان هناك صديد، أو زرع الأسنان. كان تسوس الأسنان نادراً لاستخدام العسل الأبيض للتحلية، والبيرة، وقد ثبت أنها تحتوى على تيراميسين. كان الفلاح المصرى لا ينزل إلى الماء إلا وهو يرتدى عازلاً ذكرياً بحزام حتى لا يتبول فى النيل. عرفوا البلهارسيا وسموها "عاع"، وعرفوا الدودة وسموها "حررت"، وعرفوا الدواء "الأنتيمون – الطراطير"، واستخدموه فى لبوسات شرجية، ولو كنا استخدمنا هذه الطريقة بديلاً عن الحقن لما فتك بنا فيروس (C) هذا الفتك الفظيع. اهتم أجدادنا بالبيئة حتى إن هيرودوت قال: عجبت للمصريين، يتناولون طعامهم بالخارج، ويقضون حاجتهم بالداخل. كان نظام الصرف الصحى بمواسير نحاسية قطرها 50سم، وتمتد 400 متر بعيدا عن المنزل. وقد قال جيمس برستيد، وعمدة برلين منذ عام تقريبا، قال لى كيف كان سيكون شكل العالم اليوم لو لم تكن الحضارة المصرية القديمة، ونحن فى حاجة إلى قرنين من الزمان كى نصل للحضارة الإنسانية، قالها عالم مصريات بريطانى. وقال بونابرت إن مصر تعلم وتحكم العالم، قل لى من يحكم مصر أقول لك من يحكم العالم، لو أملك جيوشا من المصريين لاستطعت أن أتسيد العالم. هل لا تزال مصر تعلم العالم؟ فى 30 يونيو 2013 غيرت مصر العالم، وغيرت المخطط الذى كانوا يعملون عليه منذ عام 1907، بدأ يتحقق فى عام 1916 منذ سايكس - بيكو فى التقسيم، فالعراق انقسم إلى شيعة فى الجنوب عاصمتها البصرة، وفى الوسط بغداد سُنية، وفى الشمال عاصمة الموصل والأكراد، وجاءت مصر وغيرت التاريخ والعالم، لذا انقلبت الدنيا علينا. هل تغيرت طباع المصرى المعاصر عن طباعه فى العصور القديمة؟ لا تزال الطبائع تختلف عند المصريين، ولكن الجوهر كما هو، فالجينات واحدة: 97.5% مسلمين ومسيحيين، و87.5% من جينات توت عنخ آمون لا تزال فينا ونحملها منذ أسلافنا العظماء، لأن البحر الجينى الكبير كان يزيل أى جينات وافدة، فالشخصية والطبائع ليس للجين، ولكن يرجع للمكان والزمان فى تغير الجين، فالهجرات الضخمة بعد نكسة 1967 للدول الخليجية والأوروبية غيرت الجينات، وبدلا من أن يكونوا مصريين وينتموا للحضارة المصرية القديمة رجعوا للرمال. كيف كانت العدالة تقام فى مصر القديمة؟ قال الحكيم "آنى" من حكماء وفلاسفة مصر الفرعونية إن مصيبتنا فى بعض أحفادنا كبيرة، وسيأتى اليوم الذى أفصح فيه عما يعتلج فى صدرى، ولكن هل شاهدت محكمة "أوزوريس" لأحد أرواح الموتى؟ ها هو متوف قادم لنا عبر السماوات السبع – كل سماء لها مواصفاتها ومخلوقاتها – ثم يصل المتوفى إلى قاعة محكمة السماء، التى يتصدرها "أوزوريس"، وأمامه الميزان الذى يوضع على إحدى كفتيه قلب المتوفى، وعلى الكفة الأخرى ريشة "ماعت"، رمز الحق والعدالة. أما "تحوتى" إله المعرفة فهو يراقب سهم الميزان، ووراء "أوزوريس" 42 قاضيا، لكل واحد منهم سؤال، منها:هل حفظت جسدك طاهرا؟ هل قتلت نفسا بغير حق؟ هل عذبت حيوانا؟ هل عميت عن أمور الآخرة؟ هل صنت نفسك ولسانك عن الشهادة الزور؟ هل خنت جارك أو صديقك الذى ائتمنك على عرض بيته؟ هل استمعت لصوت ضميرك؟ هل كرهت إنسانا؟ هل جلبت الرضا لقلب أمك والشرف لبيت أبيك؟ يجيب المتوفى عن هذه الأسئلة والتى يقول عنها "والاس بادج" عالم المصريات الأمريكى فى كتابه "فلسفة العقائد عند قدماء المصريين": "إن أسئلة القضاة هذه إنما هى أدق وأرقى ما وصلت إليه الكتب، وهى تشريع إنسانى كامل، يفرق بين الحق والباطل قبل ظهور الأديان بآلاف السنين". ويقول "جيمس هنرى برستد" فى كتابه "فجر الضمير": "إنها أفضل من الوصايا العشر التى لا تجرم الكذب إلا فى شهادة الزور، وإن المصريين كان لهم مقياس أخلاقى أسمى بكثير من الوصايا العشر، وإن قانون الأخلاق الذى لا يجرم الكذب هو قانون ناقص". وعندما ترجح كفة قلب المتوفى، يعلن "تحوتى" براءة قلب المتوفى من الذنوب، ويعلن "أوزوريس": يُكتب اسم المتوفى فى سفر الحياة، ويجلس عن يمينى، تفتح له أبواب الجنة، حيث يجد أنهارا من اللبن، وأنهارا من الخمر المقدسة، وسنابل قمح من الذهب. يقول الحكيم "آنى" وإذا كان المتوفى مذنبا، فإنه يُشطب اسمه من سفر الحياة ويُلقى فى أتون النار. متى وكيف تعود مصر إلى سابق مجدها؟ لن تعود مصر التى عرفناها إلا إذا عرفنا التاريخ على حقيقته، وعدنا إلى حضارتنا المصرية التى أضاءت العالم كله إلا مصر بسبب عقول بعض أحفادها. إن مصر هى القاطرة التى تشد أزر العرب جميعاً، فإذا قويت مصر، قوى العرب. ولن تقوى مصر إلا بالإصلاح الداخلى اقتصاديا، وعلميا، وسياسيا، وإعلاميا. إن قوة مصر ومستقبلها فى مخزونها الحضارى الذى يتآكل الآن بفعل العادات والتقاليد الوافدة من دول أقل منها حضارة. فالحضارة أغلى من السلعة، والسلعة لها عمر افتراضى، بينما الحضارة تنمو مع الزمن. وقد سئل فرانسيس بيكون: كيف تتقدم أوروبا؟ قال: أن يكون لها تاريخ. والإنسان كائن حى ذو تاريخ، لأن التاريخ هو الصفة الوحيدة التى يتمتع بها عن سائر الكائنات الحية الأخرى. ونحن نملك أعظم تاريخ، أطلقها جيمس هنرى برستد فى "فجر الضمير"، لأن تاريخ البشرية كان ظلاما قبل تاريخ الحضارة المصرية القديمة، ليس برستد وحده الذى كان مبهورا بهذا التاريخ العظيم، بل إن جان فرانسوا شامبليون كان أيضا مولعا به حتى إنه قال: يتداعى الخيال ويسقط بلا حراك تحت أقدام الحضارة المصرية القديمة.