الإدارة فنٌ وعِلم ... هكذا يُقال. و تختلف الإدارةُ فى مفهومِها وحجمِها وأصولِها تبعاً لطبيعةِ ما يُدار. فما بين إدارة مشروعٍ تجاريّ صغير إلى إدارة شركة كبيرة محلية أو أخرى دولية ذات فروعٍ متعددة فى أنحاء العالم، تختلف المعايير والطُرُق والفلسفة التى تُطَبَّقْ فى هذا الشأن، وكلها تهدف لإنجاح الأمور وتحقيق الأهداف المرجوة من كلٍ من هذه المشاريع. وفى بعض الأحيان، قد لا تُعنى الإدارة بالمؤسسات أو الشركات بقدر ما تُعنى بمشاكل أو أوضاع مؤقتة غير معتادة فيما يسمى “ إدارة الأزمات “ أو “crisis management “، وهذا علمٌ آخر يُدَرَّس. وعندما نَميلُ برؤوسِنا إلى ناحيةٍ أكثر خطورة وأكبر حجماً فى شئون الإدارة، وهى “إدارة الدولة” فإن الأمر هنا يُصبح جامعاً لكُلِّ ما فى الإدارةِ من فنونٍ ومذاهب متعددة. فإدارة الدول هى أمرٌ جَدّ مُعقَّد ومُتشابك وتتعدى حدودُ شرحِهِ وفَهمِه مقالاً مثل هذا، يحتلُ صفحةً فى مجلة. لكننا سنحاول فى هذه الصفحة أن ننقل مَفهوماً فلسفياً عاماً ومُختصراً فى هذا الأمر، وهو “كيف تُدار الأوطان؟”. تتضحُ أساليبُ الإدارةِ ومناهجُها عندما تتضحُ أهدافُها. فلا خلاف على رغبةِ أبناء الوطن المخلصين فى أن تكون دولتهم قوية، وأن تكون آمنة، وأن تتمتع باقتصاد ناجح، وأن يكون لديهم جيش قوى، وأن يكون لكلِ مريضٍ فيها مكان تحت سقفِ مستشفى حقيقى قادر على علاجه، وأن تكون مدارسُها من الجودة بما يجعلك تذهب بأطفالك لتُلحِقَهم بأقرب مدرسة حكومية وأنت مطمئن على مستوى تعليمِهم.
بالتأكيد لن يكون هناك خلاف فى هذا الأمر، وهذا لا يمكن تحقيقه فى دولة تُدار أمورُها بأيدٍ مرتعشة، ولا يتحقق فى دولة يرتع فيها الفاسدون والمنتفعون من السلطة والمناصب، ولن يتحقق فى دولة تسمح بأن يعلو فيها أيُ شخصٍ فوق القانون والأنظمة.
إن النجاح فى إدارة الدول وأمور الأوطان لم يتحقق على مدى تاريخ الشعوب، ولن يتحقق فى أى حقبةٍ زمنيةٍ قادمة إلا بإعلاء وتفعيل مفهوم “هيبة الدولة”. هذه الهيبة لا تعنى إلا يداً قويةً تضربُ أعناقَ الفاسدين بلا هوادة، وفى ذات الوقت هى يدٌ رحيمة تحتضن بلطف أبناءَ الوطنِ المخلصين والمتميزين والمنتجين وتدفعهم إلى الأمام دفعاً، وتُولِّى الصالحين منهم الأمور طمعاً فى تحقيق النجاح الحقيقي.
إن النجاح فى إدارة مقدرات هذا الوطن لن يكتمل إلا بتفعيل وتأصيل عقيدة “هيبة الدولة” لدى كل مواطن. فيجب على أبناء هذا الوطن أن يدركوا أن تعزيز مفهوم “هيبة الدولة”، بقدر ما يمنحُ قوةً لهذا الوطن وللقوةِ الحاكمةِ، فهو يمنح أيضاً القوةَ والعِزَّةَ لكُل واحدٍ منهم . فقوةُ المواطن من قوة دولتِه وهيبةُ المواطن من هيبةِ دولته. ولن تقوم لنا قائمة وسط هذا العالم المتلاطم المتصارع إلا إذا كانت دولتنا قوية. وهذه القوة تبدأ من الداخل قبل أن تفرض نفسها فى الخارج وعلى المستوى العالمي.
ولا مَناص من أن تفرض الدولةُ هيبتَها بأن تطبق القانون على الجميع دون تمييز، سواسيةً كأسنان المشط، فلا يعلو مواطنٌ دون غيرِه على القانون مهما كان منصبه أو كانت ثروته. فلا هيبة للدولة إن هى تركت المغتصبين لأراضيها يفلتون بفعلتهم، ولا هيبة للدولة إن هى تغاضت عن أصحاب رؤوس الأموال يتهربون من دفع ضرائبهم بشتى الطرق، ولا يدفعها إلا البسطاء من الناس، ولا هيبة للدولة إن هى تركت أعداء الوطن يتسللون إلى أراضيها عبر أنفاق حفرتها أيادى الإثم والعدوان والخيانة، ولا هيبة للدولة إن هى تركت أعداء الوطن يتآمرون مع قوى الشر المحيطة لينتهكوا حرمة هذا الوطن.
إن مِصْرَ المحروسة وعلى مر التاريخ لم تكن إلا دولةً قوية متكاملة الأركان فى معظم العصور. وحتى فى فترات الاحتلال، لم يأت إليها المُحتل إلا ليتمَسَّح بتلك القوة ويُلصق اسمه على تلك الحضارة لعله يُخَلَّد فى صفحات التاريخ.
وها هى مصر تعود من جديد فى سنواتنا هذه لتنفض عن نفسها غبارَ سنواتٍ من المعاناه وغياب الرؤيا والضعف غير المبرر. ها هى تعود بجيشها القوى ومشاريعها الضخمة المُبهرة وها هى تعودُ باقتصادٍ ينبثق بقوةٍ وثبات من تحتِ أنقاضِ سنواتٍ من الانهيار. ها هى تعود ضاربةً بيدٍ من حديد على رؤوس أمراضٍ نَهشت أجسادَ المصريين على مر السنين. ها هى تعود بخطط لتعليم الأجيال المقبلة، كما ينبغى أن يكون التعليم. ها هى تعود لترسم صورة أجمل لآثارها ومدنها، وتزيل عنهما غبار وركام العشوائيات. ها هى الدولة القوية تعود لتأخذ بأيادى البسطاء وغير القادرين لتُسْكِنَهم مساكن الرحمة والكرامة الإنسانية دون مقابل. ها هى “مِصرُنا القوية” تعود لتقود العالم الحر إلى ما فيه خَيْرٌ للناس وكرامةٌ للبشرية. ها هى “هيبة الدولة” .. تعود من جديد تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر