يخطئ من يتصور ان هيبة الدولة تقتصر على شرطى الأمن أو عسكرى المرور أو مركز الشرطة هذه أساسيات وثوابت فى منظومة الاستقرار والحماية لا ينكرها احد .. ولكن هذه العناصر جميعها وأن توافرت لا تعنى الاستغناء عن قدرات المسئولين على الحسم والمواجهة بالفكر والقرار والخيال .. ان غياب مثل هذه العناصر من منظومة إدارة شئون الدولة يترك الأشياء مشاعا للعبث والارتجال وهنا يمكن ان تنطلق ردود أفعال شاردة دون ان نعرف أسبابها وما تخفيه .. إن الأمن فعلا يمثل الحماية الحقيقية للبشر ولكنه لا يكفى وحين تتواصل الأحداث وتفقد القدرة على مواجهة الحقائق هنا لا بد ان نراجع أنفسنا لكى نصل إلى جوانب الضعف والقصور . نحن أمام مؤسسات فى الدولة تجرى كثيرا ولكن بلا حسم بل إنها فى أحيان كثيرة تمادت فى تبسيط الأشياء حتى وصلت الى درجة المواجهة فكان القرار الامنى هو اسبق القرارات رغم ان الحل يبدو أسهل كثيرا لو اننا راجعنا أنفسنا ووضعنا أيدينا على الأسباب قبل أن تتحول إلى ظواهر. لا بد ان نعترف بأن الدولة غائبة فى مجالات كثيرة وان هناك ثغرات لابد أن نواجهها فى أساليب العمل وان غياب هيبة الدولة جزء اساسى فى الأزمة .. هل يمكن ان نعترف بأن غياب العدالة واختلال منظومة التعامل مع المواطن المصرى مازالت تمثل خطرا حقيقيا فى مسيرة الوطن . اننا نتحدث كثيرا عن القوانين وضرورة احترامها وتقديسها وإنها الميزان الحقيقى للتعاملات بين الدولة والمواطنين لكن هذه القوانين كثيرا ما تختفى أمام حقائق اكبر تتجسد فى أصحاب المال أو النفوذ أو قوى الإعلام .. هنا حين نطالب المواطن العادى بأن يحترم القانون لابد ان نقدم له القدوة والمثل والنموذج خاصة ان هذا المواطن قد عانى زمنا طويلا من أساليب فجة فى انتهاك القوانين والاعتداء الصارخ على العدالة . ان المواطن المصرى من حقه ان يحلم بعصر جديد وزمان اكثر شفافية وحكم أكثر نزاهة وحين يشاهد أمامه صور الماضى القريب وهى تعيد استنساخ كل اساليب التحايل والقبح والاعتداء على حقوق الناس فلا بد له ان يتساءل وماذا بعد .. ان الدولة التى لاتستطيع فرض القوانين بما يضمن حقوق الناس تفتقد الكثير من هيبتها لان العدالة أهم الثوابت التى يقوم عليها احترام المواطن للوطن الذى يعيش فيه. ان احترام العدالة وتنفيذ القوانين على الجميع لا ينفصل ابداً عن مبدأ اخر وهو المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين وحين تنتهك هذه المبادئ يسطو أبناء المسئولين وأصحاب النفوذ والسطوة على حقوق الآخرين فنجد الآلاف منهم يتصدرون المشهد فى المناصب والمال والسلطان ويجلس أبناء الفئات الأخرى على أرصفة الانتظار وراء أحلام لا تجىء .. حين لا يقدر المجتمع أصحاب القدرات والمواهب ويدعى أنهم غير لائقين اجتماعيا فإن الدولة تفقد الكثير من هيبتها لأنها فشلت فى تحقيق ابسط مبادئ المساواة بين مواطنيها .. أريد من احد الأجهزة الرقابية فى مصر ان تراجع كشوف العاملين الجدد فى كل مواقع الدولة ومناصبها ومن فيهم من أبناء المسئولين وأصحاب السلطة والمال وأين ذهب أوائل الخريجين فى معظم الجامعات المصرية .. ان هذه الظواهر السيئة تخلق اجيالا حاقدة ومعقدة ومحبطة أمام واقع اجتماعى وسلوكى بغيض ومريض لا يعترف بالقدرات ولا يقدر الكفاءات ولا يمنح فرصا للتفوق .. ان هذه المجتمعات المشوهة تتراجع فيها أساليب العمل والإدارة لتصل إلى احط درجات التسيب لأن ما قام على باطل سوف يظل باطلا حتى لو كان سياسة مجتمع وطريق دولة. تسيطر على مصر الآن اسوأ انواع الطبقية وهى طبقية المال والأسر والوظائف وقد غابت تماما طبقية الصفوة أو حتى الطبقيات المهنية أو الحرفية .. فى مصر الآن طبقية تشجع التحايل والوصول على اشلاء الآخرين وهذه الأساليب فى الثراء والاعتداء على اموال الشعب بالباطل وهذا الميراث الثقيل من العهود البائدة وصل بالمصريين الى اسوأ حالات التقسيم المالى والفئوى والوظيفى ومن اراد إصلاح هذا الوطن عليه ان يبدأ من هذه المنطقة بأن يعيد لكل صاحب حق حقه .. حتى هذه اللحظة لا يبدو ان الدولة قادرة او لديها الرغبة فى تحقيق قدر من العدالة لمواطنيها واسترداد ما نهبه اصحاب القرار والمسئولون واثرياء الصدفة .. ان التكوين الطبقى للمجتمع المصرى قام على باطل لأنه كان اعتداء صارخا على مال الشعب وثرواته ومنح قلة من المسئولين والمحتالين فرصة للاستيلاء على موارد الدولة .. ان نقطة البداية ان نوقف هذا النزيف وتكون الدولة قادرة على مواجهة منظومة الفساد التى مازالت حتى الآن تمارس العبث والتحايل رغم كل ما نتحدث فيه عن الشفافية والإصلاح .. ان هيبة الدولة تتلاشى تماما امام تجاوزات واضحة وصريحة مازالت تجرى حتى الآن على ارض الكنانة فى غيبة من القوانين وكأن الزمان يعيد نفسه .. لقد اصدرت الدولة قوانين للتصالح مع المعتدين على اموال الشعب وقوانين لتشجيع الاستثمار وقامت بتوزيع مساحات واسعة من الأراضى ولكن المقابل كان ضعيفا وهزيلا .. مازالت نوايا رأس المال المصرى غامضة وتنقصها الشفافية وهذا يتطلب قدرا من الحسم والوضوح من مؤسسات الدولة خاصة ما يتعلق بحقوق الشعب .. كثيرا ما اسأل نفسى هل الدولة جادة بالفعل فى حربها ضد الفساد .. وهل هى حريصة على استرداد اموال الشعب .. وهل يمكن ان تتحقق فى مصر يوما مبادئ الدستور حول تكافؤ الفرص والمساواة بين ابناء الوطن الواحد حين نجد الإجابة على هذه التساؤلات فإن ذلك يمكن ان يكون بداية علاقة جديدة بين المواطن والدولة . لا يمكن لنا ان نتجاهل حالة الارتباك والفوضى فى الشارع المصرى ومدى تأثيرها على الحياة فى مصر بصفة عامة فى وقت نسعى فيه لاسترداد الثقة فى الاقتصاد والأمن والسياحة .. ولم يكن غريبا ان تترك مظاهرات قانون الخدمة المدنية وامناء الشرطة آثارا سيئة للغاية على أداء البورصة بحيث خسرت فى يوم واحد اكثر من 15 مليار جنيه.. وهنا اعود الى نقطة البداية وهى غياب هيبة الدولة حتى مع العاملين فيها من الموظفين ورجال الأمن وهنا لا ادعو الى مواجهات امنية ولكن اطالب بالحوار قبل ان تكون المواجهة بسبب قانون لم يناقش جماهيريا او مطالب فئة لا احد يعرف من يحركها . لا اجد مبررا للبكاء على اطلال العهد البائد والأحاديث المعادة والمكررة فى الإعلام عن انجازات هذا العهد وكلها مصالح وتربيطات وابواق باعت نفسها للشيطان..العهد البائد ولى بشقيه الفاسد والفاشل وكلاهما مستبد ولا ينبغى تشويه صورة نظام يسعى للخروج من هذه الأزمة الطاحنة وكلها بسبب عهود بغيضة مرت..هذه المهاترات والأكاذيب يجب ان تصمت للأبد ولا تتاجر بمستقبل هذا الشعب مرة اخرى. من ابرز المخاطر فى الشارع المصرى الآن هو غياب الدور السياسي.. لدينا احزاب ورقية وزعامات شكلية وشعارات براقة لا تستند الى فكر او رؤى .. ولكن الأخطر من ذلك ان الدولة نفسها تعانى هذا القصور .. لم اسمع يوما مسئولا كبيرا يتناول قضية سياسية فى حديث او حوار .. وما اقصده من السياسة او احاديث الفكر هنا ان يقدم لنا تصورا من خلال التحليل والمناقشة .. اين نحن وما هو المستقبل الذى يحيط بنا وما هى المخاطر التى تدق الأبواب .. مازلنا نتحدث عن قضايا الخطاب الدينى ولم نتقدم خطوة فيها لأن القضية تحولت الى خلافات وتصفية حسابات بين اطراف كثيرة ومصالح اكثر .. مازالت قضية الإرهاب بكل اركانها مقصورة على جوانبها الأمنية وحتى الآن لم يقترب احد من الأسباب الفكرية والثقافية لهذه الظاهرة الخطيرة . مازلت الفجوة بين الدولة وشبابها تزداد اتساعا كل يوم رغم ان الأمر يتطلب الحوار والمكاشفة .. ان قضية الشباب واحدة من اخطر القضايا النائمة فى هذا المجتمع ولابد من مواجهتها بكل وضوح وحسم وصراحة مازالت قضايا التعليم والثقافة حائرة بين مكاتب المسئولين ودهاليز السلطة ولا احد يعرف حتى الآن ماذا جرى فيها .. هناك من يقول لقد بدأت المسيرة ..وهناك من يرى ان المشوار بدأ مع تغيير المناهج وتدريب المدرسين وتعيين كوادر جديدة ولكن ماذا يعرف الرأى العام من ذلك كله وما هى آخر اخبار عقول ابنائنا فى مراحل التعليم المختلفة وهل نحن حقا امام ثورة تعليمية جديدة . على الجانب الآخر تقف الخلافات والصراعات بين المثفقين حول قضايا الإعلام والثقافة وهى امراض مزمنة تركت اثارها السيئة على العقل المصرى ولكن المؤكد ان ميراث التخلف والصراع بين المثقفين باختلاف مواقفهم يجعل الأزمة اكثر تعقيدا . ان منظومة التعليم والثقافة والإعلام هى نقطة البداية لإصلاح مكونات هذا الوطن الذى فقد الكثير من ثوابته الفكرية والدينية والثقافية امام امراض افسدت علينا كل شىء فى الفن والإبداع والأدب حتى وصلت الى انحدار رهيب فى مستوى الذوق العام. ان غياب هيبة الدولة ترك آثاره فى كل هذه المجالات حتى اننا احيانا نتمنى لو خرج علينا مسئول لكى يؤكد بعض الحقائق او ينفيها او يحسمها ولا تجد احدا . ان لدى السلطة فى مصر امراضا قديمة وهى تجاهل ما تتناوله وسائل الإعلام حول مشاكل الناس وازمات المواطنين .. وفى الفترة الأخيرة عادت هذه الحالة من التجاهل مهما ارتفعت صرخات الرفض او الإحتجاج. ان الدولة جارت كثيرا على بعض فئات المجتمع خاصة الطبقات الفقيرة ولم يسأل احد .. والدولة لم تناقش قانونا واحدا مع اى فئة اجتماعية او وظيفية كما حدث فى قانون الخدمة المدنية .. والدولة تركت فواتير الكهرباء تحرق الناس فى بيوتهم .. والدولة تركت المدارس الخاصة والجامعات تمارس أسوأ انواع الإرهاب ضد اولياء الأمور ولم تتحرك .. والدولة تركت اسعار الغذاء تتجاوز كل حدود الابتزاز ولم تحاول حماية المستهلك .. ان فوضى الأسعار فى كل شىء فى مصر تتطلب إنشاء وزارة خاصة لمراقبة الأسعار . كل هذه الظواهر المرضية فى حياة المصريين كانت نتيجة طبيعية لغياب هيبة الدولة .. ان غياب هذه الهيبة هو الذى جعل ابناء الشرطة حماة الأمن ومصدر الأمان يحاصرون بالسلاح مديرية الأمن التى يعملون فيها وغياب هذه الهيبة هو الذى جعل جميع مسابقات التعيين فى الوظائف الحكومية تصل الى ابناء المسئولين والمحظوظين والواصلين حتى لو افسدت كل مقومات العدالة .. وغياب الهيبة هو الذى جعل القوانين تصل بسرعة شديدة الى البعض وتتلكأ كثيرا امام البعض الآخر فى سراديب المحاكم واروقة العدالة .. والغريب ان الدولة تحارب الآن كل معاركها من خلال إعلام مغرض وساذج يسىء لكل شىء ويفقد الحوار قيمته ويفقد الكلمة قدسيتها وتأثيرها. ان هيبة الدولة لن تتجسد فى صراخ الفضائيات ولكنها تحتاج الى قرار حاسم و حوار جاد وفكر حقيقى يدرك الأسباب قبل النتائج ولا يتردد فى كشف الحقائق امام الناس ومواجهتها بالعقل والحكمة وليس بالتجاهل والإهمال.
..ويبقى الشعر تَعاليْ نودّع طيفَ الأماني ونسدلُ يوماً ... عليها الستارْ يعزّ عليَّ رحيلُ الشموسِ ِويحزنُ قلبى لموتِ النهارْ ولكنّهُ الدهر يقسو علينا ويخنقُ فينا الأمانى الصِغارْ تعالى نُلَملِمُ أشلاءَ عُمرٍ ونطوى حكايا ... الليالى القِصارْ قضينا مع الحُبّ عُمراً جميلاً و فى آخرِ الدربِ لاحَ الجدارْ لماذا تُعربِدُ فينا الأمانيُّ ويخدعنا وجهُها المستعارْ؟ لماذا نُسافرُ خلفَ النجومِ ونحنُ نراها تضّل المسارْ؟ هو الحُب مهما حملناهُ..طفلاً ومهما طغى فى دِمانا وجار ْسيغدو مع البُعدِ كهلاً حزيناً يُخلفُ فِينَا الأسَي..والدمَارْ أراك ارتعاشة حلم لقيطٍ يطوف على الناس فى كل دار فمن أينَ يأتى لعينيكِ ضوءٌ ؟ وكلّ الذى فى الحنايا انكسار ْومن أينَ يأتى الزمانُ الجميلُُ ؟ وكلّ الذى فى يديْنا انتظارْ فلا تَعجَبى مِن ثلوجِ الشتَاءِ تغطّى قلوبًا كسَاها الغبَارْ ولا تحزنِى إنْ أتانَا الصَّقيعُ ولا تسْألِى العُمر كَيفَ اسْتدارْ لقد كنتِ صُبحاً..سَرَى فى الضلُوعِ فبعضُكِ نورٌ .. وبعضُكِ نارْ
قصيدة ( اغنية للرحيل ) سنة 1996 لمزيد من مقالات فاروق جويدة