الأغنية الشعبية المصرية أصبحت اليوم بلا طعم أو لون بعدما فقدت رصانتها وقوتها وتأثيرها الكبير في المجتمع وأصبحت تعتمد لغة الشارع ولقبت بأغاني المهرجانات التي حلت بديلا عن الأغاني الشعبية التي شكلت وجدان الجماهير لسنوات طويلة وعلى يد كبار المطربين والمطربات الذين سلكوا طريقها، إلى درجة جعلت كبار المطربين يلجأون اليها لنجاحها وحجم تأثيرها.. فبعدما نجح أحمد عدوية وجملة من أغانيه الشهيرة ومحمد رشدي حين قدم " تحت الشجر يا وهيبة " و" عدوية " من خلالها أصابت عبد الحليم حافظ غيرة الغناء الشعبي وبالفعل توجه الى هذا اللون عندما طلب من عبد الرحمن الأبنودي ذلك صراحة وكتب له خصيصا عددا من الأغنيات الشعبية الشهيرة التي غناها من ألحان بليغ حمدي حتى أن حرب الحفلات بين كبار النجوم والموسيقيين كانت تدار من الكواليس من خلال الاغراءات الخاصة بالأغنية الشعبية عندما طلب بليغ من محمد رشدي أن يترك حفلة فريد الاطرش لينضم الى حفلة عبد الحليم حافظ للاستفادة من جماهيريته ومنحه أغنية ردوا السلام وعندما رفض رشدي منحها لعفاف راضي . إن عبد الحليم حافظ قدم عددا من الأغنيات الشعبية والتي امتزجت بصوته العذب وكان من أشد المعجبين بنجمها في ذلك الوقت أحمد عدوية الى درجة أنه كان يذهب الى اوبرج الأهرام ليستمع الى عدوية هناك وكان أيضا قد أصابته الغيرة من نجاح محمد رشدي بهذا اللون الغنائي فطلب أن يكتب له عدة أغنيات خاصة من عبد الرحمن الأبنودي نفسه التي كتب العديد من هذا اللون لمحمد رشدي ونجح حليم أيضا في هذا اللون .
ومن هنا أصبحت الأغنية الشعبية ليست صدفة أن تتبوأ مكانة مرموقة على الساحة الغنائية طوال القرن العشرين وبدايات هذا القرن وأصبح لها نجومها وبعيدا عن سرد مشوار كل مطرب، الى أن جاء بعد أحمد عدوية المطرب الشعبي حسن الأسمر الذي كان له لونه المميز والذي كساه بلمحة حزينة في الأداء مما استقطب اليه جماهير غفيرة خاصة بعدما تراجعت مكانة أحمد عدوية بعد تعرضه للحادث الشهير في احدى فنادق شارع الهرم ومن هنا أصبح الأسمر مسيطرا لسنوات طويلة وبنفس الطريقة استعانت به السينما مثلما استعانت بسابقه عدوية لكي تستفيد من قدراتهم الغنائية برغم قدراتهم التمثيلية المحدودة ولكن انتصارا لشعبيتهم وكسب جماهيرهم الى دور العرض فأقبل الجمهور على أعمالهم وحققت نجاحا لافتا في كثير من الأحيان خاصة أن معظم أفلامهم كانت تميل الى اللون الكوميدي.
ومن ثم شرع العديد من المطربين هذا الطريق وأصبحوا لديهم الرغبة الملحة لخوض المجال برغم أن قدراتهم الصوتية كانت محدودة ولكن لأن الأغنية الشعبية لم تكن تعتمد كثيرا على جماليات الصوت أو العُرب الغنائية الرقيقة لتحسين الأداء حتى جاء المطرب حكيم ليغير ايقاع وشكل الأغنية الشعبية عندما اكتشفه حميد الشاعري في التسعينات وأصبح حكيم له شعبية جارفة خاصة حينما اشتهر من خلال الأفراح في الفنادق وأصبح مطلوبا بقوة وأصبح جمهوره ليس من الطبقات الشعبية التي تميل الى هذا اللون الغنائي فحسب بل من كبار المثقفين أيضا وقدم حكيم ألبومات كثيرة الى درجة أنه كان لا يمر عام بدون ألبوم جديد وصنع لنفسه مكانة متميزة في شارع الأغنية المصرية وأمسك بقمة هذا اللون لسنوات طويلة وهو المطرب الشعبى الوحيد الذى أخرج الأغنية الشعبية الى العالمية حين وقف على مسرح الاليمبيا الفرنسى الشهير الذى بنى عام 1888 ليكون ثالث مطرب مصرى بعد أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وهو المسرح الذى استضاف عمالقة الطرب والغناء فى العالم مثل اديث بياف وشارل ازنافور وداليدا وجاك بيرل حتى جاء سعد الصغير واستطاع ان يزاحم حكيم في مكانته وأصبح له العديد من الأغنيات الشهيرة وراجت أغانيه بقوة وكعادة السينما جرت وراء الصغير ومن قبله حكيم أيضا وقدما عددا من التجارب المتواضعة واستغلت السينما سعيد الصغير كثيرا خاصة في الأغنيات الشعبية التي كان يغنيها في الأفلام مع الراقصة دينا والتي أثارت ضجة كبيرة في كثيرا من الأحيان نظرا للايحاءات التي كانت تتعرض لها.
ولم يخل طريق النجومية من المطربين بل شهد أيضا مطربات قدمنا هذا النمط مثل فاطمة عيد والتي أعادت لهذا اللون مكانته المفقودة خاصة من خلال الصوت النسائي ونظرا لارتباط الجماهير بها حققت نجاحا لافتا ومتميزا لسنوات الى ان اختفت ويعود اختفاء نجوم هذا الجيل ومن سبقوه نظرا لما تعرضت له الساحة الغنائية بشكل عام من قرصنة سمعية جعلت منتجي الكاسيت يغلقون أبواب شركاتهم بعد ان تكبدوا خسائر فادحة لما كانت تتعرض له أعمالهم للسرقة عبر الانترنت ففور صدور الألبوم الجديد في سوق الكاسيت كان من الممكن خلال دقائق قرصنته والاستماع اليه ما جعل الكثير من الأصوات الكبيرة تتوارى لأن المطربين أنفسهم رفضوا مغامرة الانتاج ولأن المنتجين ما عادوا يتكسبوا من خلال هذه الأعمال بعد ان كانت تجر عليهم ذهبا ومثال لذلك علي حميده الذي كسّر الدنيا بألبوماته رغم بساطتها مثل "لولاكي "و" كوني لي حبيبة " والتي وزعت اكثر من 10 مليون شريط في كل شريط مع ان أجره كان بالملاليم ثم سرعان ما اختفى أيضا الى أن بدأت تظهر أصوات غنائية نسائية جديدة في هذا المجال مثل أمينة وصولا الى أصوات مثل اوكا واورتيجا وعندما نجحت أغنية المهرجانات والتي حلت بدلا من الأغنية الشعبية أصبحت تلك الأغنية تعاني كثيرا في السنوات الأخيرة ولذلك أفل نجم الاغنية الشعبية كثيرا وأصبحت تعاني السقوط من القمة الى القاع بعدما توارت كثيرا وأصبح لها أشكال مختلفة كاللون الذي يقدمه شعبان عبد الرحيم والذي اتخذ نغمة محددة وواحدة وأصبح له شعراء مخصوص مثل اسلام خليل وكذلك لونه المميز والذي استطاع من خلاله ان يكون له جماهيرية عريضة ورغم بساطته وحظه التعليمي الضئيل الا أنه استطاع أن يصل إلى مسامع كبار السياسيين والمثقفين بأغانيه البسيطة واصبحت له شعبية جارفة خاصة بعد أغنيته السياسية : أنا بكره اسرائيل " ..ومعاناة الأغنية الشعبية لم تقف طوال عمرها بل انها في كل مرة تستطيع أن تتغير وتساير الزمن وتخرج للنور مجددا وآخرها أغنية نشيد الصاعقة " قالوا ايه " وهي التي وجدت تجاوبا مع الجماهيرا نظرا لارتباطها بأحداث مهمة على الساحة المصرية.
ومهما تعرضت الأغنية الشعبية للكبوات الا انها في كل مرة كانت تستطيع أن تعاود الظهور والبقاء في دائرة الضوء بما تملكه من رصيد كبير وبما يتجدد لها من أصوات جديدة فالأغنية الشعبية قد تمرض لكنها لن تموت كليا والزمن كفيل بابقائها في دائرة الاهتمام نظرا لما لها من أرضية رصينة وشعبية جارفة وجمهور يبحث عنها طوال الوقت فهى بحق تراث أمة وذاكرة شعب !.