بعد تصريحات نتنياهو، فصائل فلسطينية تطالب مصر برعاية اجتماع طارئ لصياغة "إستراتيجية وطنية"    ماذا يحدث في حلب، تسمم العشرات من أفراد "الفرقة 64" بالجيش السوري ونداء عاجل للمستشفيات    تامر عاشور يتألق بحفله في العلمين الجديدة والجمهور يرفض مغادرته المسرح (صور)    أول ظهور للفنانة ليلى علوي بعد تعرضها لحادث سير بالساحل الشمالي (فيديو)    النيابة تصدر قرارًا بحق المتهمين بمطاردة فتيات على طريق الواحات    مالي: اعتقال عسكريين ومدنيين بتهمة التآمر على الحكومة بدعم خارجي    لافروف ودارتشييف يصلان إلى ألاسكا حيث ستعقد القمة الروسية الأمريكية    بدرية طلبة تتصدر تريند جوجل بعد اعتذار علني وتحويلها للتحقيق من قِبل نقابة المهن التمثيلية    نفحات يوم الجمعة.. الأفضل الأدعية المستحبة في يوم الجمعة لمغفرة الذنوب    د.حماد عبدالله يكتب: الضرب فى الميت حرام !!    ما هو حكم سماع سورة الكهف من الهاتف يوم الجمعة.. وهل له نفس أجر قراءتها؟ أمين الفتوى يجيب    حفل موسيقي لسمر طارق ضمن فعاليات مهرجان الصيف الدولي بمكتبة الإسكندرية    مفتي الجمهورية: «إسرائيل الكبرى» أكذوبة وخرافة استعمارية لتبرير التوسع في المنطقة    "يكتب اسمه على القميص".. مايو حكما لمباراة الزمالك والمقاولون في الدوري    نبيل الكوكي: تركنا الاستحواذ لهذا السبب.. وننتظر المزيد من لاعبي المصري    جدو: لدينا أزمة في استغلال الفرص.. والبدايات دائما صعبة    القوى والفصائل الفلسطينية : الأولوية في الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي ورفع الحصار عن قطاع غزة    الأمم المتحدة تدين خطة سموتريتش الاستيطانية    "بوليتيكو": أوروبا تتأرجح بين الأمل والخوف مع لقاء ترامب وبوتين    طريقة عمل سلطة التبولة بمذاق مميز ولا يقاوم    خالد الغندور: تفاصيل اقتراب عودة أحمد فتوح للتدريبات الجماعية بعد مباراة المقاولون    «هتستلمها في 24 ساعة».. أماكن استخراج بطاقة الرقم القومي 2025 من المولات (الشروط والخطوات)    #رابعة يتصدر في يوم الذكرى ال12 .. ومراقبون: مش ناسيين حق الشهداء والمصابين    بحوزتهم أسلحة بيضاء.. أمن القليوبية يضبط طرفي مشاجرة في الخصوص    رسميًا بعد التأجيل.. موعد بدء العام الدراسي الجديد 2025-2026 للمدارس بالجزائر    بالأسماء.. إصابة 12 مصريا وروسي الجنسية في تصادم على طريق الساحل الشمالي بالعلمين    سعر اليورو اليوم الجمعة الموافق 15 أغسطس 2025.. كم سجلت العملة الأوروبية في البنوك؟    لو اتكسر مصباح السيارة هتعمله من غير ما تروح للميكانيكي: دليل خطوة بخطوة    رسميًا بعد قرار البنك الأهلي.. حدود السحب والإيداع اليومي من البنوك وال ATM وإنستاباي    نائب محافظ مطروح يتفقد قافلة «الخير» بقرية أبو زريبة بالسلوم ويعقد حوارًا مجتمعيًا مع الأهالي    من الأطباء النفسيين إلى اليوجا.. ريهام عبد الغفور تكشف ل يارا أحمد رحلة تجاوز الفقد    رسميًا ..مد سن الخدمة بعد المعاش للمعلمين بتعديلات قانون التعليم 2025    رسميًا الآن.. رابط نتيجة تنسيق رياض أطفال 2025 محافظة القاهرة (استعلم)    نجم الأهلي السابق يكشف سر غضب الخطيب.. وهذه رسالتي ل ريبيرو    «اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم».. دعاء يوم الجمعة ردده الآن لطلب الرحمة والمغفرة    بيراميدز يخوض ودية جديدة استعدادا للمواجهات المقبلة في الدوري    هترجع جديدة.. أفضل الحيل ل إزالة بقع الملابس البيضاء والحفاظ عليها    تناولها يوميًا.. 5 أطعمة تمنح قلبك دفعة صحية    بعد موافقة النواب.. الرئيس السيسي يصدق على قانون التصرف في أملاك الدولة    تعرف على عقوبة تداول بيانات شخصية دون موافقة صاحبها    طرائف الدوري المصري.. لاعب بيراميدز يرتدي قميص زميله    ستيفان مبيا: محمد صلاح كان يستحق الفوز بالكرة الذهبية في السنوات الماضية    مكافآت أمريكية ضخمة للقبض على 5 من أخطر تجار المخدرات في المكسيك    ثقافة الفيوم تصنع البهجة في الشواشنة بفعاليات فنية وثقافية متنوعة.. صور    النائبة أمل سلامة: المرأة تعيش عصرها الذهبي.. والتأثير أهم من العدد    بالصور| نهضة العذراء مريم بكنيسة العذراء بالدقي    وزير البترول يكلف عبير الشربيني بمهام المتحدث الرسمي للوزارة    القانون يحدد ضوابط استخدام أجهزة تشفير الاتصالات.. تعرف عليها    ظهرت الآن، نتيجة المرحلة الأولى لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة    كانت نازلة تجيب فستان حفل التخرج .. والدة "رنا" تكشف تفاصيل مطاردة "طريق الواحات" المثيرة (فيديو)    "بعد اتهامها بتجارة الأعضاء".. محامي زوجة إبراهيم شيكا يكشف لمصراوي حقيقة منعها من السفر    لأول مرة بمجمع الإسماعيلية الطبي.. إجراء عملية "ويبل" بالمنظار الجراحي لسيدة مسنة    الأوقاف: تجارة الأعضاء جريمة شرعية وأخلاقية.. والتبرع جائز بشروط صارمة    هل دفع مخالفة المرور يسقط الإثم الشرعي؟.. أمين الفتوى يجيب    الإعلام المصرى قوى    شعبة مواد البناء: سعر طن الحديد أعلى من قيمته العادلة في مصر ب16 ألف جنيه    درة تاج الصحافة    الإصدار الثانى عاد ليحكى الحكاية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح عبد الصبور يكتب عن محمود درويش: «القديس المقاتل»
نشر في الأهرام العربي يوم 11 - 08 - 2018

«ديوان محمود درويش يتحدث للمرة الأولى بلهجة المشارك، لا بلهجة المشاهد، وينسخ بذلك كل ما سبق أن قيل ويضع علامات الطريق لمن يريد أن يقول بعده».
الكلمة التى حيرتنا منذ عشرين عاما قالها محمود درويش..
كنا نتساءل: كيف نعبر عن القضية وبأى كلمات نستطيع أن نخاطب بالمأساة قلب الإنسان، وأن نخلق للجرح فما ولسانا فصيحا، وكانت تثقلنا فى بعض الأحيان بأغلال عنتريتنا الجوفاء، فنصرخ ونتوعد، ونكذب حتى على أنفسنا، وكانت تثقلنا أحيانا بكائيات رحيلنا الحزين، فنتألم ونتعذب ونجهش بالبكاء.
كان شعر فلسطين - فى معظمه - ضائعا بين العنترية الجوفاء والبكاء الذابل، حتى كتب محمود درويش ورفاقه، لقد تكلموا فحسب، كلمة صادقة حزينة حزن الرجال، فأثبتوا أن الشعر هو صوت الإنسان حين يتكلم، وحين يتكلم من قلبه، وبصوته الخاص لا بأصوات الآخرين والمجموعة الباذخة التى نشرتها مجلة «الهلال» فى عدد مايو الأخير من شعر محمود درويش، هى فى رأيى حدث فنى من أحداث حياتنا. ولو استطعت أن أتجرد من ظلال قضيتنا المصيرية، وتذرعت بالحس النقدى وحده، لما تغير رأيى قليلا أو كثيرا، فهى شعر، وشعر عظيم بشتى المقاييس.
وتأتى مجموعة محمود درويش بعد مخاض طويل لشعر النكبة، فى مرحلتها الحالية، بعد أن أسهم فى هذا المخاض عشرات الشعراء العرب الذين اجتهدوا أن يقولوا كلمتهم التى تحمل رائحة الصدق والشاعرية معا، ومثلما كان عام 1948 منحنى واضحا فى القضية ذاتها، كان منحنى واضحا أيضا فى التعبير عنها. فقبل هذا العام الفاصل كانت أصوات إبراهيم طوقان وأبى سلمى وعبدالرحيم محمود تجلجل فى سماء الأرض الفلسطينية، وتصنع للمقاتلين شعاراتهم وبيارقهم.. كانت تتجه إلى الفلسطينى العربى تناشده الثبات والصلابة، لكنها لم تكن تعنى بأن تخاطب الإنسان فى كل مكان، لأننا كنا نتصور فى ذلك الوقت أن قضيتنا هى قضية مواجهة رجل لرجل، ولم يكن يدور بخلدنا أن أعداءنا لونوا الرأى العام العالمى بلون العداوة للعرب والمودة لليهود، وبعد كارثة 1948 زلزلت مفاهيمنا عملها وأدركنا كم كنا مقصرين فى حق القضية الكبري، وتلمسنا الأبعاد الجديدة وطمحنا أن نخاطب الإنسان فى كل مكان، فلم يعد من المجدى أن نخاطب العربى وحده. فقد كفتنا الأحداث الأليمة مئونة هذا الخطاب. ولست أشك فى أن هذا جرح فلسطين كما كان هو - على الصعيد السياسى المحرك لمعظم الانتفاضات الساسية فى عالمنا العربي، والباعث الأول لنا على مراجعة أساليب حياتنا ونظم الحكم فى أوطاننا، فقد كان إلى ذلك - فى المجال الأدبى والثقافى - من أكبر العوامل على تمزيق الأسلوب الشكلى التقليدى لفنوننا، كما كان هذا الجرح هو الينبوع الأول لهذا المراج الحزين الذى ساد أدبنا وشعرنا على التحديد فى خمسينيات هذا القرن وستينياته، لأن هذا الجرح كان يمثل خيبة وسائلنا التقليدية إزاء تحديات العصر.
وربما كانت القصائد التى كتبها شعراء العربية المحدثون عن قضية فلسطين محدودة قليلة، لا تعدو بضع قصائد لكل منهم، لكن الدارس يستطيع أن يحس بظلال هذه القضية فى كل ما كتبوا، متمثلة فى هذا المزاج الحزين القلق، وفى هذه النبرة الواضحة من الندم والألم، ولو تجاوزنا ذلك المزاج إلى تلك القصائد بالتحديد، لوجدنا أن معظمها قد وقع فى خطيئة المبالغة العنترية، إذ جنح إلى الخطابية وابتعد عن التعبير الفنى إلى التعبير السياسي. وإن قليلا منها قد استطاع أن يعبر عن جوانب إنسانية من القضية، ولكن ظل ينقصه عنصر مهم، وهو أن يتحدث بلهجة المشاهد لا بلهجة المشارك.
وديوان محمود درويش الجديد يتحدث للمرة الأولى بلهجة المشارك، وينسخ بذلك كل ما سبق أن قيل، ويضع علامات الطريق لمن يريد أن يقول بعده.

ينقلنا هذا الديوان شأن الأعمال الفنية الكبيرة إلى عالمه، وتدخل بنا قصائده، قصيدة بعد قصيدة من أبواب مدينة قد لا نعرف اسمها، لكننا نستطيع أن نعرف ملامحها.. إنها مدينة قد أرغمت على خلع ثيابها الخالدة، خلع اسمها وطابعها لكى تكتسى ثيابا جديدة أو اسما جديدا أو طابعا جديدا. مدينة كانت عربية فتهودت، واغترب فيها أبناؤها. وأصبح الغريب فيها سلطانا طبع رسمه على ظهر كل بطاقات البريد، وأطلق اسمه على الطرق والأبنية، ولكن هناك أشياء لا يستطيع السلطان أن يمنعها أو يغيرها. إنه لا يستطيع أن يمنع القصيدة، ولا يستطيع أن يغير الأرض.
ويتقدم لنا من خلال الديوان هذا الشاعر، شاب اسمه محمود، يؤمن بكل ما يؤمن به الرجال.. الأرض والوطن والحب والشجاعة، ويؤمن أيضا بالمستقبل، ويريد أن يغنى له ولكن السلطان يمنع أغنيته، ويعتقله، ويعذبه، فلا يذل جبينه ولا يموت غضبه.
وبرغم أن محمود درويش يتحدث لصوته الخاص، فإن مدينته كلها تعيش فى شعره، أسرته ورفاقه، وسجآنه وجلاده، وفتاة يهودية اسمها «ريتا» تقف بينها وبينه بندقية ومقاتل يحدثه عن قتلاه ويحلم بالسلام ورجال الصليب الأحمر، ومشردى المخيمات، حتى البيوت والشجر والأقمار.
هنا فى هذا الشعر يلتقى الإنسان بالإنسان، أيا كان اسمه أو لونه أو دينه. لا بد أن نتعاطف معه كما نتعاطف مع الأبطال فى محنتهم وأن نتعاطف مع مدينته كما نتعاطف مع المدن المقهورة الصادمة، وأن نحبه ورفاقه كما يحب الرجال الرجال فإن الأمر ليس أمر بلاغة، ولكنه أمر صدق، ومن الذى لا يتعاطف مع هذه الأسرة الكاملة التى رسمها محمود درويش فى اقتدار فى القصيدة «القتيل رقم 48»:

وجدوا فى صدره قنديل ورد
وفخر
وهو ملقى ميتا فوق حجر
وجدوا علبة كبريت
وتصريح سفر
وعلى ساعده الغض نقوش

قبلته أمه
وبكت عاما عليه
بعد عام
نبت العوسج فى عينيه
فاشتد الظلام


عندما شب أخوه
ومضى يبحث عن شغل بأسواق
المدينة
حبسوه


لم يكن يحمل تصريح سفر
إنه يحمل فى الشارع
صندوق عفونة
وصناديق آخري


آه أطفال بلادي
هكذا مات الفخر!


هذه صورة لأسرة عربية، صريعة للفقر والاضطهاد وتصاريح السفر من مدينة إلى مدينة، يموت شبابها موتا مجانيا كل يوم. وتضمحل ذكراهم، كما يضمحل القمر، يواريه التراب فينبت الشوك فى عيونهم المذعورة. ليست هنا كلمة صارخة أو عالية النبرة، لكن قدرة هذه الصورة على بعث الأوجاع النائمة لا تقاوم، فإذا استمعنا إلى قتيل آخر يتكلم فى القصيدة «القتيل رقم 18» وجدنا صورة أخرى للمأساة.. إنه يتحدث إلى حبيبته فيقول:
لك منى كل شيء
لك ظل لك ضوء
خاتم العرس، وما شئت.
وحاكورة زيتون وتين
وسآتيك كما فى كل ليلة
أدخل الشباك، فى الحلم
وأرمى لك فلة
لا تلمنى إن تأخرت قليلا
إنهم قد أوقفوني
غابة الزيتون كانت دائما خضراء
كانت يا حبيبي
إن خمسين ضحية
جعلتها فى الغروب
بركة حمراء.. خمسين ضحية
يا حبيبي
لا تلمني
قتلوني
... قتلوني
... قتلوني

إن هذه القصيدة صوت عامل عربى طيب، محب يتمنى لو بنى مع محبوبته بيتا وأسرة، يعود فى سيارة العمال مع خمسين من رفاقه بعد يوم من العمل الشاق، وهو يحلم بالراحة والدفء، ولكن الطغاة يديرون السيارة إلى الشرق، وهم هادئون، ثم يقتلون العمال، ويلوثون خضرة البركة الزاهرة بدمائهم. إن هذا القتيل مجرد رقم.. الطغيان جعل منه رقما فى حياته ورقما فى مصرعه، وبرغم ذلك فمازالت الحياة تتنفس، ومازال يحلم بأن يعود ليلقى بفلة من شباك حبيبته. إن الحياة أقوى من الموت والطغيان وهذا هو النغم الذى يتماوج فى قرار شعر محمود درويش كله.
شعراء الأرض المحتلة.. تحية لكم فقد فتحتم طريقا جديدا للكلمة العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.