هو أحد شطري البرتقالة. هكذا أطلق عليه النقاد ، علي اعتبار أن محمود درويش شطرها الثاني ..يتكاملان. سميح القاسم الشاعر الفلسطيني يرحل ...لتفقد " المقاومة" صوتا من أصواتها في النضال من أجل التحرر. سميح القاسم المولود عام 1939 .يعتبر أشهر الشعراء الفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط إسمهم بشعر الثورة والمقاومة من داخل أراضي 48 ويعتبر سميح أحد شعراء الثالوث الفلسطيني للمقاومة مع توفيق زياد ومحمود درويش ، ويري كثير من النقاد أن أشعار قاسم ودرويش وزياد كانت حلقة الوصل بين الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال وبين الشعوب العربية الأخري التي أقبلت علي قراءة ومتابعة أشعارهم. وقد جسدت أشعار الثلاثة مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال وتمسكه بأرضه وهويته العربية. وقد ارتبط سميح برفضه الخروج واصراره علي البقاء في الضفة ..وكانت قصائده تمثيلا للشعر والمقاومة كقصيدته "تقدموا" التي خاطب فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي وقصيدته "منتصب القامة أمشي" التي لحنها وتغني بها مارسيل خليفة. برحيل قاسم الثلاثاء الماضي بعد رحلة من المرض، يرحل صوت هام من أصوات المقاومة. ياأسطي سيد إبن، وشيّد شيّد لي السد العالي شيّد لك أطفئ ظمأ الغيظ العالي وامنحنا، وامنح أهلك كوبا من ماء وخضارا وزهورا وضياء يا أسطي سيد أزف الموعد والقرية في الصحراء العطشي تحلم والبذرة في الثلم الصابر الصابر تحلم فادفن أشلاء القمقم في أشلاء القمقم في أشلاء الصخر المتحطم وابن وشيّد يا أسطي سيّد باسم ضحايا الأهرام وباسم الأطفال إبن السدّ العالي ياصانع حلم الأجيال! كانت هذه الكلمات هي جواز المرور الثاني الذي دخل قلوب المصريين منذ لحظة التعرف علي شعراء الأرض المحتلة، لأن جواز المرور الأول كانت القضية الفلسطينية نفسها، هذه القضية التي شغلتنا ومازالت تشغلنا كثيرا، وكان صوت شعراء المحتلة الذي انفجر علي غير استحياء، وبقوة شديدة، ووجد من الكتّاب والنقّاد والمبدعين صدي كبيرا، البعض من هؤلاء تحفظ واشمأنط، وقال إن ظاهرة شعراء الأرض المحتلة مجرد ظاهرة صوتية، مرتبطة ارتباطا كبيرا بالازمة السياسية، وسوف يزول تأثير هذا الشعر فور زوال المأزق السياسي لبلادهم، وكان هذا الكلام يأتي من ناحية مجلة "شعر" اللبنانية، الذين انتقدوا الظاهرة بشدة، واعتبروها صوتا دخيلا علي الشعر العربي، بينما ردّ علي هذا الكلام الناقد اللبناني الراحل محمد دكروب في مجلة "الطريق"، ولكن "كتابا" مهما صدر للكاتب والمناضل غسان كنفاني عام 1968 تحت عنوان "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال1948.."1968"، وكان غسان ينشر بعض فصوله في عدة دوريات، أشهرها مجلة "الآداب" اللبنانية، وكانت قد بدأت بعض قصائد لفدوي طوقان ومحمود درويش تفلت من بين أشكال الحصار الرهيبة التي تفرضها اسرائيل علي هؤلاء الشعراء، وكانت تمرّر قصائد لشعراء آخرين تافهين، يناسبون رغبة الاحتلال الصهيوني الذي كان يروّج لهؤلاء الشعراء، وكان في الوقت ذاته يلاحق الشعراء الحقيقيين، ويحتجزهم في السجون لشهور عديدة، وكان الشاعر حنا أبوحنا، وهو المعلّم الذي ساعد علي إبراز هذه الظاهرة، يقاتل من أجل حفر مجري جديد في شرايين الحركة الشعرية والوطنية الفلسطينية، وكان هؤلاء الشعراء جميعا ينتمون إلي الحزب الشيوعي الفلسطيني -حسب التوجه-والاسرائيلي-حسب الاقامة - وكانت مجلة "الجديد"التي تصدر عن الحزب تنشر أشعار هؤلاء، واستطاعت هذه الاشعار أن تخرج، فيتلقفها غسان كنفاني في بيروت، ويكتب عنها رجاء النقاش في مجلة "المصور" في القاهرة عام 1966، مما لفت الأنظار واهتمام الدوائر العربية والثقافية والأدبية، وبدأت أشعارهم تنتشر وتجد لها قارئاً مفعما بالحلم العربي والفلسطيني والانساني، حيث أن أشعأرهم لم تقتصر علي المساحة الفلسطينية فقط، بل تجاوزت الأسوار المفروضة عليهم كفلسطينيين وأسري احتلال مقيت، وكما كتب سميح القاسم قصيدة عن السدالعالي، وقصيدة أخري عن نجيب محفوظ في وقت مبكر، نجد أن محمود درويش يغني لأفريقيا منذ ديوانه الأول.ولم يكتف هؤلاء الشعراء بكتابة الشعر فقط، بل تجاوزوا ذلك بتحديد مهمة وشكل ووظيفة هذا الشعر الجديد، الذي ولد وانفجر بين حديد الاحتلال، مثل الزهرة التي تنبت في قسوة الصخور، حيث يقول محمود درويش: "قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت إذا لم تحمل المصباح من بيت إلي بيت" ويقول سميح: "قصائدنا، موقعة علي الفولاذ والأخشاب بالصخر وأمتنا تحث الزحف مازالت تحث الزحف للفجر" وكانت هذه الكتابة تعلن عن شكل آخر للكتابة، ووظيفة أخري للشعر، ودور أكثر اشتباكا وفعالية مع الواقع، ولأن الشعراء بالفعل كانوا ضمن حركة سياسية عارمة، وكان الشعر سلاحا ناصعا وواضحا أمام الناس، لذلك وجد طريقه بقوة بين الجماهير العربية، واشتباك الشعراء الذي تجاوز المساحة المحتلة بأقدام الصهاينة، إلي المساحة العربية الأشمل والمهددة بمزيد من الاحتلال بدبابات هذا العدو، وعندما حلّت كارثة 1967صرخ الشعراء بحسرة شديدة، فقال محمود درويش: "خسرت حلما جميلا خسرت لسع الزنابق وكان ليلي طويلا ...وما خسرت السبيلا" وكتب سميح القاسم: "يامن ورائي لا تخونوا موعدي هذي شراييني خذوها وانسجوا منها بيارق نسلنا المتمرد" وتعضد هذا الالتحام بين ظاهرة شعراء وأدباء الأرض المحتلة، بالتسريب المستمر لنصوصهم في المجلات المصرية واللبنانية، هؤلاء الادباء، وكانت مجلتا الطريق والآداب اللبنانيتين شديدتي الاهتمام، وفي القاهرة نشر رجاء النقاش ديوان "آخر الليل" لمحمود درويش، وديوان"ادفنوا موتاكم وانهضوا" لتوفيق زياد، كملاحق بداخل عددين متتايين في مجلة الهلال المصرية، وأنشأ كتابا ضخما عن محمود درويش، وفيه تحدث باستفاضة عن ظاهرة هؤلاء الشعراء والأدباء، وكان الناس في الوطن العربي متعطشين لمعرفة المزيد عن أخبار هؤلاء الادباء الذين يناضلون في داخل الأسوار كبديل عنا جميعا، أو كطليعة تقف في الصف الأول لمواجهة الأعداء، وكان التعريف الأول لشاعرنا الراحل محمود درويش كتبه غسان كنفاني في هامش نشره تحت القصائد التي نشرها له في كتابه، يقول التعريف:"ولد -سميح- عام 1929 في مدينة الزرقاء في الضفة الشرقية من الأردن، حيث كان والده في الجيش هناك، وعادت عائلته إلي الرامة (الجليل)وهو طفل، وتلقي هناك دراسته الابتدائية، وأكمل دراسته الثانوية بعد النكبة في الناصرة، عمل في التعليم، ثم فصل بعد صدور ديوانه الثاني "أغاني الدروب" الذي حذفت الرقابة قصائد عديدة منه، سجن مرتين (1961، 1967) وفرضت عليه الإقامة الجبرية في حيفا بعد خروجه من السجن، بالإضافة إلي أوامر إضافية تقضي بعد مغادرة المنزل بعد الساعة السادسة مساء، كما يتحتم عليه أن يثبت وجوده مرتين عند البوليس أثناء النهار، مسلم درزي، ذو اتجاه يساري، وكثير الإنتاج، آخر دواوينه، بالإضافة ل"مواكب الشمس"1958و"أغاني الدروب"1964و "إرم"1965و"دمي علي كفي"1967، اسمه "دخان البراكين"وقد صدر عام 1968"، كان هذا التعريف شبه محفز ومحرض لمعرفة الشاعر، وقراءة كل ماتتيحه محاولات كسر العزلة، فالأشعار التي نشرها غسان في كتابه، وهي مختارات من دواوين سميح التي صدرت حتي صدور كتاب غسان، وضمن هذه القصائد رسالة إلي نجيب محفوظ، ضمن قصيدة طويلة عنوانها "رسائل إلي ميادين المعركة"، وكانت هذه الرسالة تقديرا بالغ العذوبة لعميد الرواية العربية، فيقول له في ثنايا القصيدة الرسالة: "فاغرف من أعماق البئر العذراء واسق العامل والفرّان وأطفال الحارة فالناس ظماء اكتب عن شحذ الهمة واكتب عن أحلام الأمة" وكان سميح بهذه القصائد الرسائل، يحاول إيصال صوته بكافة الطرق، هذا الصوت المفعم بمقاومة الأعداء الصهاينة، والممزوج بوعي اشتراكي ماركسي، وكانت قصائده التي تصل إلينا عبر الوسائط العربية المتعدة كالصحف والمجلات والإذاعات المتعددة، تشي بالطابع الفني والكفاحي الذي كان يسم الأشعار والحركة عموما، وكان الشعراء يحاولون تحديد هويتهم العربية الممتدة، والطبقية، والتي تتجاوز كما أسلفنا أسوار فلسطين المسلوبة والمصلوبة، فنجده يكتب قصيدة عن "طانيوس شاهين"، وهو أول عربي في التاريخ الحديث ينظم ثورة فلاحية علي الإقطاع في لبنان، وتفصح هذه القصيدة عن توجهات سميح الثورية، والعربية في الوقت ذاته، وقد نشرت القصيدة في مجلة الآداب اللبنانية في يوليو عام 1970، ويبدأها سميح ب: "تجهل الكرمة أن الشاربين دمها، لم يصنعوا تاريخها. يجهل الصفصاف أن الغارسين أفسحوا الظل لقطّاع الطريق تجهل الأرزة أن الحاطبين آثروا اللقمة في برد الشتاء ولذا تنعم بالدفء أكف الآخرين! يا أسير القصر، ياعنقود من يخلي سبيلك لذويك الجائعين؟ ياظلال الحور والصفصاف من تنتظرين". ورغم هذا التوسع، والتجاوز الذي يتجلي من خلال شعر سميح ورفاقه، إلا أن النقّاد العرب حاولوا حصرهم في القضية الفلسطينية، واضفواعليهم قدسية خارج الشعر تماما، وراح الناس يتعاطفون معهم تبعا للتعاطف مع القضية، وهذا التعاطف كان في بعض زواياه خبيثا، لطمس المستوي الفني الرفيع الذي تجلي في هذه الأشعار، وهناك جوانب اخري من هذا التعاطف منطلقة من انتماء وانتصار للقضية الفلسطينية خصوصا والعربية عموما، وترسخ هذا التعاطف بعد انطلاق حركة"فتح" في العام 1965، بقيادة ياسر عرفات، وبدأخلط السياسي العملي والبراجماتي واللحظي، بالفني والأدبي والثقافي العام والشامل والانساني، وفي ظل هذا التعاطف الشديد كانت سهام المتربصين تعمل بقوة، لتصوير الظاهرة أنها مجرد تعليقات علي أحداث سياسية، ووليدة ظرف تاريخي محدود، ولن تفعل هذه الظهرة أدني تطوير في الشعر العربي، مما دعا الشاعر محمود درويش لكتابة افتتاحية مجلة "الجديد" تحت عنوان "ارحمونا من هذا الحب القاسي"، وتناقلت الصحف والمجلات هذا البيان الذي أفصح فيه درويش، ومعبرا عن رفاقه، عن حقيقة الحركة التي تتشكل منهم جميعا، هو وسميح القاسم وتوفيق زياد وحنا أبو حنا وراشد حسين وآخرين، وأجرت مجلة الآداب حوارا مطولا مع درويش كتعليقات علي الصدي الذي أحدثه البيان، ونشر في سبتمبر 1970 قال فيه: "ثمة رأي يقول إن هذا الشعر لا يمكن اعتباره شعر مقاومة، إنه شعر معارضة، وأنا لا أعتبر هذا التعبير إهانة، وإنما أعتبره اجتهادا، ولكنه يعاني من هواية التلاعب بالألفاظأو الأفكار، إن صاحب هذه المقولة -وهو كاتب جاد - يختار من مصطلح "أدب المقاومة" المعني الواسع للكلمة بمعالجته مايبدو له أنه أدب مقاومةفي شتي البلدان وفي شتي الأزمنة"، ويستطرد درويش معلنا عدم خلو بعض ظاهرة هذا التعاطف وذلك الحب من البراءة، فهناك أصوات خبيثة كامنة في ثنايا هذا الحب، وكذلك عبر سميح في أكثر من موقع، ومن مجلة، ولكن صوت درويش كان الأكثر وصولا إلي جماهير الوطن العربي، ولا يعود هذا لأنه كان الأشعرأو الأهم أو لأنه رئيس تحرير المجلة الأدبية للحزب، ولكن ربما لقدرة درويش علي التواصل مع الآخر المتعدد، العربي والغربي، القومي والشيوعي والبعثي، ولم ينغلق علي قضيته فقط، بل راح ليكتب النثر والشعر، ولذلك قرر الخروج من الأرض المحتلة في مطلع السبعينيات، منوجها إلي القاهرة، مما أحدث فجوة عميقة بينه وبين رفيق نضاله وعمره سميح القاسم، وتبادل الاثنان التراشق، وعمل آخرون ومتربصون علي تأجيج الصراع بين الشاعرين، واصطاد البعض إحدي قصائد سميح القاسم، واستخدامها في إشعال الطريق بينهما، والقصيدة عنوانها :"إليك هناك في بيروت"، وزعم الزاعمون أن سميحا يهاجم درويش لأنه غادر المكان الحقيقي للنضال، وذهب حيث التنعم والراحة والخلاص الفردي، ويقول سميح في القصيدة: "رسالتك التي اجتازت إليّ الليل والأسلاك رسالتك التي حطت علي بابي جناح ملاك أتعلم؟ حين فضتها يداي تنفضت أشواك علي وجهي وفي قلبي أخي الغالي إليك هناك..حيث تموت كزنبقة بلاجذر كنهر ضيّع المنبع كأغنية بلا مطلع كعاصفة بلا عمر إليك هناك حيث تموت كالشمس الخريفية بأكفان حريرية..." وقد نسي الذين استخدموا هذه القصيدة، أنها كانت منشورة في ديوانه "دمي علي كفي"، الذي صدر عام 1967، حيث لم تكن الخلافات قد حدثت بعد، ولكن نجح الساعون إلي الوقيعة في تأجيج الخلافات مما دعا درويش لكتابة مقال يهين فيه رفيقه، ويعايره لأنه دخل الجيش الاسرائيلي، وظل هناك حيث أجبرته السلطات الاسرائيلية علي خدمة جنودها، وكان هذا نتيجة رفض سميح الانخراط في صفوف الجيش الاسرائيلي، ورفض أن يقاتل في جيش أعدائه، وبناء علي ذلك حبسته السلطات طوال المدة المفروضة عليه في التجنيد، واختار أن يكون محبوسا في جيش الصهاينة، بدلا عن أن يقاتل معهم ضد أهله وشعبه وناسه، وعندما احتدمت الخلافات، تدخل الناقد رجاء النقاش وكتب مقالة علي هيئة رسالة في مجلة الطليعة القاهرية في ديسمبر 1974، واستفاض النقاش في شرح تفاصيل القضية الواحدة التي تربط الشاعرين، وتربطهم كذلك ببقية الشعراء والكتّاب العرب، وسعي مجددا بعد ذلك في التواصل مع درويش لإسكات صوت الغضب، وبالفعل توقفت التراشقات بين الشاعرين الكبيرين، اللذين عادا كما كانا، وعندما أنشأ محمود درويش مجلة الكرمل في باريس كان حريصا علي نشر نصوص لرفيقه سميح القاسم، كما تبادلا أجمل الرسائل علي صفحات مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس، وكان يرأس تحريرها الصحفي بلال الحسن، ورحل محمود درويش منذ سنوات ليرثيه سميح رثاء مريرا، وهاهو سميح يلحق برفيقه وابن وطنه وشقيقه الشعري الكبير، رحل الاثنان بينما جرت مياه عكرة في قنوات القضية الوطنية، وقد ظلا واقفين طيلة حياتهما للدفاع عنها، مات درويش في الخمسة والستين من عمره، ورحل سميح في الخامسة والسبعين، بعد أن أمطرا العالم بقصائد وحكايات ومواقف، ولسميح تعدد كتابي، فقد كتب الشعر والمسرح والمقال الصحفي والنقدي، أمطرا العالم بأحلامهما وآمالهما، لكن حال العالم كله بشرّه الوحشي أن تتحقق أي أمنية قد حلما بها، العالم يتراجع تماما أمام أحلام الشاعرين الكبيرين، وربما يتسع المستقبل لتحقيق بعض أحلامهما الانسانية المفتوحة.